في الوعي
بقلم: محمد
الشبة
يعتبر الوعي خاصية تميز الكائن البشري عن غيره من
الحيوانات وأشياء الطبيعة. ويمكن القول باختصار بأن الوعي هو مجموع التمثلات
والأفكار التي يحملها الإنسان حول ذاته وحول العالم المحيط به. وكما يرى هيجل فإن الإنسان كائن مزدوج
الوجود؛ فهو يوجد وجودا طبيعيا من جهة، شأنه شأن باقي الحيوانات وأشياء الطبيعة،
ووجودا من أجل ذاته، وهو الوجود الواعي الذي يمكن الإنسان من تأمل ذاته والتساؤل
حول العالم المحيط به. ويتخذ الوعي لدى الإنسان صورتين رئيسيتين؛ صورة نظرية تتمثل
في الإبداعات العقلية التأملية النظرية، وصورة عملية تتمثل في أشكال التغيير التي
يرسمها الإنسان في العالم وفي ذاته عن طريق ما يقوم به من أنشطة عملية.
ونميز عموما بين عدة أنواع من الوعي؛ كالوعي الأخلاقي،
والوعي السيكولوجي، والوعي المعرفي، والوعي السياسي… فالأول يدل على مجموع المبادئ والقيم
الأخلاقية التي يؤمن بها الإنسان ويحملها في ذاته ويتخذها موجها له في سلوكاته
تجاه الآخرين، بينما يدل الثاني على مجموع الخبرات السيكولوجية التي يحملها
الإنسان في جهازه النفسي والتي تنمو وتتطور مع الزمن، أما الثالث فيشير إلى أفكار
وقواعد تتعلق بهذا الحقل الفكري أو ذاك...
ويصاحب
الوعي كل أفعال الإنسان وأفكاره، وهذا ما يسمى بالوعي التلقائي. كما يرتبط الوعي
بالشعور وبمجموع الأحاسيس التي تجري داخل الذات، وهذا ما يسمى بالوعي السيكولوجي.
كما أن الوعي يتمظهر على مستوى الحياة العملية، فنتحدث عن وعي أخلاقي أو وعي سياسي
مثلا. فللوعي عدة أشكال ومظاهر، غير أن الدراسات الفلسفية والنفسية وضعت الوعي
موضع استشكال ونقد، واعتبرته غطاءا خارجيا لا يمثل سوى سطح الذات أو الجهاز
النفسي، بينما يمثل اللاوعي الجزء العميق من الذات.
وقد ذهب أب
الفلسفة الحديثة روني ديكارت إلى
اعتبار أن الوعي حقيقة بديهية تدرك عن طريق الحدس العقلي، بحيث لا يرقى إليه الشك
أبدا. كما اعتبره خاصية أساسية وثابتة
تميز الأنا كجوهر مفكر. فأنا أشك – يقول ديكارت- ، وما دام الشك نوعا من التفكير،
فأنا أفكر. وإذا كنت أفكر، فأنا موجود. هكذا صاغ ديكارت ما أصبح يعرف بالكوجيطو
الديكارتي: أنا أفكر، فأنا موجود.
وقد تساءل
ديكارت: " أي شيء أنا...؟" وأجاب: أنا شيء مفكر. ثم أعقب ذلك
بالتساؤل:"ما الشيء المفكر؟"، وأجاب: إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت
وينفي ... فللأنا المفكر خصائص مثل الشك
والتصور والتخيل والإحساس، وهذه الخصائص لا تنفصل عنه. كما يتميز الأنا المفكر
بالوحدة والثبات؛ فبالرغم من أنه تصدر عنه عدة أفعال، فإنه يظل هو هو وفي تطابق مع
نفسه. وإذا كان الأنا يفكر فهو موجود. وهذا الوجود هو وجود يقيني لا يرقى إليه
الشك. فأنا موجود حتى في حالة النوم، وحتى في افتراض أن هناك قوة عليا تحاول أن
تخدعني أو تضللني.
وبخلاف ذلك، أكد الفيلسوف التجريبي دفيد هيوم أنه لا يمكن للأنا أن يعي ذاته ويشعر بها
من دون عملية إدراكية حسية. وبزوال الإدراك الحسي يزول الوعي بالذات، ولا يعود
الأنا موجودا. فلا يمكن أن يحصل الوعي بالذات إلا من خلال الإدراك الحسي. بحيث
يعتبر هذا الأخير شرطا أساسيا لوعي الأنا بذاته، وحيث أن الإدراك الحسي يزول بزوال
الموت، فإنه يزول معه الوعي، فلا يعود الأنا موجودا، أي يغدو عدما خالصا.
أما الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط فقد
رأى أن الإنسان
يتميز عن الحيوانات والأشياء بقدرته على تصور ذاته ووعيه بها، وهو ما يجعله كائنا
حرا، مسؤولا وذا كرامة لا تقدر بثمن. ويرتبط الوعي بالذات لدى الإنسان بالنطق بلفظ
أنا، أو على الأقل امتلاك تصور عنها. فلا يمكن الوعي بالذات إلا من خلال النطق
بلفظ أنا، أو على الأقل امتلاك مدلول عنها؛ فحينما يبدأ الطفل بالنطق بلفظ أنا،
فإنه ينتقل من الإحساس الحسي المباشر بذاته ليرتقي إلى مستوى التفكير فيها والوعي
بها. والوعي بالذات هو الذي يمنحها هويتها، أي يكسبها وحدتها وتميزها عن باقي
الأشياء والكائنات.
وقد قارن كانط بين الإنسان من جهة، والحيوانات والأشياء من جهة أخرى. وذلك
من أجل إثبات أن الإنسان يتميز عنها بالخصائص الرئيسية التالية: العقل، الوعي،
الحرية، المسؤولية والكرامة.
كما قدم ثلاثة
أمثلة؛ يتعلق أولهما بذلك الإنسان غير القادر على النطق بالأنا، مثل الأبكم مثلا،
نظرا لوجود مشكل في أعضاء النطق. وقد أراد أن يبين أنه بالرغم من ذلك، فإنه تظل لهذا
الإنسان القدرة على امتلاك تصور لأناه، مما يؤهله لكي يكون كائنا واعيا. ويتعلق
ثانيهما بمثال اللغات التي قد لا تتوفر على صيغة تعبيرية عن ضمير المتكلم
أنا، لكنها مع ذلك تكون مضطرة إلى أن
تتوفر على مدلول أو تصور أو فكرة عنه. أما المثال الثالث، فيتمثل في ذلك الطفل
الذي لا يكون في بداية تعلمه للغة قادرا على الإشارة إلى نفسه بلفظ أنا، وحينما
يبدأ بالنطق به فإنه ينتقل من مستوى الإحساس الحسي الغريزي إلى مستوى التفكير
والوعي بالذات.
ومن منظور علمي، رفض العالم
البيولوجي المعاصر شونجو
أن يكون الوعي موضوعا للدراسات اللاهوتية والأدبية، بل يجب تفسيره وإخضاعه للتجارب
العلمية الدقيقة. ورأى أن كل نشاط عقلي هوعبارة عن نشاط عصبي؛ فالحواس تتعرض إلي
منبهات خارجية و تقوم بإرسالها إلى الجهاز العصبي الذي تقوم خلاياه، وبكيفية
معقدة، بإحداث نشاط عقلي هو الذي يعبر عنه بما يسمى بالوعي .
وهكذا قدم لنا شونجو
تفسيرا ماديا فزيولوجيا لمسألة الوعي، والذي يلعب الإدراك الحسي دورا كبيرا
في إنتاجه. فالوعي هو نشاط عقلي مرتبط بخلايا الجهاز العصبي للدماغ ولا يمكن تصوره
بدونه.
كما أن النشاط
العقلي هو نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا؛ أي
أنه مرتبط بوظائف خلايا الجهاز العصبي .
أما الفيلسوف الإنجليزي برتراند
راسل (1872-1970)، فقد اعتبر أن الوعي هو مجموع ردود أفعال الإنسان
تجاه مثيرات الوسط الخارجي، و معرفته بهذه
الردود في نفس الوقت. لكن مع ذلك يعترف راسل بالغموض الذي يتخلل لفظ الوعي و
صعوبة تحديده بدقة.
فالوعي عند راسل هو
عبارة عن ردود أفعال الإنسان تجاه الوسط الذي يعيش فيه. كما أنه يشير أيضا إلى
نوعية الأفكار والعواطف التي نكونها عن أشياء العالم الخارجي. ويلعب الإدراك الحسي
دورا أساسيا في تشكيل هذا الوعي، باعتبار أن الإدراك
الحسي هو تكوين معرفة بأشياء العالم
الخارجي عن طريق عملية التلقي التي تتم بواسطة الحواس من جهة، و عملية التأويل
التي يقوم بها العقل من جهة أخرى. كما يتمظهر الوعي من ناحية أخرى من خلال عملية
الاستبطان، الذي هو نوع من التأمل الباطني في
الذات من أجل إدراك ما تحمله من ذكريات وأفكار ومشاعر وخبرات سيكولوجية
مختلفة.
وإذا تبين أن
للحواس دور أساسي في تكون مختلف أشكال الوعي لدى الإنسان، فما هي العلاقة الموجودة
بين الوعي والوجود الاجتماعي؟ ومن منهما يحدد الآخر؟
في إطار معالجة
هذا الإشكال، رفض كارل ماركس أن يكون الوعي هو
الذي يحدد الوجود الاجتماعي، ورأى على العكس من ذلك بأن مختلف أشكال الوعي، من
أفكار وأخلاق وتصورات وإيديولوجيا وثقافة روحية، هي انعكاسات للحياة العملية
والمادية. فالوعي هو مجموع من الأفكار والتصورات العقلية، وكذا الخبرات
السيكولوجية التي تجري في الذات، والتي هي نتاج للعلاقات المادية والاجتماعية.
وبذلك، فليس وعي
الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم.
وهنا يفند ماركس الأطروحة المثالية التي يعتبر الفيلسوف الألماني هيجل من أبرز
ممثليها، والتي تقول بأن الفكر هو الذي يحدد الواقع، وبأن الحياة الاجتماعية نتاج
للوعي. وخلافا لهذا يرى ماركس بأن مختلف أشكال الوعي هي انعكاس لما يجري على مستوى
الواقع من علاقات اجتماعية ومادية.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.