الحرية
بين الوعي واللاوعي
بقلم: محمد الشبة
لقد بذل الفلاسفة جهودا كبيرة من أجل الوصول إلى فهم صحيح للغز الذات الإنسانية ومحاولة فهم أعماقها السحيقة، فقد جعلوا من الإنسان موضوعهم الأساسي، وكرسوا له جهودهم وتفكيرهم، ودرسوه في مختلف أبعاده الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والميتافيزيقية، وقدموا له تعريفات عديدة تلامسه من مختلف الجوانب. وهكذا فقد اعتبروا أن الإنسان ذات عاقلة وواعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة أمام نفسها وأمام القانون والمجتمع من جهة أخرى. وقد ركز الفلاسفة القدامى بوجه خاص في محاولتهم لتحديد ماهية الإنسان على جانب الفكر والوعي بالدرجة الأولى، لأنهما يشكلان جوهر الشخص، وما به يكون الإنسان شخصا. وإذا كان معظم هؤلاء الفلاسفة قد ربطوا بين أفعال الإنسان ووعيه، وجعلوا هذه الأفعال خاضعة لسيطرة الوعي، فإن علماء وفلاسفة آخرين، معاصرين على وجه الخصوص، اعتبروا أن الإنسان لا يقوم دائما بأفعاله انطلاقا من وعيه، وأنها قد تصدر عن أسباب خفية يجهلها ولا يعي منشأها. من هنا وجد الفلاسفة أنفسهم أمام مشكلة حرية الشخص في علاقتها بوعيه من جهة وانفعالاته العاطفية والغريزية من جهة أخرى.
وحينما نتحدث عن الوعي فإننا نكون أمام أغرب
ظاهرة في هذا الكون، إنها ظاهرة التفكير والإحساس لدى الإنسان كظاهرة تتداخل في
تشكيلها عدة أبعاد ومحددات؛ ذاتية وموضوعية، فردية ومجتمعية، سطحية وباطنية، عضوية
وروحية. فالوعي هو إدراك الذات لنفسها وللعالم المحيط بها، وقد يتم هذا الإدراك
بشكل عفوي ومباشر، وهو ذلك الإدراك المصاحب لمعظم أفعالنا اليومية، كما قد يكون
إدراكا تأمليا غير مباشر، يتم بتوسط عمليات ذهنية وفكرية عالية وقوية كالفهم والتأمل والتحليل والتركيب والاستنتاج
وغير ذلك.
ويمكن القول بأنني أكون حرا حينما أكون واعيا
بأي فعل يصدر عني، بحيث يمكن اعتبار الوعي هنا هو تلك القدرة على التحكم في الفعل
وإحداثه انطلاقا من قرارات صادرة عن الذات. وإذا كانت هذه القرارات نابعة من الذات
وغير صادرة عن أي ضغوطات داخلية أو خارجية، فإنه يمكن القول في هذه الحالة أنني حر
وأتصرف بحرية، ما دام أن الحرية هي القيام بالفعل أو الإحجام عنه، أو فعله وفعل نقيضه
دون أي إكراهات. ومن هنا نلمس تلك العلاقة القوية بين الوعي والحرية؛ إذ في غياب
وعي الشخص بما يقوله أو يفعله أو يحس به، فإنه لا يكون يتصرف بتمام حريته وإرادته.
فحينما أمارس مختلف أنشطتي اليومية، من أكل وشرب ومشي وطبخ وغسل وسياقة وكتابة
وغير ذلك، ويكون وعيي حاضرا ومنتبها إلى ما أقوم به، فإنني أحس ولا شك بأنني أملك
قسطا كبيرا من القدرة على الفعل والتصرف والاختيار، والتي تدل على تمتعي بالحرية
كشخص واع وممتلك للإرادة والقدرة على اتخاذ القرار.
لكن هل حضور الوعي لدى الشخص،
وأثناء قيامه بمختلف الأنشطة اليومية، يدل على حريته؟ ألا يمكن أن أقوم بفعل ما
تحت سلطة الإكراه، ومع ذلك أكون مدركا له وواعيا به؟ ربما أن إثارة مثل هذا
الإشكال تجعلنا مطالبين بفحص العلاقة بين الوعي والحرية بمزيد من العمق والدقة،
وبالنظر إلى مختلف السلوكات التي تصدر عنا في الحياة اليومية. فإذا كان صحيح أنني
أكتب الآن بتمام وعيي ورغبتي الذاتية، ومن أجل تحقيق غايات بعينها أسعى إلى بلوغها
من خلال فعل الكتابة، فإن هذا يعني أنني حر وأمتلك القدرة على التحكم ورسم أهداف
لفعل الكتابة الذي أنجزه. لكن يمكن لنفس فعل الكتابة أن يدل على غياب الحرية أو
ضعفها على الأقل لدى الذات، وذلك حينما أكتب مثلا تحت ضغط إكراهات إدارية أو
مهنية، أو أضطر لتوقيع وثائق دون إرادة مني أحيانا، أو أدون خواطر أدبية أو قصائد
شعرية تحت تأثير دوافع لاشعورية أو انفعالات غريزية. وهنا يمكن أن نلاحظ أنه قد
يحدث أن يكون فعل الكتابة، أو أي فعل من الأفعال اليومية الأخرى، واقعا تحت مؤثرين
اثنين أحدهما خارجي يدل على إكراه يمارس على الذات من طرف قوة متعالية عنها قد
تكون فردا أو مؤسسة أو مجتمعا، والآخر باطني صادر عن دوافع توجد بداخل الذات، وهي
دوافع تتكون في معظمها من مكبوتات وميولات غريزية هي التي تكون ما يسمى عادة
باللاوعي. وحينما يحضر هذين المؤثرين، أو أحدهما، فإننا نكون أمام غياب كلي أو
جزئي للحرية لدى الشخص.
وهذا يجعلنا نستنتج أن هناك
علاقة عكسية ومطردة بين الحرية من جهة، وبين الوعي واللاوعي من جهة أخرى؛ بحيث
تحضر الحرية أو تتقوى مع حضور الوعي وتغيب أو تضعف مع غيابه، وحينما يغيب الوعي
فإنه بدون شك يترك المجال واسعا لحضور اللاوعي ولظهور تأثيراته الباطنية على
السلوك الخارجي للفرد.
وقد يرى البعض أن معظم
أفعالنا الصادرة عنا في الحياة اليومية هي أفعال واعية، وأن الأفعال اللاواعية لا
تصدر عنا إلا في أحايين قليلة، إذ لا نغضب ولا ننتقم ولا نفزع ولا نبلغ حالة السكر
الشديد إلا في أوقات معينة بينما نتصرف بخلاف ذلك في معظم الأوقات، ولكن هذا لا
يقر به فيلسوف كاسبينوزا حينما يرى أننا نجهل الأسباب الخفية التي تتحكم في
سلوكاتنا، وذلك على الرغم من أننا نكون واعين بها أحيانا، كما لا يوافق عليه محللا
نفسيا وفيلسوفا كسيغموند فرويد حينما يذهب إلى أن الأجزاء الكبيرة من ذاتنا ومن
جهازنا النفسي يحتلها اللاوعي، وأن الوعي لا يمثل سوى جزءا ضئيلا من هذا الجهاز
النفسي. وإذا كان اللاوعي يتكون من مكبوتات ترسبت مع مرور الزمن ومن دوافع غريزية
وباطنية، فإن الشخص ولا شك يخضع في الكثير من إبداعاته وأقواله وإنجازاته لتلك
المحددات اللاواعية، مما يجعل حريته في مهب الريح، ويجعل التغني بها مجرد اعتقاد
ووهم.
وإذا كان البعد الغريزي
والانفعالي لدى الشخص يؤثر سلبا على حريته، ويجعله في كثير من الأحيان يقع في مآزق
وإحراجات هو في غنى عنها، فإنه يبدو أنه ما من سبيل من أجل تحصين الحرية وتجنب
الوقوع في المآزق والإحراجات سوى المراهنة على الوعي، والعمل على تغليب حضوره
وتأثيره في كل ما يصدر عن الشخص من أقوال وأفعال مختلفة. ولن نكون أحرارا حسب
الفيلسوف المسلم ابن باجة إلا إذا جعلنا القوة العاقلة أو الناطقة تسيطر على القوة
البهيمية أو الغريزية فينا؛ إذ أن درجة حرية وإنسانية الفعل تقاس بمدى قوة حضور
العقل فيه. وهكذا فقد دعا الكثير من الفلاسفة، بتأثير من التقسيم الأفلاطوني للنفس
البشرية إلى قوة ناطقة وقوة غضبية وقوة شهوانية، إلى ضرورة جعل القوة الناطقة
والعاقلة تسيطر وتوجه عمل القوتين الغضبية الانفعالية والشهوانية الغريزية، وذلك
حتى تأتي أفعال الإنسان مطابقة لمقتضيات العقل المنطقية أو الأخلاقية. وستقاس حرية
الشخص في هذه الحالة بمدى مطابقتها لهذه المقتضيات العقلية والتزامها بها.
وإذا كان الإنسان كائنا
اجتماعيا، ويعيش مع الآخرين من خلال قواعد وقوانين تحدد طبيعة العلاقات المختلفة
القائمة بينه وبينهم، فإن هذا البعد الاجتماعي والعلائقي يحتم عليه الوعي بكل ما
يحيط به من ظواهر وسلوكات اجتماعية، والعمل على اتخاذ قرارات واعية وحرة تجاهها.
وبالرغم مما قد تمارسه الأفكار والقوانين الاجتماعية على الفرد من ضغوطات
وإكراهات، نظرا لما تتصف به من طابع خارجي وقسري كما يرى عالم الاجتماع الفرنسي
إميل دوركايم، فإن وعي الشخص بها والتزامه باحترامها، لما تجلب له ولجماعته من خير
ومنفعة، من شأنه أن يجعله يحس بتمام حريته واختياره لما هو حق وخير وجميل. وإذا
كانت تلك الأفكار والقوانين الاجتماعية تمثل ما يمكن تسميته بالوعي الجمعي، الذي
يتجسد في العادات والتقاليد والأعراف والنظم الإدارية والسياسية وغيرها، فإن من
شأن هذا الوعي أن يجسد حرية الشخص واحترامه لما اختاره وتعاقد عليه من مبادئ
وقواعد مع باقي أفراد جماعته. ولهذا السبب، فإن حرية الشخص لا تكمن في اتباعه
للأهواء والانفعالات الغريزية التي قد يصيب بفعله لها أذى بالغير أو يلحق من
خلالها أضرارا بالمجتمع، مثلما يحدث ذلك أثناء ارتكاب أفعال القتل والزنا والسرقة
والظلم وغير ذلك، بل إن حريته تتجلى في
تجسيده لمقتضيات الوعي الاجتماعي الذي ساهم مع باقي الأفراد في تشكيله وبلورته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.