الجمعة، 4 سبتمبر 2020

الحرية

 


الحرية

 

تقديم:

 يطرح إشكال الحرية في مجال التفكير الفلسفي على عدة مستويات: اجتماعية ونفسية وتاريخية وأخلاقية وسياسية وميتافيزيقية وغيرها. ولذلك نجد هذا الإشكال مبثوثا في مجموعة من الدروس السابقة؛ فهو مطروح في مفهوم الشخص ضمن إشكال الشخص بين الضرورة والحرية، كما نجده في مفهوم التاريخ ضمن إشكال دور الإنسان في صنع التاريخ، ونجده أيضا حاضرا في درس الواجب من خلال إشكال الواجب والإكراه ...

 ولهذا إذا أردنا معالجة إشكال الحرية وجب استحضار كل هذه الأبعاد والمستويات. وسوف نقتصر في هذا الدرس على تناول إشكال الحرية من خلال بعدين رئيسيين هما: البعد الميتافيزيقي والبعد السياسي. ذلك أن باقي الأبعاد تم تناولها في الدروس السابقة.

  والمقصود بالبعد الميتافيزيقي، هو تناول الحرية في علاقتها بالإرادة التي يمتلكها الإنسان، و ذلك بشكل مجرد ودون النظر إلى علاقة هذا الإنسان بالمجتمع والآخرين. هكذا يثير هذا البعد الميتافيزيقي علاقة مفهوم الحرية بمفهومين رئيسيين هما الحتمية والإرادة؛ فهل يمتلك الإنسان إرادة حرة وقدرة على الاختيار أم أنه خاضع لحتميات؟ وهل الحرية هي تجاوز للحتمية أم وعي بها وعمل وفقا لشروطها ؟ وما هي إذن حدود الإرادة الحرة لدى الإنسان ؟

 أما البعد السياسي للحرية، فيتمثل في علاقتها بالقانون. فمنذ أن خرج الإنسان من حالة الطبيعة وهو يتعايش مع غيره من الناس داخل تجمعات بشرية أو دول تحكمها قوانين قضائية أو سياسية أو عرفية... ولهذا يتم التساؤل: هل هناك تعارض بين الحرية والقانون ؟ هل الخضوع للقوانين يتنافى مع الحرية ؟ وهل يمكن تصور حرية خارج إطار القوانين ؟ ومتى تصبح قوانين الدولة منسجمة مع حرية الأفراد ؟ ومتى تتعارض معها ؟

 

المحور الأول:  الحرية بين الحتمية و الإرادة.

·         طرح الإشكال:

يمكن القول، انطلاقا من المعجم الفلسفي لجميل صليبا، بأن « الحرية خاصة الموجود الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته... وإذا كانت الحرية مضادة للحتمية دلت على حرية الاختيار، وهي القول إن فعل الإنسان متولد من إرادته».

هكذا نجد الحرية مضادة للحتمية ومرادفة للإرادة وحرية الاختيار. وهي بذلك تدل على قدرة الكائن على التصرف من غير قيود أو حواجز، أو تدل على قدرته على الاختيار بين الشيء وضده دون تدخل أي عامل قاهر.

 أما الحتمية فهي « القول إن كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة مقيدة بشروط توجب حدوثها اضطرارا ... أو هي القول بوجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة، توجب أن تكون كل ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتقدمها أو يصحبها من الظواهر الأخرى ». وفي معناها الفلسفي تعتبر الحتمية «  مذهب من يرى أن جميع حوادث العالم، وبخاصة أفعال الإنسان، مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا محكما ... ».

 انطلاقا من هذه الدلالات يمكن أن نتساءل: إذا كانت الظواهر الطبيعية خاضعة لأسباب حتمية، ألا يمكن القول بأن أفعال الإنسان هي الأخرى خاضعة لمثل هذه الحتميات ؟ وأين يمكن أن تتجلى هذه الحتميات ؟ وإذا كان الإنسان يتميز عن الظواهر الطبيعية باعتباره كائنا واعيا وعاقلا ويمتلك الإرادة، ألا يمكن القول في مثل هذه الحالة أنه يمتلك القدرة على التغلب على تلك الحتميات والتصرف وفق ما يريده ويختاره ؟ فهل الحرية إذن هي تجاوز للحتمية أم هي مجرد وعي بها وتصرف وفق ضوابطها وإشراطاتها ؟

1-     القول بالإرادة الحرة للإنسان:

 يحس الإنسان أنه كائن متميز داخل هذا الكون؛ ففي الوقت الذي نجد الحيوانات وأشياء الطبيعة محكومة بحتميات وضرورات طبيعية وغريزية تنتفي معها كل إمكانية لنسبة أية حرية لها، فإننا نجد لدى الإنسان جانبا طبيعيا وغريزيا يشترك فيه مع الموجودات الطبيعية، مما يسمح بالقول أنه خاضع مثلها لحتميات طبيعية، لكننا نجد لديه جانبا آخرا يتميز فيه عنها وهو الجانب العقلي والواعي، الذي يسمح بالقول بأن الإنسان يمتلك إرادة وقدرة على الاختيار بين عدة إمكانيات متاحة. ونحن نجد مثل هذه الإرادة الحرة متجلية في تاريخ الإنسان وفي أنماط العيش لديه؛ إذ كيف نفسر التطور والتعدد والتنوع في أنماط العيش لدى الإنسان إذا لم نرجعها إلى تعدد الإرادات والحريات لدى هذا الفرد أو ذاك، أو هذا المجتمع أو ذاك، وهذا بخلاف أنماط العيش الثابتة في العالم الطبيعي والحيواني، والتي تدل طبعا على انتفاء الحرية لدى أشياء الطبيعة والحيوانات بشكل تام.

  وبالرغم من وجود حتميات طبيعية وغريزية تشرط الكائن البشري، إلا أنه مع ذلك يمتلك نوعا من الحرية والقدرة على المقاومة والتصرف في تلك الحتميات؛ فهو وإن كان ملزما مثلا أن يأكل بالضرورة، إلا أنه مع ذلك يمتلك الحرية لكي يأكل في أي زمن أو مكان شاء، ويطبخ أنواعا شتى من الأطعمة !! ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لمظاهر العيش الأخرى، من مشرب وملبس ومسكن ولغة وإبداعات فنية وفكرية وغيرها.

 وفي هذا السياق، ذهب ديكارت إلى أنه قد وجد في نفسه إرادة حرة واسعة وقدرة على الاختيار قوية، مما جعله يحكم أنه "على صورة الله ومثاله" !!

 والإرادة عند ديكارت تتمثل في قدرة الأنا على فعل الشيء أو عدم فعله، في الإقبال عليه أو الإحجام عنه دون الإحساس بأي ضغط خارجي. إن الشك والإثبات أو النفي هي أفعال تعبر فعلا عن الإرادة الحرة للذات، التي تمتلك القدرة على الاختيار بين الطرفين المتعارضين. وقد يكون ميلي إلى أحد الطرفين بسبب بداهته بالنسبة لذهني أو بسبب ميل أحدثه الله في فكري. وهذا الميل الطبيعي أو الإلهي لا ينتقصان من حريتي بل يقويانها؛ ذلك أن أحط درجات الحرية هو أن لا أجد في نفسي القدرة على الترجيح أو الاختيار بين الأشياء. كما أن وقوعي في الخطأ هو دليل آخر على حريتي، لأن الخطأ ناتج عن تجاوز الإرادة لنطاق التصور الذهني؛ أي أن الإرادة قد تطال أشياء لا أحيط بها علما ولا يستطيع إدراكها ذهني، وهو بذلك يخطئ حينما يريد أن يصدر حولها حكما.

وقدرة الإرادة هي قدرة لا متناهية وكاملة في نوعها، إذ أمتلك كل الحرية في أن أريد الشيء أو لا أريده.

هكذا يبدو أن ديكارت تقوقع في نطاق ذاته المفكرة، باعتبارها ذاتا تمتلك الإرادة الحرة على ممارسة أفعال التفكير المختلفة، لكنه لم ينتبه للأسباب والدوافع التي من شأنها أن تتحكم في أفعال التفكير أو تحد منها، سواء تعلق الأمر بالدوافع الغريزية اللاواعية أو الأسباب الطبيعية الخارجية. وهو ما ستؤكد عليه بعض الأطروحات الفلسفية التي ستضع حرية الإنسان في نطاق مجموعة من الحتميات التي لا يمكن تجاوزها.

2- حرية الإنسان مشروطة بحتميات طبيعية:

وفي هذا السياق تندرج الأطروحة الفلسفية لابن رشد، التي يذهب من خلالها إلى أن حرية الإنسان لا تكون ممكنة إلا بمواتاة أو موافقة الأسباب الطبيعية الخارجية، التي تتحكم فيها قوانين حتمية وضعها الله فيها أصلا. وبذلك، فامتلاك الإنسان لإرادة حرة ولقدرة على الاختيار بين الأضداد هو أمر لا شك فيه، لكن ذلك لا يتم بشكل مطلق وفي غياب أي حواجز، بل هو مرتهن عند ابن رشد بسببين رئيسيين؛ يعود أحدهما إلى القوانين الحتمية للطبيعة الخارجية، ويعود الآخر إلى قوانين البدن البيولوجية. وبذلك نجد ابن رشد يقول بنوع من الحرية النسبية التي تتأرجح بين قدرة الإنسان الأصلية على الاختيار من جهة، وبين الحواجز التي تقف أمامها من جهة أخرى، سواء تعلق الأمر بحواجز طبيعة الكون الخارجية أو بطبيعة بدنه الداخلية.

هكذا تكون إرادة الإنسان مرتبطة بأسباب حتمية خارجية، تجعلها تجري على نظام محدود، كأن يعرض أمامنا أمر مشتهى من خارج فنشتهيه بالضرورة من غير اختيار، أو نفاجأ بأمر مهروب عنه من خارج فنضطر للهروب منه.

وفي نفس السياق اعتبر اسبينوزا أن «أي شيء كيفما كان لا بد وأنه محدد بعلة خارجية تتحكم في وجوده وفي فعله». ولذلك فالحرية التي يتفاخر بها البعض هي مجرد وهم ناتج عن الجهل بالأسباب الخفية المتحكمة فينا. فنحن وإن كنا على وعي بأفعالنا، فنحن مع ذلك نجهل الأسباب التي تحركنا بالرغم منا. فميل الطفل إلى ثدي أمه، أو الأفعال التي تصدر عن شاب في حالة الغضب الشديد، أو رغبة الجبان في الهرب، أو الكلام الذي يصدر عن الثرثار أو عن المصاب بالهذيان ... كل هذه الأفعال وغيرها يسوقها اسبينوزا لكي يثبت أنه بالرغم من أننا نعتقد أنها نابعة من إرادتنا الحرة، لكنها في واقع الأمر ناتجة عن الإكراه الذي تمارسه علينا دوافع خفية نجهل مصدرها.

 وقد ذهب اسبينوزا إلى أن كل كائن يمتلك طبيعة تحتم عليه أن يتصرف وفقا للحدود التي تتيحها له قوانينها. وهذا ينطبق على الإنسان كما ينطبق على الحيوان غير العاقل والنبات ... بل على الله أيضا!! ولذلك فحرية الإنسان محكومة بطبيعته ككائن عاقل له رغبات ودوافع غريزية. وما يمكن للكائن البشري فعله هو الوعي بالدوافع والحتميات التي تشرطه، والعمل على تطويقها ومحاولة التحكم فيها وترتيبها وفقا لمقتضيات طبيعته العاقلة.

المحور الثاني: الحرية والقانون.

·         طرح الإشكال:

إن معالجة الفلاسفة لإشكال الحرية في بعدها الميتافيزيقي، جعلهم حسب حنا أراندت يخطئون في تناولها تناولا صحيحا وعميقا؛ ذلك أن مشكلة الحرية هي مشكلة سياسية قبل كل شيء، فلا يمكن أن نختبر إحراجاتها ونقف عند رهاناتها على مستوى الفكر الخالص أو في إطار علاقة الذات مع نفسها!! بل لا بد من طرحها في مجالها الأصلي الذي هو مجال التجربة السياسية، كمجال تتجسد من خلاله أفعال الإنسان العملية في علاقته بغيره من الناس. وفي هذا المجال قد يحدث صدام بين حريات الأفراد، مما يحتم وضع قوانين تمكن من تعايش هذه الحريات بشكل منسجم ومتناغم. فكيف يستقيم الحديث عن حرية الفرد في علاقته بالقوانين التي تحكم علاقته بالآخرين ؟ هل يمكن للقانون أن يشكل حماية للحرية ويوفر لها فرصة البروز والانتعاش أم أنه قد يشكل خطرا عليها أو على الأقل يضيق من نطاقها ؟ كيف إذن يمكن تحديد العلاقة الممكنة بين الحرية والقانون ؟ أهي علاقة توافق أم تعارض ؟

1-     القانون كضامن للحرية ومجسد لها.

حينما خرج الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع، فإنه انتقل بذلك من حالة الحرية الطبيعية المطلقة، والتي أدت إلى الصراع والفوضى والتصادم، إلى الحرية القانونية والسياسية التي تريد أن تتجاوز سلبيات الحرية الأولى وتنتج حرية إنسانية ترتكز على قوانين متعاقد عليها، وتسمح بتعايش الجميع في إطار من الانسجام والاعتراف المتبادل. وقد بين روسو أنه لا وجود لحرية من دون قوانين؛ فحتى في حالة الطبيعة فالإنسان يخضع للقانون الطبيعي، أما في حالة الدولة فإن خضوع الفرد للقانون لا يعني خضوعا لأي أحد، بل هو تعبير حقيقي عن الحرية. ومن هنا يبدو أن الحرية لا تكمن في الخضوع للأهواء أو الانسياق وراء الميولات الحسية، بل هي تكمن في الامتثال للقوانين التي شرعناها لأنفسنا في إطار من التعاقد الاجتماعي الذي يعبر عن الإرادة الحرة للجميع.

وفي نفس السياق، اعتبر بنيامين كونستان أن الحرية «هي الحق في ألا يخضع الفرد إلا للقوانين» التي يتمتع خلالها بحقوقه المشروعة، المتمثلة في التعبير عن رأيه والتمتع بملكيته واختيار عقيدته وإبراز مواهبه ومؤهلاته... والمساهمة في تدبير شؤون الحكم بطريقة من الطرق. وكل هذا يجعل الحرية بمعناها في المجتمعات الحديثة تختلف عن الحرية كما كانت عليه في القديم. كما ذهب مونتسكيو إلى القول بأن «الحرية هي حق فعل كل ما تبيحه القوانين». ولذلك سيفقد الفرد حريته إذا ما تصرف بخلاف القوانين، مادام أنه سيتيح للآخرين إمكانية القيام بنفس الفعل، وبالتالي ستنقلب الحرية إلى فوضى مدمرة. وهذا ما جعل مونتيسكيو ينتهي إلى القول بأن «الحرية تحتاج إلى حدود»، هي حدود القوانين طبعا.

 لكن هل قوانين كل الدول، سواء في العصر القديم أو في العصر الحالي، تمكن من تحقيق الحرية ؟ ألا يمكن أن نجد بعض الدول تستغل القوانين من أجل هضم حريات الأفراد وتحقيق مصالحها الخاصة ؟ في أية حالة إذن يصبح القانون متعارضا مع الحرية ؟

2-     القانون كأداة لإلغاء الحرية:

لقد تبين إذن أن الحرية بمعناها البشري الحقيقي لا يمكن أن تتم في حالة الطبيعة، بعيدا عن القوانين التي تحكم العلاقات بين أفراد الجماعة البشرية. ولهذا اعتبر فلاسفة العقد الاجتماعي، أمثال هوبز واسبينوزا، أن قوانين الدولة هي المجال الحقيقي الذي يمكن أن تبرز فيه حريات الأفراد وتتعايش، خصوصا أن الحرية الطبيعية قد أفضت إلى ضدها، أي إلى سلب الأقوياء حقوق وحريات الضعفاء. لكن تحقق الحرية في إطار قوانين الدولة، يعني ولا شك أن هذه القوانين ديمقراطية ويساهم الجميع في اختيارها ووضعها. فكل واحد يتنازل عن قسط من حريته لكي يضمن ما تبقى منها. وفي مثل هذه الحالة يحدث انسجام وتعايش إيجابي بين الحريات الفردية، بحيث تنتهي حرية الفرد حينما تبتدئ حرية الآخرين.

لكن ماذا عن القوانين السائدة في الدول الديكتاتورية أو قوانين الطغاة، كما عبر عن ذلك شيشرون قديما ؟ ألا يمكن لمثل هذه القوانين أن تلغي حرية الأفراد وتمنعها من التحقق ؟

 إننا بالفعل نعاين أثناء التأمل في التاريخ الطويل للبشرية، أنه طالما تم استعباد الناس والسيطرة عليهم واستغلالهم باسم القوانين، خصوصا حينما لا يشارك الشعب في وضع هذه القوانين أو تفرض عليه عنوة. ولذلك يمكن القول مع شيشرون بأن القوانين لا يمكنها أن تكون دائما مقياسا لحقوق الأفراد وحرياتهم. وهو ما يتطلب ضرورة الحذر منها والعمل على تعديلها وإخضاعها لمراقبة القوانين الأخلاقية المميزة للطبيعة الإنسانية. والقانون الأخلاقي هو قانون كوني غير منحاز، ويمثل إرادة الجميع، ويمكنه أن يمارس الرقابة على القانون السياسي للدول ويجعله يقترب أكثر من تحقيق المثال الأعلى للحرية.

وقد اعتبر المفكر المغربي عبد الله العروي في هذا الإطار، أن الحرية هي عملية تحرير مستمرة وليست حالة قارة ونهائية. فبحسب أوضاع المجتمعات وموازين القوى السائدة فيها، يمكن للحرية أن تمتد أو تتقلص، تزيد أو تنقص. وهذا ما يسمح بإمكانية التقويم والمقارنة بين الدول فيما يخص درجات الحرية التي بلغتها، والتي تعكس طبعا طبيعة القوانين السائدة فيها. وهو ما يدل على أنه بقدر ما يمثل القانون شرطا لتحقق الحرية، فإنه ما قد يلبث أن يضيق ثوبه بها، ويصبح أداة لهضمها وإلغائها، مما يتحتم ضرورة تعديله والرقي به إلى مستوى تحقيق الحرية المنشودة

السعادة

 


السعادة

 

تقديم:

  اعتبر الفارابي « أن السعادة هي غاية ما يتشوقها كل إنسان»، وأنها أعظم الخيرات جميعا، وأنها غاية مطلوبة لذاتها، إذ هي نهاية الكمال الإنساني، وأقصى ما يسعى كل امرئ من أجل بلوغه. كما يمكن القول بأن السعادة هي حالة ارتياح تام للذات، يتميز عن الفرح لحركيته وعن اللذة للحظيتها. ولذلك يفترض أن السعادة هي حالة يشعر فيها الكائن البشري بالارتياح الكامل والدائم في نفس الوقت، وهذا ما لا يتوفر في الفرح أو اللذة الحسية مثلا؛ لأن الأول يرتبط بحركات انفعالية وغريزية وجسدية، بينما تظل اللذة عابرة ومؤقتة. ولذلك يحق لنا التساؤل: أين تتمثل السعادة بالضبط ؟ هل يمكن وصفها بدقة ؟ هل لها مدلول واحد؟ وكيف السبيل إلى بلوغها ؟ وما علاقتها بالواجب ؟ هل هي علاقة تكامل أم تعارض؟

المحور الأول: تمثلات السعادة.

·     طرح الإشكال:

إذا كانت السعادة هي الغاية القصوى التي يبحث عنها كل إنسان، فهل يعني ذلك أننا نعرف بالضبط ما هي السعادة ؟ وهل يمكن للعقل انطلاقا من اللغة أن يعبر لنا بدقة عن مفهوم السعادة ؟ ثم ألا يمكن القول بأن لكل واحد منا تمثله أو تصوره الخاص للسعادة ؟ ألا يجعلنا هذا نذهب إلى أن هناك مدلولات، وأيضا معايير، مختلفة للسعادة؟

لمعالجة هذا الإشكال، يمكن أن نقدم الموقفين الفلسفيين التاليين:

1-     موقف أرسطو: السعادة ذات طبيعة عقلية وهي غاية في ذاتها.

يعتبر أرسطو أن السعادة ليست ملكة فطرية متاحة للجميع، بل هي فعل يتطلب الجهد والمثابرة. كما أنها غاية من أجل ذاتها، وترتبط بالفضيلة وبالأفعال المطابقة للمبادئ الأخلاقية العليا. ولذلك لا يمكن في نظره أن تتمثل السعادة في اللهو، بل «الحياة السعيدة هي التي يحياها المرء وفقا للفضيلة، وهي حياة جد واجتهاد لا حياة لهو». وكل ما يصبو إليه الإنسان من لذات حسية أو خيرات مادية أو فكرية، إنما يكون الهدف منه هو الوصول إلى السعادة. وبهذا المعنى فالسعادة تكتفي بذاتها ولا تحتاج إلى غيرها. وإذا كانت التغذية والنمو والغرائز هي مما يشترك فيه الإنسان مع النبات والحيوان، فإنه وجب البحث عن السعادة في الجانب الذي يخص الإنسان وحده وهو المتمثل في العقل والفكر. وبذلك فالسعادة تكمن في ما هو حق وخير وجميل، أي في الفضائل الأخلاقية الكاملة.

 هكذا يرفض أرسطو التمثلات الشائعة حول السعادة، والتي تجعلها تتحدد إما في الثروة المادية أو في ما هو بهيمي وغريزي، أو تحددها في التهافت على المجد والشهرة والتشريفات... ويرى على العكس من ذلك أنها تتمثل في حياة التأمل الفكري والعقلي، الذي من شأنه أن يجعل صاحبه يدرك الفضيلة ويجسدها على المستوى العملي.

 لكن هل يمكن للعقل فعلا أن يقدم لنا تمثلا واضحا للسعادة ؟ وهل سيستخدم الناس عقولهم بنفس الكيفية للوصول إلى مدلول واحد للسعادة ؟ ألا يمكن أن تؤثر الأهواء والأمزجة والمصالح على تمثل الناس للسعادة ؟ وهل السعادة تكمن فقط على المستوى العقلي ؟ أليس لباقي الجوانب الموجودة لدى الإنسان دور في تمثلها؟

2-     موقف كانط: السعادة مثل أعلى للخيال وليس للعقل.

لا يمكن في نظر كانط إعطاء أي مدلول عقلي دقيق لمفهوم السعادة. فبالرغم من أن كل واحد من الناس يرغب في أن يكون سعيدا ويسعى إلى بلوغ السعادة، إلا أنه مع ذلك يصعب عليه تقديم تصور عقلي محدد لما من شأنه أن يجعله سعيدا. فلا الثراء ولا كثرة المعارف ولا الصحة ولا العمر الطويل ... بإمكانها أن تحدد لنا ما تكونه السعادة !

 ولذلك تظل السعادة حسب كانط غامضة وغير قابلة للتحديد النهائي؛ إذ لا يمكن اعتبارها مفهوما عقليا قابلا للصياغة الواضحة والدقيقة، بل إنها تظل تصورا خياليا ينبني على أسس تجريبية وحسية لا متناهية تختلف عند الأفراد حسب الحالات التي يمرون بها.

      هكذا وجدنا أنفسنا أمام تصورين فلسفيين مختلفين؛ ففي الوقت الذي اعتبر فيه أرسطو أن السعادة هي الغاية من الفضائل الأخلاقية وأنها قابلة للتعقل، نجد أن كانط ينزع صفة الغائية عن الواجب الأخلاقي، حتى ولو تعلق الأمر بالسعادة!! إذ أنه غاية في ذاته، كما ينفي إمكانية الوصول إلى تحديد عقلي للسعادة، لتظل فقط مثلا أعلى للخيال المرتبط بمحددات تجريبية لا متناهية.    

المحور الثاني: البحث عن السعادة.

·     طرح الإشكال:

إذا تبين أن السعادة غاية يسعى إليها كل إنسان، فما هو السبيل أو السبل التي تؤدي إلى بلوغها ؟ وإذا تبين أن الفلاسفة اختلفوا في تمثلها وتحديد مدلولها، ألا يمكن القول انطلاقا من ذلك أن الطرق المؤدية إليها تختلف أيضا ؟ وهل الوصول إلى السعادة متاح أصلا ؟

نجد في الفلسفة اليونانية تعارضا بين موقفين:

1-      الموقف الأبيقوري(أبيقور): اللذة هي سبيل السعادة.

يذهب أبيقور إلى أن « اللذة هي مبدأ الحياة السعيدة وغايتها». وبذلك، اعتبر أبيقور أن جلب اللذة ودفع الألم هو المعيار الأول لكل ما هو خير وسعادة. واللذة عنده هي تلك التي تدفع عنا ألم الجسد وتجنبنا اضطراب الروح، ولذلك لا يجب الإسراف في اللذات حتى لا تنقلب إلى آلام، كما يجب تحمل بعض الآلام التي من شأنها أن تخلق لدينا إحساسا باللذة !! 

2-      الموقف الرواقي(سينيكا): تكمن السعادة في اتباع العقل والرضا بالمصير.

تتمثل السعادة حسب سينيكا في التحرر من سيطرة الرغبات والأحاسيس الغريزية الحيوانية، وذلك عن طريق الاستعمال السليم للعقل الذي من شأنه أن يمكننا من معرفة حقيقة الذات الإنسانية، ويجعلنا نصدر قرارات عقلية صحيحة حول الأشياء يكون مصدرها هو العقل السليم. كما تتمثل السعادة أيضا في الاستقامة ونهج السلوك الأخلاقي الفاضل، وعدم المبالغة في التفكير في المستقبل، والقناعة بما تحقق في الحاضر.

 فالسعادة إذن هي تعقل للرغبات وتحرر من سيطرتها وسلطتها عن طريق الاستعمال السليم للعقل.

أما في العصور الحديثة، فنجد مواقفا فلسفية متعددة من إشكال البحث عن السعادة وطرق بلوغها، ويمكن الإشارة إلى موقفين: أحدهما لروسو والآخر لهيوم.

3-      موقف روسو: السعادة حنين إلى حالة الطبيعة الأولى.

كان الإنسان حسب روسو يعيش في حالة الطبيعة الأولى حياة بسيطة وسعيدة؛ فقد كان يلبي حاجاته بشكل سهل وتلقائي من أجل حفظ بقائه. لكن صعوبة العيش جعلته يجتمع مع غيره من الناس، وتظهر لديه بعض المشاعر الإنسانية الجديدة كالحب والكراهية والحسد... مما سيؤدي إلى النزاع والصراع الذي سيجعل الإنسان يفقد حالة الطمأنينة والسعادة الأولى. كما أن ظهور الكثير من الكماليات في حالة الاجتماع وتحولها إلى عادات راسخة، سيجعل الإنسان يشعر بالشقاء حينما يفتقدها، كما لا يكون سعيدا حينما يتملكها مادامت كثيرة ولا متناهية !

هكذا يبدو أن الإنسان فقد السعادة إلى الأبد ! مادام أن الرجوع إلى حالة الطبيعة أمر مستحيل ! 

4-      موقف هيوم: تهذيب الذوق كسبيل لبلوغ السعادة.

 إذا كان روسو يعتبر أن الحصول على السعادة متعذر في إطار الاجتماع البشري، فإن دفيد هيوم يمنحنا بعض الأمل في الحصول عليها. والسبيل إلى ذلك في نظره يكمن في رهافة الإحساس من جهة، ورهافة الذوق ورقته من جهة أخرى. هكذا تؤدي مثل هذه الرهافة إلى توسيع دائرة إحساسنا بالسعادة وبالشقاء معا !! إذ أنها تجعلنا أكثر تأثرا بالمشاهد المفرحة والمحزنة معا.

 لذلك يدعو هيوم إلى نوع من التربية الجمالية عن طريق دراسة الأعمال الإبداعية الجميلة والراقية، لأن من شأن هذه التربية أن تهذب إحساسنا وذوقنا، وتجعلنا نحس أكثر بالسعادة.

 يبدو أننا هنا أمام نزعة رومانسية تشاؤمية يمثلها روسو، تتطلع إلى سعادة موجودة في حالة طبيعية بعيدا عن المجتمع، ونزعة جمالية تفاؤلية تربط السعادة بالذوق الجمالي المرهف الذي يجعل صاحبه يستمتع بجمالية الواقع ومشاهده، ويشعر بالسعادة من جراء ذلك.

المحور الثالث: السعادة والواجب.

·     طرح الإشكال:

يعيش الإنسان داخل وسط اجتماعي تحكمه مجموعة من الضوابط والقواعد سواء القانونية أو العرفية أو الأخلاقية. ولذلك، فإنه يجد نفسه ملزما بمجموعة من الواجبات تجاه نفسه وتجاه الآخرين. وإذا كان الإنسان يسعى إلى تحقيق السعادة كغاية قصوى، فهل ينبغي أن تكون الواجبات هي الدافع إلى طلب السعادة ؟ ألا يمكن القول بأن السعادة لا ترتبط بالواجب وأنها ميل طبيعي وتلقائي ؟ وهل تكمن السعادة بالضرورة في الامتثال  للواجب ؟ وهل السعادة والواجب متناغمان أم متنافران ؟ وهل سعادة الفرد تمر بالضرورة من خلال إسعاد الآخرين ؟ ثم ألا يمكن القول بأنه لا إسعاد للآخرين إلا عن طريق إسعاد الذات أولا ؟ 

1-     موقف راسل: السعادة ليست إحساسا صادرا عن الواجب بل هي اهتمام ودي وتلقائي بالآخرين.

  بعد أن أشار برتراند راسل إلى أن الموضة والهوايات ليست مصدرا للسعادة الحقيقية، ما دامت تمثل نوعا من الهروب من الواقع ومن مواجهة مشاكل الحياة، اعتبر أن السعادة الحقيقية تكمن في الاهتمام الودي بالأشخاص والأشياء.

 هكذا فالشخص السعيد هو الذي يحب الناس تلقائيا، دون أن ينتظر مقابلا لمثل هذا الحب. إنه ذلك الشخص الذي يجد المتعة في تتبع أحوال الناس وتوفير الظروف المناسبة لإشعارهم بالسرور والسعادة، دون انتظار تلقي أية مكافأة أو إعجاب من طرفهم. وغالبا ما يشعر مثل هذا الشخص بالرضا والارتياح والسعادة من جراء سلوكه التلقائي هذا مع الناس.

 من هنا لا يكون دافع الشعور بالسعادة نابعا من إكراه الواجب وإلزاميته، بل نابعا من الميل الطبيعي إلى إسعاد الآخرين وإسعاد الذات معا. ولذلك يقول راسل: « الإحساس بالواجب يكون مفيدا في العمل، ولكنه يكون عدائيا في العلاقات الإنسانية». ذلك أن الناس يريدون أن يكونوا محبوبين بشكل تلقائي وليس عن طريق الإجبار والإكراه الذي يمثله الواجب. كما أن أكبر سعادة يمكن للمرء أن يشعر بها هي تلك النابعة من حبه واهتمامه التلقائي والطبيعي بالناس الآخرين.

  لكن إذا لم أتمكن طبيعيا وتلقائيا من القيام بما من شأنه إسعاد الآخرين، ألا يمكن القول بأنه يتحتم علي القيام بذلك انطلاقا من الواجبات المفروضة علي من طرف المجتمع والأخلاق ؟ ألا يمكن القول بأن إسعاد الآخرين هو واجب تجاه الذات ؟ ثم ألا تتوقف سعادة الذات على واجب إسعاد الآخرين ؟

2-     موقف ألان (إميل شارتيي): السعادة واجب تجاه الذات والغير معا.

يؤكد ألان على أنه يجب على الإنسان أن يبذل مجهودا من أجل الحصول على السعادة. فهذه الأخيرة هي من ناحية واجب على الإنسان تجاه نفسه، كما أنها من ناحية أخرى نتاج للجهد والمثابرة؛ فهي تصنع ولا تمنح.

 وإذا كانت السعادة حسب ألان واجبا نحو الذات، فهي أيضا واجب نحو الغير؛ ذلك أن الآلام والمآسي المنتشرة في كل مكان في العالم، تحتم علينا بذل جهود من أجل التغلب عليها وتحقيق السعادة المأمولة. ومن جهة أخرى، يعتبر إسعاد الذات قنطرة ضرورية لإسعاد الغير، ولذلك اعتبر ألان أن أجمل هدية يمكن أن نقدمها إلى الآخرين هي أن نعمل على إسعاد أنفسنا؛ إذ كيف نتمكن من منح السعادة للآخرين ونحن نفتقدها أصلا ؟!

  هكذا يتبين أن إسعاد الآخرين قد يكون ميلا طبيعيا نابعا بشكل تلقائي من الذات، أو قد يكون نابعا من الواجب مما يمنحه الطابع القسري والإلزامي. كما أن إسعاد الآخرين قد يكون مصدرا لسعادة الذات، أو يكون إسعاد الذات شرطا ضروريا لإسعاد الآخرين.


  

 

الواجب

 


 

تقديم:

إن الإنسان حيوان أخلاقي، ولذلك فتميزه بهذه الصفة جعله يطرح السؤال الأخلاقي التالي: ما الذي ينبغي أن أعمله ؟ وفي هذا الإطار استثمر الإنسان عقله الأخلاقي العملي من أجل تشريع قوانين لسلوكه، وسن واجبات لتحقيق الغايات المنشودة من أفعاله. وإذا كان الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام، فإنه مع ذلك يعبر عن سمو الإنسان وحريته والتزامه بما يشرعه لنفسه. وإذا كان الوعي الأخلاقي سمة من سمات الكائن البشري، باعتباره ما يسمح له بالتمييز بين الخير والشر، فإن هناك من جعل أساس هذا الوعي في الفطرة البشرية، وهناك من أرجعه إلى العقل، وهناك من عاد به إلى منشئه التاريخي في إطار الصراع حول المصالح. وأمام هذا التعدد في المرجعيات التي تحكم الواجب، نجد أنفسنا أحيانا أمام واجبات ترتبط بسلطة مجتمع ما وظروفه الخاصة، مما قد يؤدي إلى انغلاق القيم الأخلاقية ودخولها في صراع مع مرجعيات أخلاقية أخرى، وهذا أمر يحتم ضرورة المراهنة على أخلاق كونية تؤسس لواجب الإنسان إزاء الإنسان.

المحور الأول:  الواجب والإكراه.

       * إشكال المحور: هل يمكن أن يكون الواجب حرا أم أن قبوله لا يتم سوى تحت الإكراه ؟ وهل يستمد الواجب سلطته من وازع عقلي داخلي أم يستمدها من إلزام خارجي ؟

                  1- موقف هيوم: الواجب إلزام صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع.

يرى دفيد هيوم أنه لا يمكن تأسيس الأخلاق على دعامة من العقل وحده، لأن الأحكام الأخلاقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الاجتماعية. هكذا فجريمة واحدة قد تصادف أحكاما مختلفة باختلاف الظروف والأحوال. فالحكم على الأفعال بالخير أو الشر راجع إلى عاطفة أو إحساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلان الإنسان يتشبث بالحسن لما يجلبه له من منفعة، ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر.

ويقسم هيوم الواجبات الأخلاقية إلى نوعين: الواجبات الأولى هي تلك التي يقوم بها الناس بدافع غريزي طبيعي، وبدون أي إلزام أو سعي نحو تحقيق منفعة ما؛ مثل حب الأطفال والعطف على المحتاجين. أما الواجبات الثانية فهي تلك التي تكون صادرة عن إلزام نابع من ضرورة المحافظة على المجتمع البشري.

 هكذا فالطابع الإلزامي للواجب عند هيوم مرتبط بالآثار المترتبة عنه على مستوى الحياة الاجتماعية. والتجربة وحدها هي التي تبين لنا مدى ما نجنيه من منفعة أو فائدة إذا ما تقيدنا بأوامر الواجب.

من هنا فالتجربة والتفكير المرتبط بها هما اللذان يمارسان الرقابة على الميولات الذاتية والغريزية، ويجعلانها خاضعة للأحكام الصادرة عن الواجب.

إن إلزامية الواجب إذن صادرة، حسب هيوم، عن دوافع خارجية، كما أنها ترتبط بالمنفعة وبالنتائج المفيدة المترتبة عنها. وهو الأمر الذي سيرفضه إيمانويل كانط.

         2- موقف كانط: الواجب التزام حر، نابع من الذات وغير مشروط.

يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، ولا يتصرف إلا طبقا لإرادته الخاصة. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية.

ويرى كانط من جهة أخرى بأن الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس عليها هذا الأخير نوعا من الإكراه، إلا أنه إكراه حر؛ مادامت الإرادة تخضع للقانون الأخلاقي الصادر عن العقل من أجل مقاومة التأثير الذي تمارسه الميولات الغريزية من جهة، ومن أجل المحافظة على كرامة الإنسان واحترامه من جهة أخرى.

 ويميز كانط بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية ترتبط بالنتائج التي تتطلبها الضرورات العملية، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس، وأوامر أخلاقية قطعية أو مطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها؛ كأن نقول الصدق دائما لأنه واجب أخلاقي صادر عن العقل العملي.

 هكذا فالواجب المرتبط بهذه الأوامر الأخيرة يتميز بكونه غير مشروط بأية نتائج منتظرة، فهو يحمل غايته في ذاته، كما أنه ذو صبغة كونية وشمولية. وهو زيادة على ذلك يتسم بطابعه الصوري والعقلي المجرد.

 وبالرغم من هذا الطابع الصوري والكوني للواجب الأخلاقي عند كانط، فهو يعبر عن حرية الإنسان والتزامه بقوانين كونية نابعة من العقل، كما يجعله يتصرف كما لو كان في نفس الوقت مشرعا وفردا في مملكة الإرادة. 

المحور الثاني:  الوعي الأخلاقي.

  * إشكال المحور: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ وأين يجد أساسه ومبدأه؟ وكيف يتأتى للإنسان الوعي بالأوامر الأخلاقية ؟ وكيف له أن يميز بين الخير والشر؟

1- موقف روسو: الفطرة كأساس للوعي الأخلاقي.

إن أساس الوعي الأخلاقي عند روسو هو مبدأ فطري يمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر. وهذا المبدأ هو ما ينعته روسو بالوعي الأخلاقي الذي يصدر عن إحساس عميق في النفس البشرية، يمكنها من إصدار أحكام على الأفعال ووصفها بالخيرة أو الشريرة.

هكذا فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس داخلي متأصل في الطبيعة الإنسانية، وهو الذي يميزها عن طبيعة أي كائن آخر. وهذا ما يجعل الاجتماع البشري لا يتأسس فقط على الحاجيات البيولوجية وضرورات العيش، بل يتأسس أيضا على الروابط الأخلاقية التي تجد مرتكزها في الأحاسيس الفطرية التي تميز الكائن البشري، وتدله على ما هو خير وما يسمح له بتأسيس علاقته مع ذاته ومع الآخرين في إطار أخلاقي وإنساني.

 ويميز روسو بين معرفة الخير ومحبته؛ فمعرفة الخير هي معرفة عقلية مكتسبة، لكن محبته هي نابعة من إحساس فطري لدى الإنسان. من هنا فالوعي الأخلاقي عند روسو هو غريزة إلهية خالدة ومعصومة، وهي الضامنة والمرشدة للإنسان بحيث تمكنه من التمييز بين الخير والشر، وتمنح أفعاله صبغة أخلاقية متميزة.

 وإذا كان روسو يؤسس الوعي الأخلاقي على الفطرة والغريزة، فإنه يتجاهل الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة الوعي الأخلاقي. وهو ما أكد عليه مجموعة من الفلاسفة، ومن بينهم نيتشه.

[ ملاحظة: يمكن استثمار موقف كانط في هذا المحور الثاني، باعتبار أن كانط يجعل مصدر  الواجب في العقل ويؤسسه على القانون الأخلاقي الصادر عنه...]

2- موقف نيتشه: يجد الوعي الأخلاقي أساسه في العلاقات التجارية الأولى بين الناس.

لقد كشف نيتشه من خلال بحثه الجينيالوجي عن أصل الأخلاق ومنشئها، وأزاح النقاب عن الأحداث التاريخية الأولى والحقيقية التي كانت وراء تبلور ما يسمى بالوعي الأخلاقي.

هكذا فقد نشأ الوعي الأخلاقي في إطار علاقة تجارية بين الدائن والمدين؛ حيث أن هذا الأخير عجز عن أداء ما عليه من دين للأول، باعتباره واجبا عليه، فعوض له ذلك بخضوعه له وانصياعه لأوامره. من هنا فأصل الوعي الأخلاقي، وبالتالي أصل الخير والشر، هو تلك القيم والواجبات التي وضعها الدائنون ليعاقبوا بها المدينين ويصبحوا سادة عليهم.

إن العقاب في هذه الحالة لم يتخذ شكل تعويض مالي أو عقاري، وإنما اتخذ شكل عقاب معنوي وأخلاقي. وقد ترتب عنه ظهور مبادئ وواجبات وأوامر يكون لزاما على المستضعفين الخضوع لها من أجل المحافظة على حياتهم.

وهكذا وبدل تعويض الدين مباشرة، تم تعويضه بشكل غير مباشر عن طريق تخلي المدين العاجز عن سلطة القرار لصالح الدائن، الذي أصبح منذ هذه اللحظة، وبفضل قوته وجبروته، يصدر الأوامر ويمارس مختلف أشكال العقاب على من هم تحت سيطرته.

هذه إذن هي العلاقة التاريخية الأولى التي كانت وراء تشكل الوعي الأخلاقي، في نظر نيتشه، غير أن العبيد والمستضعفين فيما بعد عملوا على قلب القيم الأخلاقية ومنحوها معانيا جديدة تخدم مصالحهم.

يتبين إذن، مع نيتشه، كيف أن الوعي الأخلاقي ذو جذور تاريخية وتجارية؛ إذ أنه يجد مرتكزاته في الصراع الذي حصل بين الناس حول المصالح الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فالإنسان لا يلتزم بالواجبات الأخلاقية في ذاتها، كما لا تكتسي هذه الواجبات صبغة ثابتة ومطلقة، بل إنه يتوخى النتائج النافعة المترتبة عن تلك الواجبات، مما يضفي عليها طابع النسبية والتغير.

 وهذه الفكرة الأخيرة تقودنا إلى إشكال الواجب بين المطلق والنسبي؛ فهل يرتبط الواجب بكل مجتمع على حدة فيتخذ طابع النسبية، أم أنه مطلق ويتعلق بالإنسانية ككل؟

المحور الثالث: الواجب والمجتمع.

          *إشكال المحور: هل الواجب الأخلاقي هو مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل ؟ وهل هو خاص يتعلق بكل مجتمع على حدة أم أنه كوني يتعلق بجميع الناس ؟ وهل الفرد ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو الإنسانية أيضا ؟

        1- موقف دوركايم: الواجب الأخلاقي هو ترديد لصوت المجتمع.

[ملاحظة: يمكن استثمار موقف دوركايم أيضا في المحورين السابقين؛ حيث أن دوركايم يقول بإلزامية الواجب الأخلاقي وخارجيته في حين أن كانط يقول بالالتزام الصادر من داخل الذات. أما في المحور الثاني فإن دوركايم يحدد أساس الوعي الأخلاقي في المجتمع أو ما يسميه بالضمير الجمعي...]

إن مصدر الواجب عند دوركايم هو المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم. هكذا فلدى الأفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. فالضمير الأخلاقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع، وهو يتردد داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي، مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي.

لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع وبإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي إلى نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب.

 فهل يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية ؟

     2- موقف برجسون: من الواجب إزاء المجتمع إلى الواجب إزاء الإنسان.

يرى برجسون أنه بالرغم من أن المجتمع يتكون من إرادات فردية حرة، فإن هذه الإرادات تؤلف في انتظامها جهازا عضويا يرسخ أنساقا من العادات الجماعية التي تمارس إلزامها وسلطتها على الأفراد.

هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومي. ويتم خضوع الفرد للمجتمع بنوع من الآلية والعفوية التي لا يكاد يشعر الأفراد خلالها بذلك الضغط الممارس عليهم من قبل المجتمع. غير أن هذه الواجبات تتحول إلى عادات محدودة وذات طابع سكوني ومنغلق، مما يحتم ضرورة، حسب برغسون، الانتقال بها إلى مجال المجتمع المفتوح الذي هو الإنسانية ككل.

إن علينا واجبات نحو الإنسان كإنسان، كاحترام حياة الآخرين واحترام حرياتهم ومعتقداتهم، ولذلك يجب ترسيخ قيم وواجبات كونية من شأنها أن ترسخ السلم والتسامح بين كل أفراد بني الإنسان.

 


الحق والعدالة

 


الحق والعدالة

تقديم:

يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.

وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف أو الشرعية. كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.

هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:

  - مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.

   - ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع إلى استلهامه.

أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:

  - دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.

  - ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية وللممارسة العملية للإنسان.

وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.

ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إثارة مجموعة من الإشكالات سنعالجها من خلال محاور الدرس.

المحور الأولالحق بين الطبيعي والوضعي.

     *إشكال المحور: هل يتأسس الحق على ما هو طبيعي أم على ما هو وضعي ؟

      1- فلاسفة الحق الطبيعي: حالة الطبيعة كمرجعية لتأسيس الحق.      

حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.

وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.

 وإذا أخذنا نموذج هوبز مثلا، فإننا نجده يعرف حق الطبيعة بأنه الحرية التي تخول لكل إنسان في أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته الخاصة وما يراه نافعا له. أما حالة الطبيعة فهي عنده حالة حرب الكل ضد الكل، إنها حالة صراع وعنف وفوضى. كما تصور هوبز بأن الطبيعة الإنسانية شريرة، وأن الإنسان ذئب للإنسان. وانطلاقا من هذا التصور ارتأى هوبز ضرورة تأسيس الحق في حالة الاجتماع على القوة، قوة الأمير الذي سيفرض نفسه على الجميع ويتنازل له الأفراد عن حرياتهم الطبيعية. هكذا يتأسس الحق عند هوبز على القوة وعلى ما هو طبيعي؛ لأن أساس الحق عنده نابع من تصوره لطبيعة الإنسان.

أما إذا أخذنا نموذج روسو، فإننا نجده يختلف مع هوبز في تصوره لحالة الطبيعة ولطبيعة الإنسان؛ إذ يرى أنها حالة أمن وسلام، وأن الإنسان خير بطبعه. لكنه مع ذلك يلتقي معه في رجوعه إلى حالة الطبيعة من أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لتأسيس الحق. هكذا فمبادئ التعاقد الاجتماعي عند روسو تجد ينابيعها الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان. من هنا فالحق يجد أساسه عند روسو فيما هو طبيعي، أي في مجموع المواصفات التي كانت تميز حياة الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى.

وبخلاف هذا التصور الذي يؤسس الحق على تصور معين للطبيعة الإنسانية، يأتي التصور الوضعي الذي يؤسسه على مرتكزات ثقافية ووضعية.

 2- الموقف الوضعي: تأسيس الحق على الأوضاع السائدة داخل كل مجتمع. 

ترفض النزعة الوضعية القانونية تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية وطبيعية، وتؤسسه بخلاف ذلك على اعتبارات واقعية وثقافية. هكذا يرى هانز كيلسن، أحد ممثلي هذه النزعة، أنه لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهذا ما يضفي على الحق طابع النسبية والتغير، ويجعل من غير الممكن الحديث عنه خارج إطار القوانين المتجسدة في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.

وفضلا عن هذا، يرى كيلسن أن هناك اختلاف في المرجعيات السيكولوجية والاجتماعية والثقافية بين الناس، مما ينعكس على تصورهم لأساس الحق، ويجعل هذا الأخير يختلف باختلاف المبادئ التي يرتكز عليها.  

   وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي من المفترض أنها وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فإن هذا يثير إشكال العلاقة بين الحق والعدالة.

المحور الثانيالعدالة كأساس للحق.

*إشكال المحور: كيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة ؟

                    1- موقف اسبينوزا: قوانين العدالة كتجسيد للحق.

اعتبر اسبينوزا أن هناك مبدأ تقوم عليه الدولة الديمقراطية، وهو تحقيق الأمن والسلام للأفراد عن طريق وضع قوانين عقلية تمكن من تجاوز قوانين الشهوة التي هي المصدر الأساسي لكل كراهية وفوضى. من هنا يتحدث اسبينوزا عن القانون المدني الذي تحدده السلطة العليا، والذي يجب على الأفراد احترامه للمحافظة على حرياتهم ومصالحهم المشتركة. وهذا القانون هو الذي تتجسد من خلاله العدالة التي تتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه. ولهذا يدعو اسبينوزا القضاة المكلفين بتطبيق القانون إلى معاملة الناس بالمساواة والإنصاف، من أجل ضمان حقوق الجميع، وعدم التمييز بينهم على أي أساس طبقي أو عرقي أو غيره.

هكذا يبدو أنه لا يمكن تصور عدالة خارج إطار مبادئ العقل المجسدة في القانون المدني الذي تتكفل الدولة بتطبيقه، كما لا يمكن تصور تمتع للناس بحقوقهم خارج قوانين العدالة. فالعدالة والحالة هاته، هي تجسيد للحق وتحقيق له؛ إذ لا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. أما خارج هذه القوانين التي يضعها العقل، فإننا نكون بإزاء العودة إلى عدالة الطبيعة التي استحال فيها تمتع الجميع بحقوقهم المشروعة في الحرية والأمن والاستقرار.

   لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد ؟

معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها ؟

        2- موقف شيشرون: لا يتجسد الحق دائما من خلال قوانين الشعوب. 

يرى شيشرون أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، مادام أننا نجد قوانينا يضعها الطغاة لخدمة مصالحهم الخاصة وتهضم حقوق بقية الناس. ولذلك يجب تأسيس الحق والعدالة تأسيسا عقليا؛ إذ أن الحق الوحيد هو الذي يؤسسه قانون واحد مبني على قواعد العقل السليم الذي يشرع ما يجب فعله وما يجب اجتنابه. ومن جهة أخرى يذهب شيشرون إلى القول بأنه "لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة"، وهذه هي الطبيعة الخيرة التي تتمثل في ميلنا إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. و" طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". هكذا يبدو أن شيشرون يؤسس الحق تأسيسا عقليا وأخلاقيا، ويعترض على تأسيسه انطلاقا من المنافع الخاصة وما هو حاصل على أرض الواقع. 

 لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.

وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل يجب أن نطبق عليهم القوانين بالتساوي أم يجب مراعاة روح هذه القوانين لإنصاف كل واحد منهم ؟

المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف.

         *إشكال المحور:  هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي، بحيث يكون الجميع أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين ؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده ؟

          1- موقف ألان (إميل شارتيي): العدالة هي معاملة الناس بالمساواة.

  لا يمكن الحديث حسب ألان عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وهنا يتحدث ألان عن السعر العادل ويميزه عن سعر الفرصة؛ بحيث أن الأول هو المعلن داخل السوق والذي يخضع له الجميع بالتساوي، بينما الثاني هو سعر يغيب فيه التكافؤ بين الطرفين؛ كأن يكون أحدهما مخمورا والآخر واعيا، أو يكون أحدهما عالما بقيمة المنتوج والآخر جاهلا بذلك.

هكذا فالمساواة لن تتحقق حسب ألان إلا إذا عرض الباعة لكل الناس نفس السلع وبثمن موحد. ومعنى ذلك أن العدالة لن تتحقق إلا إذا كانت القوانين الجاري بها العمل تعامل الناس بالمساواة التي هي أساس إحقاق الحق.

 وفي هذا الإطار يقول ألان: " لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية... أما أولائك الذين يقولون إن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا".

ومثل هذا القول "البئيس" هو الذي نعتقد أنه يقول به ماكس شيلر.

      2- موقف ماكس شيلر: المطالبة بالمساواة المطلقة هي عدالة جائرة.

   يذهب ماكس شيلر إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة المطلقة بين الناس؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس؛ ذلك أن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم.

هكذا ينتقد ماكس شيلر ما يسميه بالأخلاقية الحديثة التي تقول بأن جميع الناس متساوون أخلاقيا، وبالتالي تنفي التفاوتات الموجودة بينهم على مستوى ما يتوفرون عليه من مؤهلات. ويرى أن هذه المساواة المطلقة هي فكرة عقلانية نابعة من حقد وكراهية الضعفاء ومن هم في أسفل درجات السلم، تجاه الأقوياء الذين يمتلكون مؤهلات وقدرات أكثر من غيرهم تجعلهم يتواجدون في أعلى السلم الاجتماعي. وبدلا من هذه الأخلاق العقلانية التي تنادي بالمساواة الصورية والنظرية، يقترح شيلر ما أسماه بالأخلاق الموضوعية التي تأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين الناس على أرض الواقع. وهنا تكمن العدالة المنصفة التي تحافظ على القيم السامية التي يتمتع بها الأشخاص المتفوقون.