الاثنين، 25 سبتمبر 2017

ما الإنسان ؟

ما الإنسان ؟

بقلم: محمد الشبة


Henri Freidrich Füger
"بروميثيوس يحمل النار للإنسانية"، 1817م.

لا تجد الإنسان العادي يتساءل: من أنا؟ لأنه يتوهم أنه يعرف نفسه جيدا. فقد يقول لك مثلا: أنا علي، مغربي، أسكن في مدينة الدار البيضاء، في الحي الحسني، وأبي اسمه سليمان، وأمي اسمها عائشة، وطولي متر ونصف، ووزني 72 كيلوغرام...الخ. فأنا أعرف نفسي جيدا، ولا أحتاج إلى التساؤل عن ذاتي أو البحث من أجل معرفة من أكون.
ومن هنا يعتقد الإنسان العادي أنه يعرف نفسه، وأن هذه المعرفة أمر عادي وبديهي، ولا يحتاج إلى تساؤل. لكن الفيلسوف على العكس من ذلك، يتساءل حول أشياء عديدة تنتمي إلى الحياة اليومية للإنسان، ويعتبرها العوام من البديهيات أو الجليات الواضحات، ويطرح حولها أسئلة من أجل تحصيل معرفة بها، واستكناه أسرارها.

روني ديكارت
(1596-1605)
«أي شيء أنا الآن إذن؟ أنا "شيء مفكر"، وما الشيء المفكر؟ إنه شيء يشك، ويفهم ويتصور، يثبت وينفي، ويريد ويتخيل ويحس أيضا.»(1)

ومن بين هذه البديهيات التي يتساءل حولها الفيلسوف هي الاعتقاد السائد بأننا نعرف أنفسنا جيدا. ولذلك يتساءل الفيلسوف: من أنا؟ ما الإنسان؟
وإذا كان السؤال الفلسفي سؤالا عميقا وجذريا، يذهب إلى جذور الأشياء ولا يقف عند مستوى السطح، وإذا كان سؤالا شموليا وكليا لا يهتم بالحالات الجزئية والفردية، فإننا نجد الفيلسوف يطمح إلى أن يصل إلى جواب يقدم من خلاله معرفة عامة تعرف بالإنسان كإنسان، بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بين الناس من الناحية العرقية أو الدينية أو الوطنية أو غيرها. ولذلك فقد حاول الفلاسفة أن ينطلقوا من الخصائص المشتركة بين الناس، لكي يقدموا تعريفا للإنسان يكون قابلا لكي ينطبق على جميع أفراد النوع البشري. وقد وجدوا أن الناس يمتلكون جسما عضويا تتحكم فيه الكثير من الدوافع الغريزية، التي تشبه تلك الموجودة عند الحيوانات، كالنوم والأكل والشرب والتنفس والتوالد، ولذلك عرفوا الإنسان بأنه حيوان؛ أي أن الإنسان ليس إلها أو ملاكا أو جنا أو حجرا أو شجرا..، بل هو حيوان يشترك مع باقي الحيوانات غير العاقلة في العديد من الخصائص الفطرية والغريزية. لكن الفلاسفة، بطبيعة الحال، اعتبروا الإنسان حيوانا عاقلا، وميزوه عن غيره من الحيوانات بملكة فطرية وطبيعية موجودة عنده ولا توجد عند غيره من الحيوانات، وهي ملكة العقل. ولذلك قال العديد من الفلاسفة بأن الإنسان حيوان عاقل. وبطبيعة الحال، فخاصيتا الحيوانية والتعقل هما خاصيتان مشتركتان بين جميع الناس، ولذلك فهذا التعريف ينطبق على جميع أفراد النوع البشري.

(384-322 قبل الميلاد)
«الإنسان حيوان ناطق»

وحينما عرف الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو الإنسان بأنه "حيوان ناطق"، فإنه كان يقصد من جهة أنه يتميز عن باقي الحيوانات والكائنات بملكة النطق، التي هي ملكة العقل، ولذلك فحيوان ناطق تعني كائنا حيا عاقلا. لكن من جهة أخرى، فنعت "ناطق" قد تعني يتكلم؛ أي أنه حيوان لغوي له القدرة على الكلام والتعبير عن مشاعر وأفكار بكيفية لا نجد لها مثيلا عند الحيوانات غير العاقلة، التي تظل اللغة عندها حسية وبسيطة وذات وظائف بيولوجية لا أقل ولا أكثر.
وهكذا، فقد تأمل الفيلسوف في حياة الناس فوجدهم يتكلمون بلغات عديدة، ويركبون بين كلماتها ورموزها من أجل إنتاج أفكار متنوعة ولانهائية. ولذلك، اعتبر العديد من الفلاسفة أن الإنسان كائن لغوي، وأنه يضع بينه وبين العالم شبكة من الرموز يعبر من خلالها عن ذاته وعن تصوراته تجاه ما يدركه في العالم الخارجي.

إرنست كاسيرر (1874-1945م)
«لقد أحاط الإنسان نفسه بأشكال لغوية، وصور فنية، ورموز أسطورية.. إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى أو يعرف شيئا دون هذا العنصر المتوسط، المصطنع.»(2)

ولعل هذا ما جعل الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر يعتبر أن الإنسان حيوان رامز؛ أي أنه يعبر عن مشاعره وأفكاره باستخدام رموز مختلفة، من أهمها الرموز اللغوية والكلامية والرياضية والفنية.
فالإنسان إذن كائن عاقل وكائن لغوي؛ وهما خاصيتان تنطبقان على جميع الناس. فبالرغم من أننا نجد بعض الناس يصابون بأمراض عقلية، فإن هذه تعتبر حالات خاصة لا تلغي القاعدة العامة التي بموجبها يعتبر الإنسان كائنا عاقلا. كما أن تعرض الشخص لخلل في التفكير، أو إصابته بمرض عقلي، أو نعت الآخرين له بالحمق والجنون، لا يعني أنه فقد العقل نهائيا، أو أنه لم تعد له القدرة على التعقل والتفكير، بل اعتبر بعض الفلاسفة أن "الأحمق هو الذي فقد كل شيء إلا عقله"؛ فالأحمق قد يفقد زوجته وأولاده، وظيفته وممتلكاته، لكنه لم يفقد بعد عقله مادام قادرا على الكلام والتركيب بين الكلمات، من أجل إنتاج أفكار معينة قد لا يقبلها المجتمع ولا يستسيغها "العقلاء"، ولكنها تظل مع ذلك أفكارا تدل على أن صاحبها المسمى "أحمقا" لا يزال يشغل ملكة العقل وينتج أفكارا تحمل دلالات خاصة.
فالأحمق أو المجنون إذن لا يزال إنسانا، ولا زال يحتفظ بقيمته كإنسان، ولذلك من الصعب أن نتعامل معه كحيوان أو كشيء؛ أي اعتباره مجرد وسيلة لتحقيق أغراض معينة. فإذا كنا مثلا نذبح الدجاج، أو نركب على الحمار، أو ندوس على الحشرة، فإنه لا يمكن أن نفعل نفس الأمر بالإنسان المسمى "أحمقا". ولعل هذا يعني أنه لا يزال يمتلك "كرامة" إنسانية ما تلزمنا بالتعامل معه تعاملا خاصا يختلف عن تصرفنا مع الأشياء أو الحيوانات.
وبالرغم كذلك من أننا نجد أن بعض الناس يفقدون، لهذا السبب أو ذاك، القدرة على الكلام كالصم والبكم، فإننا نجدهم يعوضون الكلام بإشارات يستطيعون بواسطتها التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم. وهذا يعني أن الإنسان كائن لغوي وكائن رامز، وأنه يستخدم العديد من الرموز للتعبير عن ذاته. واستخدام اللغة والكلام لدى الإنسان له علاقة قوية بانفراده بملكة العقل، التي تجعله كائنا عاقلا وواعيا ومفكرا.

 وبطبيعة الحال، فلغة الإنسان وعقله يتمظهران من خلال أعمال ومنجزات يقوم بها الإنسان؛ من قبيل إنتاجاته الأدبية والفنية كالشعر والرواية والرسم، وإبداعاته الفكرية سواء كانت فلسفية أو دينية أو علمية، أو من خلال اختراعات تقنية وصناعية هي أدوات وآلات تقنية لا حصر لها، أو من خلال أنماط عيش مختلفة ومتنوعة كالمساكن والملابس والعادات والتقاليد وغير ذلك. وهذا ما لا نجده في عالم الحيوانات غير العاقلة؛ إذ نجدها تحيا نمط عيش قار وثابت، وتتحكم في أفعالها دوافع ومحددات غريزية تجعلها تتصرف حتما بهذا الشكل أو ذلك، مما يعني أنها مقيدة بغريزتها ولا تملك حرية التصرف وتطوير أشكال عيشها.
وعلى العكس من ذلك، نجد أن الإنسان، بحكم انفراده بالعقل بالإضافة إلى امتلاكه للغريزة، يتميز بقسط كبير من حرية التصرف والفعل. ويظهر ذلك في تطويره المستمر لأنماط عيشه المختلفة، وفي سنه لقواعد وقوانين أخلاقية وعرفية وسياسية من أجل تنظيم حياته، على عكس الحيوانات التي تتحكم فيها قوانين غريزية وطبيعية. وبالرغم من أن العديد من الفلاسفة ذهبوا إلى أن هناك إكراهات مختلفة، نفسية واجتماعية، تحد من حرية الإنسان، إلا أنهم لم ينفوا الحرية نهائيا كسمة تميز الإنسان. ولذلك اعتبر الإنسان كائنا حرا، واعتبرت الحرية خاصية تميزه عن غيره من الحيوانات غير العاقلة، مثلما يتميز عنها بالعقل والكلام. فانظر إلى حياة الناس تجدهم يلبسون ألبسة متنوعة، ويشربون ويأكلون ويبنون منازلهم ويبدعون ويبتكرون ابتكارات مختلفة، وهذا يدل دلالة كبيرة على ما يمتلكونه من قدرة على التصرف بأنفسهم وإبداع العالم الذي يتوقون إليه.
وإذا كانت بأضدادها تتميز الأشياء، فلا معنى لكي أكون حرا إلا بوجود عوائق وإكراهات تقف في طريقي، سواء كانت نفسية وغريزية أو اجتماعية وثقافية. فمن خلال مواجهتي وتغلبي على تلك الإكراهات أثبت أنني كائن حر. ولهذا لا توجد حرية بالمطلق على ما يبدو، بل ما يوجد هي أشكال من التحرر المختلفة من شخص إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر. فكل فرد يصنع حريته بحسب ما يمتلكه من إرادة ومن طاقات وإمكانيات مادية وعقلية وغيرها. وهذا ما يجعلنا نتحدث عن حرية بشرية نسبية، تصنع داخل جملة من الإشراطات الطبيعية والاجتماعية.
 لكن على العموم، تظل الحرية صفة تميز الكائن البشري عن غيره من الحيوانات وأشياء الطبيعة؛ إذ في الوقت الذي نجد هذه الأخيرة تسلك بشكل حتمي انطلاقا من دوافع غريزية أو تتحكم فيها قوانين طبيعية، فإننا نجد الإنسان بفضل امتلاكه للعقل والإرادة يستطيع أن يقاوم الإكراهات الغريزية ويوجهها، انطلاقا من الغايات العقلية والثقافية التي ينشدها ويسعى إلى بلوغها. وإذا كانت الفلسفة الماركسية مثلا ترى أن البنية التحتية تخلق البنية الفوقية، فيمكن القول أيضا أن البنية الفوقية تملك استقلالا ولو نسبيا عن البنية التحتية، وتتمكن بدورها من خلقها وتغييرها والتأثير فيها. فلا بد إذن من الإقرار بالعلاقة الجدلية المتبادلة بين البنية التحتية، وهي الظروف المادية والاجتماعية، والبنية الفوقية، وهي أشكال الوعي المختلفة، أي بين الحتمية والحرية. وداخل هذه العلاقة الجدلية يصنع الإنسان حريته. وقد تعرضت الماركسية نفسها لتأويلات وقراءات مختلفة، من بينها القراءة الخاصة التي قدمها الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر الذي بين أن الفلسفة الماركسية هي فلسفة تدعو إلى التحرر والانعتاق، ورغبة الطبقة العاملة في السيطرة على وسائل الإنتاج وتوجيه أحداث التاريخ لصالحها.  
وقد اعتبر سارتر أنه إذا كان الناس يتحركون ضمن شروط واقعية سابقة على وجودهم، فإنهم مع ذلك هم الذين يصنعون تاريخهم، ولا يمكن اعتبارهم مجرد أدوات فاقدة للوعي. وإذا كانت فئة من الناس في ظرفية زمنية معينة لا تصنع التاريخ، فإن فئة أخرى تصنعه. ومن هنا يظل الإنسان هو الفاعل الحقيقي للأحداث التاريخية، بالرغم من أنه يقع أحيانا ضحية الاستغلال الناتج عن الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية.

جان بول سارتر (1905-1980م)
«إن اختيارنا لنمط معين من أنماط الوجود هو بالوقت ذاته تأكيد لقيمة ما نختار لأننا لا نستطيع اختيار الشر، بل ما نختاره دائما هو خير لنا، بل لجميع الناس.»(3)

ومن هنا فالتاريخ حسب سارتر هو نتاج للفاعلية البشرية التي تحقق من خلاله مشروعها الخاص، لكن هذا التاريخ مع ذلك سيظل غريبا عن الإنسان ما لم يتحرر من الاستغلال والهيمنة ويستفيد من كفاحه ومجهوده الذي سيمكنه من صنع التاريخ وتملكه، وإعطائه معنى يتماشى مع طموحاته وغاياته الخاصة.
وإذا كنا نجد أن الناس يضيفون، بابتكاراتهم وإنجازاتهم، إلى العالم الطبيعي الأصلي، عالما آخرا من المصنوعات المختلفة، والتي تتجسد على مستوى المأكل والملبس والفنون والعمران والتقنية والشغل، فإن هذا سجعل بعض الفلاسفة يقولون إن الإنسان كائن صانع. فها نحن إذن أمام تعريف آخر للإنسان، بموجبه يتم اعتباره كائنا فاعلا وصانعا ومبدعا ومبتكرا، في العديد من المجالات الفنية والتقنية وغيرها. وهذا ما لا نجده عند الحيوانات غير العاقلة، والتي يظل "الصنع" عندها ثابتا ومرتبطا بمحددات فطرية وغريزية، يختص بها هذا الحيوان أو ذاك. فالنحل مثلا يبني الخلايا، والطيور تصنع الأعشاش، والعنكبوت ينسج بيتا هو أوهن البيوت، وبعض الحيوانات تصنع جحورا، إلا أن هذا "الصنع" الحيواني هو محض فعل غريزي يرتبط بوظيفة بيولوجية، فضلا عن أن الحيوان لا يغيره ولا يطوره مع مرور الزمن، وهذا بخلاف الكائن البشري الذي يظهر التاريخ أنه طور أنماط عيشه المختلفة، بما ابتكره وصنعه من أشياء عديدة جعلته بحق كائنا صانعا ومبدعا.
وما يبدعه الإنسان ويصنعه يجعله يضيف إلى عالم الطبيعة، أي مجموع الأشياء التي لم يتدخل الإنسان في صنعها من جبال وبحار وتراب وهواء، عالما آخرا يتكون من أشياء هي من إبداع الإنسان وابتكاره، وهي إما اختراعات مادية وتقنية أو إبداعات روحية وفكرية. وهكذا يمكن أن ننعت هذا العالم غير الطبيعي الذي ابتكره الإنسان بأنه عالم ثقافي. ولذلك عرف بعض الفلاسفة الإنسان بأنه كائن ثقافي، وأن الثقافة عنده إما ثقافة مادية هي عبارة عن مصنوعات وتقنيات، كاللباس والمساكن والآلات التقنية، أو ثقافة روحية هي عبارة عن إنتاجات عقلية وفكرية، كالأساطير والأشعار والفلسفة والدين والعلم وغير ذلك.
وهكذا، يبدو أن الإنسان لا يقنع بأن يعيش في العالم المادي الحسي، بل يبتكر له عوالم رمزية وثقافية شاسعة يسعى من خلالها إلى تحقيق ذاته وصنع الكائن الذي ينشده، وهو يعتمد في ذلك على قدراته العقلية من جهة، وعلى ملكاته اللغوية من جهة أخرى. كما أننا نجد أن الإنسان لم يكتف، كما هو الشأن بالنسبة للحيوانات غير العاقلة، بتلبية حاجاته الغريزية فقط، بل حول هذه الحاجات مع مرور الزمن إلى رغبات، مما جعل تلبية الغريزة تتلون بتلوينات ثقافية تختلف بحسب طموحات ورغبات الأشخاص أو المجتمعات.

كلود ليفي ستراوس (1908-2009م)
«إن كل ما هو عام لدى الإنسان يعود إلى الطبيعة ويتميز بالتلقائية، وإن كل ما يخضع لقاعدة ينتمي إلى الثقافة، ويتسم بصفتي النسبية والخصوصية.»(4)

فإذا كان الإنسان مثلا قد وجد نفسه، بحكم الفطرة والغريزة، مضطرا أن يبتكر لباسا يستر به عورته ويقيه من الحرارة والبرودة مثلا، فإن اللباس في ما بعد لم يعد يؤدي وظيفته البيولوجية هاته بل أصبح يؤدي وظائف أخرى جمالية وأخلاقية واجتماعية ووجدانية، وهو ما يعني أن الإنسان قد حول اللباس من مجرد حاجة لكي يصبح رغبة. وهذا الأمر ينطبق على العديد من الأمور الأخرى المتعلقة بالأكل والشرب ووسائل المواصلات والمساكن وغير ذلك؛ فقد بحث الإنسان لأول وهلة عن الأكل والماء لكي يشرب، ويلبي غريزة الجوع والعطش، لكنه بعد ذلك أصبح يتوق ويرغب في أشكال لانهاية لها من المأكل والمشرب. كما أنه بنا الكوخ مثلا لكي يتخذه كمسكن، لكنه بعد ذلك أصبح يرغب في منازل وتجمعات سكانية كثيرة ومتنوعة لكي يتخذها كمسكن له، ويلبي من خلالها ليس فقط "حاجته" إلى الدفئ مثلا، ولكن لكي يحقق من خلالها رغبات وجدانية وجمالية واجتماعية وغيرها. ونفس الأمر بالنسبة لوسائل المواصلات؛ فهي لم تعد تلبي الحاجة إلى تقريب المسافة أو نقل البضائع مثلا، بل أصبح الإنسان يبتكر أنواعا كثيرة منها لكي تلبي أذواق الناس المختلفة، وتتناسب مع مراكزهم المختلفة في الهرم الاجتماعي. وهكذا، نجد أن هذا التحويل اللانهائي للحاجات إلى رغبات، بل وابتكار رغبات هي غير متولدة عن حاجات أصلا، جعل العديد من الفلاسفة يعتبرون الإنسان كائنا راغبا.
فالفيلسوف اسبينوزا مثلا اعتبر أن الرغبة هي ماهية الإنسان، وأنه كائن راغب أكثر منه كائن عاقل، واعتبر أن العقل هو رسول الغريزة؛ أي أنها سابقة عليه وهو يشتغل من أجل خدمتها.

باروخ اسبينوزا (1632-1677م)
«الرغبة شهوة واعية بذاتها، وهي تمثل ماهية الإنسان.»(5)

وإذا تأملنا حياة الإنسان، منذ غابر الأزمان، نجده لا يكتفي بالعيش في العالم الطبيعي المادي، بل يتطلع للعيش في عوالم أخرى ميتافيزيقية وماورائية؛ تتجاوز حدود الطبيعة الحسية، كعالم الأسطورة والدين والمعتقد والأشعار والقصص وما إلى ذلك. ولعل هذا ما جعل فيلسوفا كشوبنهاور يعتبر الإنسان حيوانا ميتافيزيقيا؛ أي كائنا روحيا ترغمه روحه وعقله على التفكير في قضايا تتجاوز ما هو مادي ومحسوس، لكي تتطلع إلى معرفة أصل العالم ومعنى وجود الإنسان فيه، ومعرفة حقيقة النفس ومصيرها بعد الموت.

آرثر شوبنهاور (1788-1860م)
«إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي»(6)

وإذا كنا نجد أن العديد من الفلاسفة قد ركزوا، في محاولتهم لتعريف الإنسان، على الجوانب المتعلقة بالعقل والفكر والوعي واللغة والرغبة والثقافة والصنع والبعد الروحي الميتافيزيقي، فإن بعضهم الآخر قد نظر إلى الإنسان من زاوية طبيعية وغريزية، واعتبره عدوانيا بطبعه كما هو الأمر بالنسبة للفيلسوف طوماس هوبز الذي اعتبر "الإنسان ذئباشش للإنسان"، أو الفيلسوف والمحلل النفسي فرويد الذي ذهب إلى أن "الهو" هو أصل الإنسان، مما يجعله كائنا عدوانيا وأنانيا في أعماقه يسعى إلى تلبية غرائزه الذاتية، ولو على حساب الآخرين.

«ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح ذي القلب الظمآن إلى الحب.. وإنما هو على خلاف ذلك، كائن تندرج العدوانية لديه بالضرورة..في معطياته الغريزية.»(7)

ومن هنا، فاختراع الإنسان للثقافة وللقوانين هو فقط بهدف إلجام وكبح هذه العدوانية التي تسكنه من الداخل، ومحاولة تنظيمها لكي لا تدمر حياته الاجتماعية والمؤسساتية وتجعلها أمرا مستحيلا.
ومن ناحية أخرى يرى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أن الإنسان غير قابل للتعريف، وهي عبارة تعبر عن تصوره لماهية الإنسان ولحريته. فالمبدأ العام الذي انطلق منه سارتر هو القول بأن الوجود سابق على الماهية، والمقصود هنا هو وجود الإنسان باعتباره الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته. ومعنى هذا المبدأ أنه لا يمكن الحديث عن تعريف معين للإنسان قبل وجوده؛ فهو يوجد أولا ثم يحدد نفسه بنفسه فيما بعد، وأثناء وجوده الإنساني وليس قبل ذلك. ويترتب عن ذلك قول سارتر بحرية الإنسان في صنع نفسه واختياره لأفعاله؛ فلا وجود لتعريف نهائي وثابت للإنسان، بل يمكن فقط الحديث عن المشروع الإنساني الذي ينجزه الإنسان بشكل دائم ومستمر، من المهد إلى اللحد، ووفقا لاختياراته وإرادته الحرة.
وفي نفس السياق يذهب سارتر إلى أن الإنسان غير موجود بل الناس فقط هم الموجودون؛ ومعنى ذلك أنه لا يوجد تعريف واحد للإنسان بأل التعريف بل ما يوجد على أرض الواقع هم الناس باختلاف طبائعهم وأفكارهم وأفعالهم.  
وانطلاقا من هنا يكون الفعل هو المحدد للإنسان؛ فهذا الأخير هو عين ما يفعل، أي أننا نعرفه انطلاقا مما ينجزه من أفعال وما يقوم به من ممارسات في وجوده الإنساني وليس قبل ذلك. ولذلك يمكن الحديث مع سارتر عن كوجيطو جديد: "أنا أفعل إذن أنا موجود"، أو كما يقال: قل لي ماذا صنعت؟ أقل لك من أنت.      
  لقد رفض سارتر إذن الموقف الميتافيزيقي الذي يتحدث عن وجود طبيعة إنسانية، ويقول بوجود ماهية للإنسان سابقة على وجوده، ورأى فيلسوفنا الوجودي أنه لا يمكن تحديد الإنسان انطلاقا من أية قوالب عقلية مجردة، أو خندقة جميع الناس في قالب ماهوي واحد يشملهم جميعا. ولعل مثل هذا القالب يتمثل مثلا في القول: إن الإنسان حيوان ناطق. صحيح أن مثل هذا التعريف ليس خاطئا من وجهة نظر سارتر، لكنه مع ذلك تعريف لا يقول أي شيء ولا يعرفنا بأي فرد من أفراد بني الإنسان، فهو مجرد تحصيل حاصل ولا يضيف إلى أذهاننا معلومات جديدة. فهذا التعريف الأخير يحدد لنا الإنسان من الزاوية الفطرية التي تسبق الوجود والفعل، ولذلك فهو فعلا تعريف يشترك فيه جميع الناس، لكن بمجرد ما يقذف بالإنسان في الوجود ويشرع في إحداث أثر فيه، ويبدأ في إنجاز مجموعة من السلوكات والإبداعات، فهو يبدأ يختلف عن غيره من الأفراد ويتميز عنهم. ويتسع الفارق كلما طالت مدة الإنجاز وتشعبت، وهذا ينطبق على الشعوب بمثل ما ينطبق على الأفراد. وباتساع الفارق يصبح من المتعذر إعطاء تعريف شامل وواحد يشمل جميع الناس من الناحية الثقافية والوجودية. ولذلك فلكل فرد أو شعب تعريفه الخاص به، أو لنقل ماهيته التي تتجدد ويتم صنعها أثناء صنع الإنسان لصيرورته التاريخية.
ولذلك يقول سارتر: «ليس الإنسان شيئا آخر غير ماهو صانع بنفسه». هذه الجملة تلخص النظرة الوجودية إلى الإنسان كما يمثلها سارتر، أي أن الإنسان يصنع ذاته باستمرار وفق ما يختاره لنفسه، ووفقا للصورة المستقبلية التي يضعها نصب عينيه. فالكائن الإنساني هو الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.

جان بول سارتر (1905-1980)
«إن لم يكن الإنسان، وفق ما تتصوره الوجودية، قابلا للتعريف، فذلك لكونه في البداية عبارة عن لاشيء. إنه لن يكون إلا فيما بعد، ولن يكون إلا وفق ما سيصنع به نفسه.»(8)

فليس الإنسان حسب هذا المنظور الوجودي إلا ما يفعل؛ أي أنه لا يمكن معرفة شخصية الإنسان إلا من خلال ما ينجزه وما يقوم به من أفعال أثناء وجوده التاريخي والفعلي، فلا يمكن معرفة الإنسان من خلال قوالب عقلية مجردة، فوجوده لا يتحدد بالتفكير كما زعم ديكارت، بل يتحدد بالفعل أو التصرف الذي يصدر عن الذات ويترجم على أرض الواقع، ولهذا يمكن القول مع سارتر بكوجيطو جديد: "أنا أفعل إذن أنا موجود".

وعلى أية حال، يبدو لنا في الأخير أن الإنسان مركب من جسم وعقل، من بدن وروح، من جانب طبيعي فطري وآخر ثقافي ومكتسب، وهما يتفاعلان ويتداخلان أثناء ما يبدعه الإنسان وما يصدر عنه من سلوكات مختلفة. ويبدو أن أي فهم متكامل للإنسان، لا بد له أن يأخذ هذين المكونين معا بعين الاعتبار.


هوامش أقوال الفلاسفة:

1- ديكارت؛ التأملات، ترجمة عثمان أمين، المكتبة الأنجلو مصرية، 1974، ص 98.
2- إرنست كاسيرر؛ مقال عن الإنسان. موجود في ص 14 من مقرر "الفكر الإسلامي والفلسفة" للسنة الثالثة الثانوية، الشعبة الأدبية، الطبعة الأولى 1996-1997.
3- جان بول سارتر، الوجودية فلسفة إنسانية، ترجمة حنا دميان، دار بيروت للطباعة والنشر، 1959، ص 19.
4- كلود ليفي ستراوس؛ البنيات الأولية للقرابة. موجود في مقرر "الفكر الإسلامي والفلسفة" للسنة الثانية الثانوية، الشعبة الأدبية، طبعة 2002-2003م، ص 45.
5- اسبينوزا؛ عن نص موجود في مقرر "منار الفلسفة" للسنة الأولى بكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007م، ص.30.
6- آرثر شوبنهاور؛ العالم كإرادة وتمثل. موجود في مقرر "الفكر الإسلامي والفلسفة" للسنة الثانية الثانوية، الشعبة الأدبية، طبعة 2002-2003م، ص.14.
7- سغموند فرويد؛ قلق في الحضارة. عن نفس المرجع السابق، ص.41.
8- جان بول سارتر؛ الوجودية نزعة إنسانية. عن نفس المرجع السابق، ص.30.