الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

الحقيقة

الحقيقة


 يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسيين هما: الواقع والصدق. وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم والكذب. هكذا فالفكرة الصادقة والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي. كما تعتبر الحقيقة كل فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا. من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالات متعددة: دينية وعلمية واجتماعية...الخ. وفي جميع الأحوال، فالحقيقة يتم التعبير عنها دائما بواسطة اللغة والخطاب، والإنسان دائم البحث عنها، وهو يستخدم في ذلك عدة وسائل وطرق. وغالبا ما يتم ربط الحقيقة بما يتم إنتاجه بالمناهج العقلية أو التجريبية الصارمة، لذلك يتم التمييز بينها وبين الرأي الذي لا يتأسس على تلك المناهج. لكن ما حقيقة التمييز الحاصل بين الحقيقة والرأي؟ هل يمكن الفصل بينهما نهائيا؟  وكيف يمكن التمييز بين الخطابات التي تعبر عن الحقيقة وتلك التي لا تعبر عنها؟ وما هي المعايير التي يجب اعتمادها لتحديد ما هو حقيقي؟ وأخيرا لماذا نبحث عن الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها؟  
1- الرأي والحقيقة:
عادة ما يتم التمييز في الفلسفة التقليدية بين الرأي كمعرفة ذاتية ناقصة، وبين الحقيقة كمعرفة يقينية وموضوعية. فالرأي هو «الاعتقاد المحتمل، لا الاعتقاد اليقيني، وهو وسط بين الشك واليقين». كما يحيل الرأي إلى الاعتقاد الجماعي أو الاعتقاد الذي يشترك فيه الجمهور، ولذلك فهو يطابق الآراء الشائعة لدى الحس المشترك. فالرأي إذن هو اعتقاد يعوزه اليقين، وهو يرد في مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية ومبرهن عليها. إن الحقيقة غالبا ما ترتبط بفئة خاصة هي فئة العلماء والفلاسفة بينما الرأي متاح للجميع، ولذلك فهو يأتي كمرادف للحس المشترك، أي للآراء المتداولة بين الناس.
لكن ما يلاحظ هنا هو أنه توجد الكثير من الآراء المتداولة تكتسي صبغة يقينية وحقيقية، بحيث يصعب على أصحابها الشك فيها، وبالمقابل نجد الكثير من الحقائق سواء العلمية أو الفلسفية لها طابع احتمالي ويتم تفنيدها وتجاوزها في الكثير من الأحيان. وهذا ما ينتج عنه نوع من التداخل بين مفهومي الحقيقة والرأي، بحيث يصعب الفصل بينهما بشكل نهائي وقاطع. وهذا التداخل يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية: كيف تتحدد العلاقة بين الحقيقة والرأي ؟ هل يمكن الفصل بينهما نهائيا ؟ هل بينهما قطيعة أم استمرارية ؟ وهل يمكن الدفاع عن الرأي باعتباره نمطا من أنماط الحقيقة ؟ ألا يمكن للرأي أحيانا أن يكون له دور مهم في تشييد الحقيقة ؟
1-1-        الحقيقة تتجاوز الرأي وتشكل قطيعة معه.
1-1-1- تصور أفلاطون: للوصول إلى الحقيقة ينبغي تجاوز الرأي.
يذهب أفلاطون إلى أن طريق بلوغ الحقيقة هو التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الآراء والمعتقدات السائدة، والارتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة. هكذا فالحواس حسب أفلاطون لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن عامة الشعب، بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، وهي تعتمد على الجدل الصاعد كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة.
إذن فإدراك الحقيقة من طرف الفيلسوف يقتضي منه بالضرورة  تجاوز الآراء السائدة لدى الناس عن طريق استخدام التأمل العقلي الفلسفي الذي من شأنه تمكين الفيلسوف من بلوغ الحقيقة الموجودة في عالم المثل، والتي تشكل قطيعة تامة مع الآراء السائدة والتي تظل مجرد أوهام وأشباه حقائق.
1-1 -2  تصور باشلار: يمثل الرأي عائقا أمام بلوغ الحقيقة. 
يميز باشلار بين الحقيقة العلمية والرأي، ويقر بتعارضهما؛ إذ يعتبر هذا الأخير عائقا إيبستمولوجيا يحول دون الوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة.
  وهكذا اعتبر باشلار بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي، ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للأمور. وهذا ما جعل باشلار يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية، إذ تبنى معارف الفكر العلمي بناءا نظريا وعقليا. كما تخضع لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة، تجعلها تختلف بشكل جذري عن الآراء العامية السائدة في المجتمع.
   وفي هذا السياق يرى باشلار أن الفكر العلمي لا يتناول سوى القضايا التي يستطيع البرهنة عليها، كما أنه لا يطرح سوى الأسئلة التي يمكنه الإجابة عنها. وهذا ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على قواعد العقل العلمي، في حين يسمح الرأي لنفسه بالاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل، حتى تلك التي لا يقوى على الإجابة عنها أو التدليل عليها.
 أمام كل هذا وجب حسب باشلار تخطي الرأي والعمل على هدمه، حتى لا يشكل عائقا أمام بلوغ المعرفة العلمية الصحيحة.
1-2-        الرأي يتداخل مع الحقيقة ويصعب الفصل بينهما:
إذا كان الكثير من الفلاسفة قد عملوا على تبخيس الرأي واعتبروه عائقا أمام الوصول إلى الحقيقة، مثل أفلاطون وديكارت وباشلار، فإن هناك بعض الفلاسفة الآخرين حاولوا إعادة الاعتبار للرأي باعتباره يشكل معرفة ويلعب دورا مهما في تطوير المعرفة البشرية، كما بينوا أن الكثير من الآراء السائدة تكتسي صبغة يقينية ويصعب الشك فيها. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى موقفين:
1-2 -1 تصور لايبنتس: للرأي دور مهم في تطور المعرفة البشرية.
يقول لايبنتس (leibnitz): «إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم معرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف».
وانطلاقا من هنا نجد لايبنتس يدافع عن الرأي القائم على الاحتمال، ويعتبره معرفة يمكن الاعتماد عليها. فليس كل المعارف تمتلك اليقين المطلق، بل أغلبها يقوم على الاحتمال. فالبحث عن درجات الاحتمال في معرفة ما سيفيدنا ولا شك حينما لا نستطيع أن نجزم  في مسألة ما بكيفية قطعية.
وقد لعب الرأي القائم على الاحتمال دورا انقلابيا في تاريخ الفكر البشري، والدليل القوي على ذلك مثلا الآراء العلمية التي قدمها كوبرنيك؛ فرغم كونها مجرد احتمالات في حينها إلا أنها شكلت فيما بعد ثورة علمية حقيقية في تاريخ العلوم.
1-2 -2 تصور فتجنشتين: هناك آراء تكتسي صبغة الحقيقة.
يرى فتجنشتين أن هناك اعتقادات نؤمن بها دون أن نبرهن عليها عن طريق الاستدلالات العقلية أو التجارب العلمية، بل هي حقائق ترسخت لدينا كمعارف متضمنة في اللغة التي نتعلمها خصوصا ونحن صغار.
فنحن نجد أن هناك أفكار ومعتقدات يتلقاها الطفل من خلال تعلمه للغة، ويضفي عليها نوعا من الإيمان بحيث لا يكلف نفسه عناء التفكير في صحتها. وكمثال على ذلك الاعتقاد بأن هناك جزيرة تدعى أستراليا، أو أن لدي أجدادا، أو أن هؤلاء هم والداي. فالطفل حسب فتجنشتين يتعلم مجموعة من الاعتقادات من الراشدين، كما يقبل ببعض الحقائق المتداولة دون أن يكون بإمكانه الاستدلال عليها، فقط لأن المجتمع يقبل بها؛ كأن يعتبر الطفل أن ما هو مكتوب في مقررات الكتب المدرسية حقيقي، لأنه يعتبر أنه تم التأكد منها مئات المرات.
 وهنا يتحدث فتجنشتين عما يسميه "صورة العالم"؛ أي مجموع الاعتقادات والآراء التي ترسخت لدي حول العالم، والتي أعتبرها منطلقا وأساسا لكل ما أبحث عنه فيما بعد. وكل القضايا التي تريد وصف تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق؛ فأثناء كل تحقق نفترض أن هناك شيء ما لا يمكن التحقق منه.
وعلى العموم فالتأمل في مجالات الدين والأخلاق والسياسة وأشكال التواصل الإنساني عموما، يبين أن هناك الكثير من الآراء التي تكتسي صبغة الحقيقة بالنسبة لأصحابها، بحيث يصعب إقناعهم بالتخلي عنها أو الشك في صحتها. كما يبين أن بعض الآراء يكون لها دور كبير في تحريك السلوك البشري ورسم غاياته وآفاقه، فضلا عن دورها في ردع الكثير من الشرور التي قد تلحق الجماعة البشرية. فاعتقاد المسلمين مثلا في عذاب القبر والحساب والعقاب في اليوم الآخر والجنة والنار... هو شكل من أشكال الرأي الذي يسمو عند صاحبه إلى درجة اليقين المطلق، ويكون له تأثير كبير في مواقفه وسلوكاته العملية وعلاقاته بالآخرين.
   ويمكن القول أيضا بأن استطلاع الآراء في مجال البحوث الإنسانية والاجتماعية قد يمثل وسيلة أساسية لإنتاج المعرفة المتعلقة بالظواهر الإنسانية.
 أما في مجال السياسة، فإن أصوات الناخبين لا تعدو أن تكون آراء تصدر عن هذا الفرد أو ذاك، وقد يكون لها دور خطير في فوز حزب أو تشكيل حكومة أو تغيير نظام سياسي برمته ...
   وهذا ما يجعلنا نخلص إلى أن هناك تداخل بين الحقيقة والرأي؛ بحيث قد يتضمن الرأي قدرا كبيرا من الصواب والحقيقة، وقد يكون له دور إيجابي ومحمود في مجال التواصل الإنساني. وبالعكس، فإن ما يقال عنه أنه "حقيقة" في مجال العلوم الدقيقة أو الفلسفة قد يعتريه القليل أو الكثير من الأخطاء أو الثغرات، مما يحتم ضرورة نقده ومراجعته وتجاوزه.

2- معايير الحقيقة:

المعيار هو المقياس الذي ينبغي أن يكون عليه الشيء، وهو القاعدة التي نصدر من خلالها حكمنا عليه. إن المعيار إذن هو مقياس للحكم على الأشياء، وإذا طبقناه على مفهوم الحقيقة يمكن أن نتساءل: ما هو المعيار الذي يجعلنا نحكم على فكرة ما بأنها حقيقية ؟ هل هو معيار مادي أم صوري ؟ تجريبي أم عقلي ؟ وهل هناك معيار كوني للحقيقة ؟
2- 1  تصور ديكارت: معيار الحقيقة في بداهتها أو انسجامها المنطقي.
تتعارض الحقيقة عند ديكارت مع الرأي، إذ أنها تعتمد على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن اختصارها في أربع قواعد رئيسية: البداهة، التحليل، النظام والمراجعة. وتتأسس الأفكار البديهية على مبدأ الحدس، في حين تتأسس الأفكار الأخرى على مبدأ الاستنباط. هكذا يحدد ديكارت للحقيقة معيارين رئيسيين هما: البداهة والانسجام العقلي.فهناك أفكار واضحة متميزة في الذهن تدرك إدراكا حدسيا مباشرا، ولا يحتاج العقل لإثبات صحتها إلى براهين وأدلة عقلية، ولذلك فمعيار صحتها في بداهتها؛ بحيث يمكن القول هنا مع ديكارت بأن كل فكرة بديهية فهي فكرة حقيقية، كأن أدرك أنني موجود أو أن المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع أو أن الكل أكبر من الجزء. وهناك أفكار نحتاج لإثبات صحتها إلى الاستدلال عليها عقليا، بحيث نستنبطها من الأفكار البديهية الأولية، ولذلك فمعيار صحتها يرتبط بمدى انسجامها المنطقي ومطابقتها لقواعد العقل ومبادئه.  ولذلك فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق الاستنباط لا تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، ما دامت صادرة عنها بواسطة حركة فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية.
 وهكذا فالحدس والاستنباط هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة. وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أولا في البداهة المرتبطة بالحدس؛ إذ أن كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي الخالص، كما يتحدد هذا المعيار ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالاستنباط؛ إذ أن كل فكرة منسجمة منطقيا ومتطابقة مع قواعد الاستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية. وينبغي الإشارة هنا إلى أن معيار البداهة عند ديكارت هو معيار كوني؛ إذ أن الأفكار البديهية هي بديهية بالنسبة لجميع العقول، خصوصا وأن ديكارت يعتقد أن العقل أعدل قسمة بين الناس وأنه يحتوي على أفكار أولية وفطرية معيار صحتها في بداهتها، أي في وضوحها وتميزها.
2- 2  تصور جون لوك: معيار الحقيقة في مطابقتها للواقع التجريبي.
يرفض جون لوك معيار البداهة الذي قال به الفلاسفة العقلانيون كديكارت واسبينوزا، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار أولية وفطرية في العقل. هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة بيضاء وأن التجربة هي التي تمده بالمعارف والأفكار. من هنا فالتجربة هي المعيار الأساسي  والوحيد للحقيقة. فالحواس تمدنا بالأفكار البسيطة كالامتداد والشكل والحركة، ثم يعمل العقل على التأليف بينها لإنتاج الأفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية واللامتناهي. هكذا فكل أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تمنح لأفكارنا الصدق والحقيقة. وإذا تعذر إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة. فمعيار الحقيقة إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي. ويبدو أنه يتعذر وجود معيار كوني للحقيقة التجريبية مادام أن تجارب الناس مختلفة ومتعددة، وهو ما ينعكس على تصورهم لموضوع الحقيقة ومعاييرها.
ويتساءل إيمانويل كانط: هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟
وفي إطار إجابته عن هذين السؤالين، رأى كانط أنه لا يمكن أن يوجد معيار كوني ومادي للحقيقة لأن الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر معه وجود معيار كوني لها. وبالمقابل يرى كانط أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في مطابقة المعرفة لمبادئ العقل وقواعد المنطق.
3- قيمة الحقيقة بين ما هو مطلق وما هو نسبي:
جاء في معجم جميل صليبا ما يلي:
« القيمة تطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته... وقيمة الشيء من الناحية الذاتية هي الصفة التي تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه... ويطلق لفظ القيمة من الناحية الموضوعية على ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا للتقدير».
ومن هنا فالحديث عن قيمة الحقيقة يتعلق أساسا بخصائص تتميز بها الأفكار تجعلنا نهتم بها ونرغب فيها. ولهذا يحق لنا التساؤل: ما الذي يجعلنا نرغب في الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها بالنسبة لنا؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لإشباع حاجات أخرى؟ وهل للحقيقة قيمة أخلاقية سامية ومطلقة أم قيمة نفعية نسبية؟
3- 1   التصور التقليدي: للحقيقة قيمة نظرية وأخلاقية مطلقة.
يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلاسيكية أنه كانت للحقيقة قيمة نظرية مطلقة، وأنها كانت منشودة لذاتها؛ فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأية أغراض أو مصالح أخرى. وقد جسد سقراط في حياته هذا الأمر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى الإعدام وهو متشبث بالحقيقة، وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.
 وفي نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة أخلاقية عليا ومطلقة وغير مشروطة. وهي بذلك تنشد لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة. فالصدق واجب في ذاته، ويجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط «لأن الكذب مضر بالغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية».
3- 2     التصور المعاصر: للحقيقة قيمة نسبية.
لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والإنتاج، والالتصاق بالواقع الإنساني. من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة، وقيمة نسبية ومتغيرة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن تقديم التصور البرغماتي الذي يمثله وليام جيمس W. James :
      تكمن قيمة الحقيقة حسب الموقف البرجماتي المعاصر الذي يمثله وليام جيمس في كل ما هو نفعي، عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا. من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. والأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها واقعيا، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة. وعموما، يرى وليام جيمس، أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على الأشياء؛ فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود مثلما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من قوى الطبيعة.
وهكذا يقدم لنا وليام جيمس تصورا أداتيا للحقيقة، أصبحت معه هذه الأخيرة مجرد أداة للعمل وتحقيق منافع مختلفة قد تتغير بتغير الظروف والأحوال، مما يعطي للحقيقة طابعا نسبيا ومتجددا.
أما فريدريك نيتشه فقد اعتبر أن ما كان يعتقده الناس لأزمان طويلة على أنه حقائق مطلقة ومقدسة إن هي في واقع الأمر إلا أوهام نسي الناس لطول العهد أنها كذلك، والوهم أخطر من الخطأ لأن الخطأ يمكن اكتشافه وتصحيحه بينما الوهم ينتج عن الرغبة. وللوهم في نظر نيتشه مصدرين أساسيين:
المصدر الأول: يتمثل في حاجة الإنسان إلى الهدنة والسلم الاجتماعيين من أجل الحفاظ على بقائه، لذلك نجد الإنسان يتحايل مستعملا عقله للإخفاء والكذب والتمويه، ليس من أجل الكشف عن الحقيقة بل من أجل إخفائها وحماية الذات من البطش.
المصدر الثاني: يتمثل في اللغة التي هي عبارة عن استعارات وكنايات ومجازات عن الواقع، لذلك فهي تحجب عنا الحقيقة الفعلية للأشياء. وهكذا تلعب اللغة دور إخفاء حقائق الأشياء لا الكشف عنها، وهو الأمر الذي يؤشر على الارتباط القوي الموجود بين الحقيقة والوهم وصعوبة الفصل بينهما بحيث أن الفرق بينهما هو فرق في الدرجة فقط ما دام أن هناك درجة من درجات الوهم نعتبرها حقيقية ودرجات أخرى نعتبرها أوهاما.
وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بضدها الذي هو الوهم من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى، وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة في ذاتها بل يطمع في العواقب الحميدة التي تنجم عنها.   

ملخص مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

إشكالية العلمية
 في العلوم الإنسانية



إن كل المواضيع التي  تدرسها الفلسفة لها علاقة وطيدة بالإنسان، ولذلك فقد اعتبر الفيلسوف كانط بأن السؤال المركزي في الفلسفة هو: ما الإنسان؟
غير أن ما وقع هو ظهور علوم تسمى بالعلوم الإنسانية، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، انفصلت منذ بداية القرن التاسع عشر عن الفلسفة، وحاولت دراسة الظواهر الإنسانية بمناهج العلوم التجريبية التي تدرس الظواهر الطبيعية. غير أن اختلاف موضوع العلوم الطبيعية عن موضوع العلوم الإنسانية طرح إشكالين رئيسيين في مجال العلوم الإنسانية؛ هما إشكال موضعة الظاهرة الإنسانية من جهة، وإشكال المنهج المعتمد في دراستها من جهة أخرى.
إن الظاهرة الإنسانية هي ظاهرة معقدة وواعية ومتعددة الأبعاد، كما أنها ظاهرة متغيرة وتتداخل فيها الذات مع الموضوع. وهذا ما يطرح إشكال موضعتها، والذي يمكن أن نتساءل بصدده عن إمكانية جعل الظاهرة الإنسانية موضوعا قابلا للدراسة العلمية الدقيقة، كما يطرح إشكال المنهج المعتمد في دراستها. هكذا نجد بعض العلماء قد انبهروا بالنتائج التي حققتها العلوم الطبيعية، مما دفعهم إلى محاولة تطبيق مناهجها على الظواهر الإنسانية، كما نجد علماء آخرين حاولوا ابتكار مناهج تلائم الظاهرة الإنسانية، وتختلف عن المناهج المعتمدة في علوم الطبيعة. فالفريق الأول، متمثلا في النزعة الوضعية أساسا، حاول تطبيق منهج التفسير الموضوعي المستلهم من العلوم التجريبية، بينما اعترض الفريق الثاني على إمكانية تطبيق منهج التفسير على الظاهرة الإنسانية واقترح منهجا آخرا يناسب خصوصيتها هو منهج الفهم أو المنهج التفهمي .
انطلاقا من كل هذا يمكن الحديث عن إشكالين رئيسيين في هذا الدرس هما:
إشكال موضعة الظاهرة الإنسانية: والذي يطرح مدى إمكانية عزل الموضوع عن الذات في مجال الظواهر الإنسانية، ومدى قابلية هذه الأخيرة لكي تصبح موضوعا للدراسة العلمية الموضوعية الدقيقة.
وإشكال المنهج في العلوم الإنسانية: ويتعلق بالبحث عن المنهج المناسب الذي يجب اعتماده في دراسة الظاهرة الإنسانية؛ فهل يتمثل هذا المنهج في تفسيرها أم فهمها؟ هل هو منهج التفسير أم منهج الفهم ؟ وهل يمكن اتخاذ منهج التفسير السائد في العلوم التجريبية كنموذج للاستلهام والتطبيق في مجال العلوم الإنسانية أم يجب ابتكار مناهج تلائم طبيعة الظواهر الإنسانية ؟

1-    موضعة الظاهرة الإنسانية:

حينما نتحدث عن موضعة الظاهرة الإنسانية فإن الأمر يتعلق بطموح يتمثل في محاولة جعلها موضوعا قابلا للدراسة العلمية الموضوعية، وحيث أن الموضوع في العلوم الإنسانية هو الذات نفسها؛ أي أن الذات الدارسة هي الموضوع المدروس أو على الأقل هناك تداخل بينهما، فإن مسألة الموضعة الخاصة بالظاهرة الإنسانية تطرح عدة صعوبات وعوائق؛ فهل يمكن عزل هذه الظاهرة عن الذات والتعامل معها كموضوع قابل للدراسة العلمية الدقيقة؟ وما هي الإجراءات والشروط الكفيلة بموضعة الظاهرة الإنسانية ؟ وهل يمكن الحديث عن عوائق تعترض عملية الموضعة هاته ؟
لقد ارتبط طموح الوصول إلى العلمية في العلوم الإنسانية  بسعي الاتجاه الوضعي إلى موضعة الظاهرة الإنسانية وتطبيق منهاج العلوم التجريبية عليها. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم الذي دعا إلى التعامل مع الظواهر الاجتماعية كأشياء، وهذا ما يسمى بتشييء الظاهرة الإنسانية أي إفراغها من محتوى الوعي، خصوصا وأن عالما أنثروبولوجيا مثل كلود ليفي ستراوس يعتبر بأن الوعي عدو العلم.
وهكذا فقد حاول دوركايم موضعة الظاهرة الإنسانية وفصلها عن الذات الدارسة، سعيا منه إلى تفسيرها تفسيرا موضوعيا عن طريق استبعاد العوامل الذاتية والتركيز فقط على العوامل الموضوعية والواقعية القابلة للملاحظة والقياس والتعميم. ولهذا فالظاهرة الاجتماعية حسب دوركايم تتميز بخاصية الخارجية؛ أي أنها توجد خارج الذات ويمكن ملاحظتها مثل أي موضوع آخر، وهذا ما يسمح بتحقيق العلمية والموضوعية المطلوبة في دراسة الظاهرة الاجتماعية. كما تتميز هذه الأخيرة بصفة القهر والإلزام؛ أي أنها توجد خارج وعي الأفراد وتمارس عليهم إكراها ولا دخل لهم في إحداثها، وهذا ما يمكن من موضعتها وتفسيرها انطلاقا من عوامل موضوعية وخارجية مع استبعاد كلي لأية عوامل ذاتية وباطنية.
 لقد استبعدت النزعة الوضعية مع دوركايم إذن منهج الاستبطان، وحاولت كنزعة علموية تجريبية الاقتداء بمناهج العلوم الطبيعية، مما جعلها تدعو إلى موضعة الظاهرة الاجتماعية مثلما يموضع علماء الطبيعة موضوعاتهم. لكن ألا يمكن القول بأن طموح الموضعة في العلوم الإنسانية صعب المنال نظرا لاختلاف الظاهرة الإنسانية عن الظاهرة الطبيعية ؟ 
لقد اعتبر عالم النفس جون بياجي j.Piaget  أن العلوم الإنسانية لا زالت في بدايتها، وأن طموح الموضعة لا زال لم يتحقق بعد، وهذا ما يستوجب من الباحثين والعلماء في مجال العلوم الإنسانية بذل مجهودات مضاعفة قصد تطوير أدواتهم ومناهجهم قصد تحقيق الدقة والعلمية المنشودة.
غير أن موضعة الظاهرة الإنسانية تطرح حسب جون بياجي عدة عوائق يمكن تقديمها كما يلي:
-  عدم تشابه الظاهرة الإنسانية مع الظاهرة الطبيعية؛ إذ أنها ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد وفريدة من نوعها.
-  يتأثر الباحث في العلوم الإنسانية بالموضوع الذي يدرسه لأنه جزء منه، ويصعب عليه أن يدرسه بحياد ونزاهة وموضوعية.
-  كما قد يؤثر الباحث في الظاهرة الإنسانية؛ فيغير من طبيعتها ويفهمها فهما خاصا، مما يجعل النتائج تختلف من باحث لآخر ويجعل إمكانية التعميم متعذرة.
-  يتداخل الموضوع في العلوم الإنسانية مع الذات ويصعب الفصل بينهما، وهذا بخلاف العلوم الطبيعية التي يمكن فيها فصل الذات عن الموضوع.
-  يتمركز الباحث في العلوم الإنسانية حول ذاته؛ أي أنه يقدم رؤيته للظاهرة الإنسانية المدروسة انطلاقا مما يحمله في ذاته من مشاعر وأفكار ومعتقدات، ترتبط بالتزامه بمواقف فلسفية أو مذاهب إيديولوجية أو عقائدية. وهذا ما يجعل الباحث يسقط  تصوراته الذاتية على الظاهرة ويجعل تحقيق الموضوعية مسألة غاية في الصعوبة.
-  إن انخراط الذات في الموضوع يجعلها تعتقد في نوع من المعرفة الحدسية  بالموضوع، وهذا مخالف للمناهج والتقنيات العلمية التي من شأنها أن تحقق الموضوعية المتوخاة.
وهكذا بين جان بياجي كيف أن الذات الملاحظة في العلوم الإنسانية تكون جزءا من الظاهرة التي تدرسها. وهذا ما يطرح مشكل تداخل الذات مع الموضوع ويحول دون إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية.
وصعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية تطرح إشكالا آخرا يرتبط بمنهج دراستها. ونحن نجد أن أنصار الموضعة من الوضعيين  يسعون إلى محاولة تفسيرها بإرجاعها إلى عوامل موضوعية، في حين نجد معارضيهم يتهمونهم بإغفال العوامل الذاتية وهي العوامل التي تتطلب تفهما حقيقيا للظاهرة الإنسانية من أجل النفاذ إلى أسبابها الباطنية.

2-    نموذج المنهج في  العلوم الإنسانية: التفسير والفهم.

إذا كان إشكال الموضعة يتعلق بموضوع العلوم الإنسانية، فإننا سنتناول هنا مسألة ميتودولوجية تتعلق بمنهج دراسة ذلك الموضوع. فبأي منهج يمكن للعلوم الإنسانية أن تتناول موضوعها؟ وإذا كان موضوعها هو الظاهرة الإنسانية، وهي ظاهرة فريدة ومتميزة عن الظاهرة الطبيعية، فهل يمكن للعلوم الإنسانية أن تدرس موضوعها باستلهام منهج التفسير السائد في العلوم التجريبية أم أنها مطالبة بابتكار منهج يلائم خصوصية الظاهرة الإنسانية؟ وهل المنهج الملائم للظاهرة الإنسانية هو منهج التفسير أم منهج الفهم؟ وما هي المرتكزات والخصائص التي تميز كلا المنهجين؟
2-1-        منهج التفسير:
إن التفسير هو المنهج المفضل في العلوم التجريبية، وهو يتجلى في الكشف عن العلاقات الثابتة التي توجد بين الحوادث والوقائع واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها. وقد حققت العلوم الطبيعية نتائج باهرة باعتمادها على منهج التفسير العلمي الذي يرتكز على تقنيات منهجية كالملاحظة والقياس والتجريب، كما يسمح بتكميم النتائج وتعميمها. ولهذا السبب فقد حاولت النزعة الوضعية في مجال العلوم الإنسانية استلهام منهج التفسير من العلوم التجريبية واعتماده كنموذج للتطبيق في مجال الظواهر الإنسانية، رغبة منها في تحقيق الدقة والموضوعية والابتعاد ما أمكن عن التفسير الميتافيزيقي والمنهج التأملي الذي كان معتمدا في الفلسفة.
وفي هذا الإطار نجد إميل دوركايم، كأحد ممثلي الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع، يعتمد منهج التفسير الموضوعي في دراسته للظواهر الاجتماعية، وذلك بأن دعا إلى تشييئها والتعامل معها كمجرد أشياء خارجية، والعمل على موضعتها وفصلها عن الذات الدارسة.
وهكذا فقد رفض دوركايم اعتماد منهج الاستبطان والتأمل في دراسة الظواهر الاجتماعية، واعتمد بالمقابل على منهج التفسير الموضوعي الذي بموجبه يتم ربط الظواهر الاجتماعية بأسباب وعوامل موضوعية هي السبب في حدوثها، وهي عوامل واقعية قابلة للملاحظة والقياس والتعميم.
ويمكن تقديم ظاهرة الانتحار كمثال لظاهرة سوسيولوجية طبق عليها دوركايم منهج التفسير الموضوعي؛ حيث قام دوركايم بدراسة هذه الظاهرة في مجموعة من الدول الأوروبية، وانتهى إلى أنها تتحدد بعوامل موضوعية تتمثل أساسا في التماسك الديني والتماسك السياسي والتماسك الأسري، إذ أن ارتفاع عدد المنتحرين أو انخفاضهم يتحدد بحسب قوة أو ضعف هذا التماسك.
ومن هنا استبعد دوركايم العوامل الذاتية والباطنية في تفسير الظاهرة الاجتماعية، وذلك لصالح العوامل الموضوعية القابلة للملاحظة والقياس.
 ويمكن الإشارة هنا أيضا إلى المدرسة السلوكية في علم النفس، إذ أنها هي الأخرى استبعدت منهج الاستبطان الذاتي وتبنت تفسيرا موضوعيا للسلوك الإنساني، يتمثل في رصد العلاقات الموجودة بين المثيرات والاستجابات والكشف عن القوانين التي تحكمها، وهي قوانين يتم التوصل إليها باعتماد تقنيات القياس والملاحظة وتكرار التجارب في محاولة للوصول إلى الموضوعية والدقة العلمية في دراسة السلوك البشري.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا  هو: ألا يؤدي تشييء الظواهر الإنسانية، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو غير ذلك، إلى إفقارها وإفراغها من محتواها الحقيقي؟ أو ليس لهذه الظواهر أسباب باطنية وذاتية مثلما أن لها أسباب خارجية وموضوعية؟ ألسنا في حاجة إلى تفهم الظواهر الإنسانية عوض الاكتفاء بتفسيرها؟
2-2-        منهج الفهم:
نظرا لخصوصية الظاهرة الإنسانية وتعقدها فقد واجه منهج التفسير عدة عوائق في محاولته لدراستها والإحاطة بها. ومن أهم هذه العوائق هو وجود أسباب باطنية وذاتية ترجع إلى محتوى الوعي، تكون هي المحدد الأساسي لبعض الظواهر الإنسانية إضافة إلى العوامل الموضوعية. وإذا كان منهج التفسير يسمح برصد المحددات الموضوعية، فإن المحددات والعوامل الذاتية تحتاج إلى منهج آخر مغاير هو الذي يسمى بمنهج الفهم أو المنهج التفهمي. وهذا ما يتجلى في عبارة ديلتاي Dilthey الشهيرة: «إننا نفسر الطبيعة، لكننا نفهم ظواهر الروح». فإذا كان الموضوع في العلوم الطبيعية ماديا ومعزولا عن الذات، فإن الموضوع في العلوم الإنسانية مرتبط بالذات وجزء لا يتجزأ منها. ولهذا يبدو أنه لا يمكن تفسير الظواهر النفسية وإجراء التجربة عليها، بل لا بد من تفهمها عن طريق منهج الفهم الذي يعتمد الحدس والاستبطان والتأويل ...
والفهم حسب السوسيولوجي الفرنسي جول مونرو Jules Monnrot  «هو إدراك لدلالة معيشية تعطانا كتجربة بديهية». ومن هنا فهدف المنهج التفهمي هو إدراك دلالات الأفعال عن طريق ربطها بالمقاصد والنوايا الذاتية لأصحابها والفاعلين لها، ولذلك فهو منهج يعتمد حسب مونرو على البداهة والحدس؛ فنحن نفهم بعض الحوادث بالبداهة كأن ندرك أن الشخص يكون غاضبا حينما يتم الاعتداء عليه، أو أن نتبين رفضه من خلال قسماته الجسدية. فما يكون بديهيا يكون واضحا ويحتم إدراكه بشكل مباشر، دون الحاجة إلى تفسيره بالاعتماد على طرائق وإجراءات موضوعية.
إن فعل الفهم حسب مونرو هو فعل عفوي مباشر، إنه رؤية نافذة تدرك الظاهرة الإنسانية كظاهرة وجودية ووجدانية يتعين تفهمها والكشف عن المعاني والدلالات التي نستخلصها منها على نحو مباشر، دون الاعتماد على أية استدلالات أو تجارب استقرائية من شأنها أن تضعف الظاهرة وتعمل على تقويضها.
 وفي نفس السياق، تبنى ماكس فيبر Max Weber منهجا تفهميا في دراساته السوسيولوجية، حيث بين أن الترابطات والانتظامات المميزة للسلوك البشري تقبل فقط أن تكون موضوع تأويل تفهمي. فالسلوك الإنساني يتميز حسب السوسيولوجيا التفهمية عند ماكس فيبر بمقاصد ودلالات ذاتية يتعين إدراكها لدى الفاعل المعني من جهة، كما يتميز بخاصية البينذاتية نظرا لارتباطه بسلوك الغير من جهة أخرى. ولهذا لا يمكن معرفته كسلوك إلا بطريقة تفهمية تكشف عن الدلالات والمعاني المقصودة ذاتيا من طرف الفاعل.
 إن منهج الفهم يعتمد على التأويل، ولذلك فهو يفرض نفسه كثيرا في مجال علم النفس التحليلي إذ تتطلب الظواهر النفسية التي يدرسها، كالهستيريا والقلق والأحلام مثلا، تأويلا للعلامات والرموز التي تميزها من أجل الكشف عن دلالاتها ومعانيها الباطنية والحقيقية. كما يتطلب الأمر أحيانا ضربا من التعاطف الذي ينبغي أن يقيمه المحلل النفسي مع مريضه لكي يتفهم مشاكله النفسية وينفذ إلى أعماقها.
  وهكذا يمكن القول مع غاستون غرانجي  Gaston Granger أن فعل العقل في الظواهر الإنسانية يتراوح بين منهجين أساسيين هما: التفسير الذي يستهدف الكشف عن العلاقات الثابتة التي تربط بين الوقائع الإنسانية، والفهم الذي يرمي إلى حدس الإحساس وتأويل الفعل الإنساني للكشف عن معانيه ودلالاته. ولهذا يبدو أنهما منهجان متكاملان لا يمكن الاقتصار على أحدهما دون الآخر في دراسة الظواهر الإنسانية. والرهان الصعب يتمثل في كيفية المزاوجة بينهما على نحو فعال يمكن من فهم حقيقي للظاهرة الإنسانية في أبعادها المختلفة.



الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

النظرية والتجربة

 النظرية والتجربة




ورد في معجم روبير بأن النظرية "هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص". وفي معنى ثان النظرية " بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي". كما ورد في المعجم الفلسفي لأندري لالاند بأن النظرية "هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ". هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.
أما التجربة فيمكن القول بأنها في معناها العلمي هي مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وهي تقتصر على الممارسة العلمية الدقيقة كممارسة تتأسس فيها المعرفة على التجريب العلمي. أما التجربة في معناها العام فهي توجد في أساس كل معرفة إنسانية، وهي تعبر عن الخبرة التي يكتسبها الإنسان من خلال احتكاكه بالواقع وبالآخرين.
وهنا يطرح إشكال أساسي يتعلق بأشكال التمييز بين التجربة بمعناها العام والتجربة بمعناها العلمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالتجريب. كما تطرح علاقة النظرية بالتجربة عدة إشكالات إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية الدقيقة.

1-     المعرفة بين التجربة المباشرة والتجريب العلمي:

إن الإشكال يتعلق في هذا المحور بتحديد الفرق بين التجربة والتجريب، وذلك بالوقوف عند طبيعة المعرفة المرتبطة بكلا المفهومين. فحينما نتحدث عن التجربة فإننا نشير إلى معنيين  رئيسيين؛ الأول يتعلق بالتجربة في معناها العام بحيث نتحدث عن تجارب سياسية وعاطفية ودينية وتاريخية وما إلى ذلك، وبهذا المعنى فالتجربة تحيل إلى ما يسمى بالخبرة الإنسانية التي يعيشها الإنسان في الواقع وبكيفيات مختلفة. أما المعنى الثاني فيتعلق بالتجربة العلمية التي تتم وفق أدوات ومناهج علمية خاصة، وهذا المعنى الأخير هو ما يشير إليه مفهوم التجريب العلمي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هو مفهوم التجربة؟ وما هو مفهوم التجريب؟ وأين يكمن الفرق بين طبيعة المعرفة المرتبطة بكل منهما ؟
يرى فردناند ألكيي أن التجربة تشير إلى وقائع متمايزة عن الذات، وأن هذه الأخيرة تخضع لها وتتقبلها بشكل سلبي دون تدخل أي اصطناع أو بناء من طرف الفكر. هكذا تنتج لنا التجربة معرفة معطاة وليست مبنية، كما أنها تكون موضع معاينة مباشرة من طرف الذات التي تعيش أثناءها نوعا من الخضوع والمعاناة والتقبل السلبي.
وهكذا فالمفهوم الفلسفي للتجربة عند ألكيي (Ferdinand.Alquié) يشير إلى المعاينة الخالصة والمباشرة للواقع من طرف الذات، بحيث يغيب أثناءها فعل التجريب الذي تقوم خلاله الذات بإخضاع المعطى الواقعي لصالحها وتعمل على استنطاقه وبناء معرفة بصدده عن طريق تدخل الفكر. وهذا ما سيجعلنا نقدم مزيدا من التمييز بين مفهومي التجربة والتجريب.
 يرى ألبير جاكار (Albert.Jacquard) أننا لا نرى العالم بأعيننا، بل ندركه بمفاهيمنا. فالعقل العلمي الذي يستند على مفهوم التجريب هو الذي يجعلنا نعتبر مثلا أن الشمس نجما من النجوم، وذلك ضد بداهة الإدراك الحسي الذي يرتكز على التجربة والخبرة الحسية العادية. كما أن سقوط التفاحة هو مجرد واقعة حسية عادية، في حين أن دوران الأرض حول الشمس هو نظرية ثم إثباتها من خلال مجموعة من البراهين والوقائع العلمية التي تثبت صحتها.
فالتجريب يعبر إذن عن تلك العمليات التي يقوم بها العقل، بواسطة أدواته العلمية، من أجل السيطرة على المعطيات الحسية واستنطاقها والربط بينها وفق شروط معينة، وصولا إلى إنتاج نظريات علمية. وهنا يدعونا ألبير جاكار إلى التمييز بين التجربة التي تعبر عما يعطانا مباشرة من قبل الظواهر الطبيعية، وبين التجريب الذي يقوم من خلاله العالم بإخضاع معطيات الواقع الطبيعي لشروط يمليها ويحددها الفكر العلمي.
وفي نفس السياق يؤكد ألكسندر كويري (A.Koyré) أن التجربة بمعناها الخام أو باعتبارها مجرد ملاحظة عامية لم يكن لها أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، بل إنها شكلت عائقا أمام تبلور النظريات العلمية. ولذلك فقد اعتمد هذا العلم على التجريب باعتباره مساءلة منهجية للطبيعة، يعتمد فيها على لغة رياضية وهندسية قادرة على قراءة كتاب الطبيعة وتحديد العلاقات الثابتة بين ظواهرها. ولذلك يرى كويري أن العلم الكلاسيكي تميز بإضفاء الصفة الهندسية على المكان، وتجاوز الانطلاق من الكوسموس أي ما تقدمه لنا الحواس مباشرة.
إن التجريب العلمي إذن يتجاوز التجربة العادية ويقطع معها، لأنه يتأسس على مبادئ عقلية ومناهج علمية وأدوات تمكن من بناء المعطى الطبيعي وتسائله انطلاقا من الفكر من أجل بناء معرفة جديدة بصدده، وهي المعرفة التي لا يمكن للتجربة الحسية أن تدركها ما دامت تقف عند ما هو معطى وظاهري وتتقبله بشكل سلبي.
وقد حدد كلود برنار Claude.Bernard)) التجريب باعتباره «فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة، وهو الأساس العملي وبشكل ما الجزء التنفيذي للمنهج التجريبي». وهذا يبين ارتباط التجريب العلمي بالمنهج التجريبي بحيث يمثل تطبيقا فعليا له. 
ويتحدد المنهج التجريبي عند كلود برنار من خلال مجموعة من الخطوات؛ حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج، ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها.
  انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة.
 ومن هنا تبين هذه الخطوات كيف يتضمن التجريب العلمي إعمالا حقيقيا للفكر وللعقل من أجل استفزاز الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، في حين تظل التجربة بمعناها العام تقبلا لما يحدث لنا ويؤثر فينا من وقائع خارجية.
فالتجربة تجعل الإنسان في موقف المنفعل، في حين يجعله التجريب في موقف الفاعل. كما تقف التجربة عند حدود ما هو معطى وظاهري، في حين يستنطق التجريب الظواهر ويبني بصددها معرفة جديدة وعميقة، لا يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة العامية المباشرة.  

2-    العقلانية العلمية وإشكال المعرفة بين العقل والتجربة:

يمكن القول عموما بأن مفهوم العقلانية يحيل في تاريخ الفلسفة إلى تلك النزعة التي تمنح للعقل الأولوية في إنتاج المعرفة، ولذلك يقابله مفهوم التجريبية كنزعة تقول بالتجربة كمصدر يمد العقل بالمعارف والأفكار. والواقع أننا نجد في تاريخ الفلسفة مجموعة من العقلانيات لا عقلانية واحدة؛ إذ يتم الحديث مثلا عن عقلانية موضوعية عند أفلاطون، وذاتية عند ديكارت، وقبلية عند كانط، ومطلقة عند هيجل...الخ. لكن ما يجمع بينها جميعا هو تأكيدها على أولوية العقل على التجربة في عملية إنتاج المعرفة، كما أنه يمكن إدراجها جميعا تحت ما يسمى بالعقلانية الكلاسيكية التي تقول بعقل كوني وثابت؛ حاصل على مبادئ فطرية أو قبلية قادرة على فهم الواقع وإنتاج معرفة بصدده بعيدا عن كل تجربة واقعية.
لكن حينما نربط مفهوم العقلانية بمفهوم العلمية، فإننا نتجاوز العقلانية الكلاسيكية بالمعنى الذي حددناه إلى عقلانية علمية معاصرة، تتجاوز الأولى وتراجع مبادئها في ضوء التطورات العلمية المعاصرة. وحينما نتحدث عن العقلانية العلمية المعاصرة، فإننا نكون بصدد مجموعة من الإشكالات الإبيستمولوجية التي تتعلق أساسا بدور كل من العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية المعاصرة. هكذا يمكننا التساؤل: ما هي خصائص العقلانية العلمية المعاصرة؟ وما دور كل من العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية المعاصرة؟ 
 2-1- تصور إنشتين: المعرفة العلمية إبداع حر للعقل البشري.
يؤكد إنشتين على أن النسق النظري للعلم المعاصر يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري. من هنا فالنظرية العلمية تبنى بناءا عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها.
 وهكذا يعتبر إنشتين أن العقل العلمي الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد، كفيل بإنشاء النظرية العلمية، وما التجربة إلا المرشد في وضع بعض الفرضيات من جهة، وفي تطبيقها من جهة أخرى. كما يؤكد على الدور الذي أصبح يلعبه العقل الرياضي في الكشف عن النظريات العلمية ابتداءا ودون أية تجارب سابقة. فالبناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعتبر مفتاحا لفهم الظواهر الطبيعية. وهذا ما يجعل العقل الرياضي هو المبدأ الخلاق في العلم، كما يجعل من العقلانية العلمية المعاصرة عقلانية مبدعة. وقد عبر إنشتين عن نزعته العقلانية بقوله: «إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع، كما كان يحلم بذلك القدماء».
2-2-        تصور رايشنباخ: المعرفة العلمية معقولة وليست عقلانية.
 تتميز المعرفة العلمية حسب رايشنباخ بأنها معقولة وليست عقلانية. فهو ينفي عنها صفة العقلانية التي تدل عنده على ذلك المذهب الفلسفي الذي يعتبر العقل وحده مصدرا للمعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة والتجربة، وينعتها بالمعقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة التجريبية التي تمدنا بها الملاحظة العلمية.
وهذا ما جعل رايشنباخ يرفض أن يكون العقل قادرا لوحده على إنتاج معرفة بالواقع الفيزيائي. ولذلك فهو ينتقد النزعة العقلانية الرياضية التي تعتقد أن للعقل قوة خاصة به يستطيع بواسطتها اكتشاف قوانين العالم الفيزيائي، ويرى أنها أقرب إلى النزعة الصوفية مادام أن القاسم المشترك بينهما هو استغناؤهما عن الملاحظة التجريبية، وانطلاقهما من رؤية حدسية وفوق حسية في بنائهما للمعرفة.
وعلى العموم فالملاحظة التجريبية عند رايشنباخ كفيلسوف وضعي هي المصدر الوحيد للمعرفة التركيبية المتعلقة بالواقع، أما دور العقل المنطقي والرياضي فيقتصر على القيام بوظيفة تحليلية لتلك المعرفة. من هنا فالمعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة، لكنها ليست "عقلانية" لأنها لا تعطي للعقل الأولوية في إنتاج المعرفة بل تمنح ذلك للملاحظة والتجربة.
2-3-        تصور غاستون باشلار: المعرفة العلمية هي نتاج حوار دائم بين العقل والتجربة.
يؤكد باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالفيزياء المعاصرة تتأسس في نظره على يقين مزدوج: الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع يوجد في قبضة العقل. أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. ومن هنا انتقد باشلار النزعة الاختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة هي مصدر بناء النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المنغلقة التي تصورت أن العقل قادر لوحده على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر باشلار أن بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين العقل والتجربة. هكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا بل منفتحا على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. من هنا ينعت باشلار فلسفته بالعقلانية المنفتحة وأيضا المطبقة، والتي تتم في إطار وعي غير معزول عن الواقع. لكن الواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناءا نظريا وعقليا.
وهكذا نستنتج أن العقلانية العلمية مخالفة تماما للعقلانية الكلاسيكية؛ إذ أنها لا تؤمن بثبات مبادئ العقل وإطلاقيتها، بل تقول بنسبيتها وضروة مراجعتها وإعادة النظر فيها انطلاقا من مستجدات الواقع العلمي الجديد.

3-        معايير علمية النظريات العلمية:

إن التساؤل حول معايير النظرية العلمية يفتح المجال مجددا للسجال بين النزعتين العقلانية والتجريبية حول تصورهما لأسس المعرفة، وأشكال التحقق من مدى صلاحيتها وقيمتها العلمية. فإذا كانت هناك مجالات معرفية متعددة، وإذا كان الواقع العلمي يختلف من حقل علمي إلى آخر، فإن إنتاج النظريات لا يتم وفق نفس المناهج ولا يخضع لنفس المنطلقات إذا ما انتقلنا من الرياضيات إلى الفيزياء، أو من الماكروفيزياء إلى الميكروفيزياء، أو من الفيزياء إلى البيولوجيا...، وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل يوجد معيار واحد نحدد من خلاله علمية النظرية وصلاحيتها في كل هذه المجالات العلمية أم أنه توجد معايير مختلفة ومتعددة؟ وأين تتحدد هذه المعايير؟ 
  3-1- تصور بيير دوهايم: معيار علمية النظرية هو قابليتها للتحقق التجريبي.                
يمثل دوهايم النزعة الوضعية التجريبية التي تؤكد على التجربة كمنطلق لبناء النظرية، كما تجعلها المعيار الوحيد لصحتها. هكذا يؤكد دوهايم على أن النظرية الصحيحة هي التي تعبر بدقة ووضوح عن مجموعة من القوانين التجريبية. لذلك فوظيفة النظرية الفيزيائية لا تكمن في تفسير الظواهر، مادام أن التفسير يحيلنا على مفهوم العلة أو المبدأ الميتافيزيقيين، بل تكمن في تقديم وصف للعلاقات الثابتة بين الظواهر الطبيعية. وتتجلى وظيفة الوصف هاته في احتواء النظرية على مبادئ تمثل بكيفية صحيحة مجموعة من القوانين التجريبية.
وهكذا فمعيار صلاحية النظرية هنا هو مبدأ التحقق التجريبي الذي يعبر عنه دوهايم بقوله: «إن الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة».
3-2-        تصور إنشتين: معيار صلاحية النظرية هو الانسجام المنطقي.
إذا كانت النزعة الوضعية مع دوهايم تحدد معيار صلاحية النظرية في مبدأ التحقق التجريبي، فإن نزعة إنشتين الرياضية العقلانية جعلته ينفي أن تكون التجربة هي المعيار الذي يحدد صدق النظرية العلمية؛ إذ لا يمكن في نظره اعتبار التجربة هي نقطة انطلاقنا في إنتاج معرفة حول الواقع، بل إن العقل الرياضي هو مفتاح فهم الظواهر الطبيعية.
وهكذا فالنتائج الخاصة بالنسق العلمي في الفيزياء النظرية يتم استنباطها منطقيا من المفاهيم والقوانين المكونة لها، وهذه النتائج المستنبطة عقليا هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا وليس العكس. فالعقل هو الذي يمنح للنسق في الفيزياء النظرية بنيته، وعلى المعطيات التجريبية أن تكون مطابقة لنتائج النظرية التي تم التوصل إليها عن طريق الاستنباط المنطقي.
 إن تعقد الواقع العلمي هو الذي جعل للعقل مثل هذا الدور الخلاق في بناء النظريات العلمية، وغالبا ما تتطابق نتائج العقل الرياضي مع ما تؤكده التجربة، إلا أنه قد تفشل هذه الأخيرة في التحقق من صحة ما هو نظري، وهذا لا ينقص من قيمة كشوفات العقل بل قد يرجع إلى محدودية وسائلنا وأدواتنا في فهم الواقع. 
وهذا ما جعل إبيستملوجي ككارل بوبر يعتبر أن النظرية العلمية غير قابلة للتحقق التجريبي بشكل نهائي، وهذا سر علميتها، بل إنها قابلة دوما للتكذيب في أية لحظة.
3-3-        تصور كارل بوبر: معيار علمية النظرية هو قابليتها للتكذيب.
إن معيار علمية النظرية عند كارل بوبر هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب. هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات الكامنة فيها. ويرى بوبر أنه يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار، لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها. أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير قابلة للاختبار. وهذا أيضا هو الذي يميز النظريات العلمية عن أشباه النظريات العلمية كالماركسية أو التحليل النفسي مثلا.
 إن الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث عن وقائع تجريبية تكذبها.