الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

إنشاء فلسفي حول نص للتحليل والمناقشة (التاريخ)



نظرا لما تطرح منهجية الكتابة الإنشائية على مستوى التطبيق العملي من صعوبات وتحديات، فإننا نخوض مغامرة هذا التطبيق متوخين من ذلك تجسيم المهارات الفلسفية، حتى يطلع عليها تلامذتنا مباشرة في الإنشاء الفلسفي، ويستلهمونها لاحقا في تعاملهم مع مواضيع اختبارية أخرى.
نقوم بهذا لأننا نؤمن بأن معرفة التلميذ بالقواعد النظرية للمنهجية، لا تجعله ينجح تلقائيا في تطبيقها على مستوى ما هو عملي، أي على مستوى الكتابة الإنشائية الفلسفية.
وتظل الغاية من كل هذا هي خدمة قضية التفلسف. 


موضوع إنشائي محرر
نص/التاريخ

بقلم محمد الشبة





النص:

« لا يشهد التاريخ أنواعا من التجديد والابتكار فقط، بل أنواعا من التدمير أيضا. وأنواع التدمير هاته قد يكون مصدرها تطورات جديدة: فالتطورات التي شهدتها التقنية والصناعة والرأسمالية كلها عملت على تدمير الحضارات التقليدية (...) وعلاوة على الضياع الأبدي للكثير من المكتسبات، من جراء ما حصل من نكبات تاريخية، فقد تم هدم العديد من المعارف ومن الأعمال الفكرية ومن التحف...
يكشف لنا التاريخ عن العديد من الابتكارات المدهشة مثلما وقع قديما في اليونان، حيث ظهرت في نفس الوقت الديمقراطية والفلسفة كما ظهرت أنواع أخرى من التدمير لم تمس المجتمعات فقط بل حتى الحضارات.
التاريخ لا يسير وفق تطور خطي. إنه يعرف اضطرابات وتفرعات وانحرافات كما يشهد فترات قارة وحالات من الركود ومراحل كمون، تليها بعد ذلك صراعات حادة وأنماط من التقدم والتراجع. للتاريخ، إذن، وجهتان متناقضتان: الحضارة والوحشية، البناء والهدم.»

حلل (ي) النص وناقشه (يه)

(الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا، الدورة العادية 2015، مسلك الآداب)


الموضوع الإنشائي:

يشكل التاريخ ماهية للإنسان، إذ بقدر ما أن الإنسان كائن عاقل، فهو أيضا كائن تاريخي له ذاكرة تاريخية، ويعيش الماضي ضمن الحاضر، كما يستند إلى هذا الماضي من أجل الاستفادة منه في بناء الحاضر والمستقبل. ويظل طموح الإنسان هو أن يطور حضارته وتاريخه من أجل تحقيق ما هو أفضل. ومن هنا، يبدو أن فكرة التقدم في التاريخ فكرة بديهية، إذ يجد المتأمل في تاريخ البشرية أنها قطعت أشواطا هائلة في التقدم والازدهار الذي شمل جميع مناحي الحياة ومجالاتها. لكن المتأمل في التاريخ يجد أيضا أن أحداثه مليئة بالحروب والإجرام وأشكال التدمير المختلفة. وبقدر ما تتم عمليات مختلفة من البناء، نجد أيضا أشكالا متعددة من التدمير، وبقدر ما يحدث التقدم هنا، نلمس التخلف هناك. هذا فضلا عن المفاجآت والانحرافات والقفزات التي تشهدها الأحداث التاريخية أحيانا. وكل هذا يدفعنا إلى التساؤل:  كيف يسير التاريخ؟ هل بشكل تقدمي دائما أم أنه يشهد تراجعات إلى الخلف أحيانا؟ وهل يسير بشكل متصل ومتراكم أم يشهد قفزات وانحرافات؟ وهل نجد في التاريخ البناء والابتكار فقط أم الهدم والتدميرأيضا؟ وهل يتقدم التاريخ بنفس الوتيرة إذا ما انتقلنا من مجال معرفي إلى آخر، أو من مجتمع إلى آخر؟ وهل هناك وجهة محددة تسير نحوها الأحداث التاريخية؟

يدافع صاحب النص عن أطروحة أساسية تتمثل في أن التاريخ لا يعرف التقدم إلى الأمام دائما، بل يشهد تراجعات إلى الخلف أيضا. كما  أنه لا يتطور بشكل خطي ومتصل ومترابط، بل تعرف أحداثه اضطرابات وانحرافات وأشكال مختلفة من الركود والجمود. وهكذا، فقد نفى صاحب النص في البداية أن يكون التاريخ يشهد دائما تقدما إلى الأمام، عن طريق ما يبتكره الإنسان من نظريات علمية ومعارف مختلفة وتقنيات وأنماط عيش متنوعة، بل أكد أنه يعرف أيضا أنواعا متعددة من التدمير، مثلما يقع في الحروب وأشكال الغزو الحضاري والثقافي المختلفة. ومن هنا يبدو أن مفهوم التاريخ هو مفهوم كلي يشمل العديد من مجالات الثقافة وقطاعات الحياة، فكل ما يشيده الإنسان ويبتكره من معارف متنوعة وأنماط عيش مختلفة يدخل في مجال التاريخ، مما يجعلنا نتحدث عن تواريخ جزئية ومختلفة عوض الحديث عن تاريخ كلي وواحد. ولهذا نجد في النص حديثا عن الصناعة وعن الرأسمالية كفكر وكنظام سياسي واقتصادي، كما نجد إشارة إلى المعارف والأعمال الفكرية والتحف والديمقراطية وغير ذلك، إذ أن كل هذا يشمله مفهوم التاريخ ويندرج في إطاره. ومن هنا، فإذا كان التاريخ يعرف بناء وتقدما في هذا المجال، فإنه يعرف تدميرا وتراجعا في مجالات أخرى، كما أن التقدم والتراجع قد يطال المجال الواحد إذا  ما انتقلنا من مرحلة تاريخية إلى أخرى.
ولكي يبين صاحب النص بعض أشكال التدمير التي يعرفها التاريخ، قدم لنا مثالا يتعلق بالتقدم الصناعي والتقني الذي رافق ظهور النظام الرأسمالي، حيث عمل التوسع الرأسمالي على غزو الشعوب المستضعفة واستعمارها وتدمير قيمها وتراثها التقليدي. وهكذا، فبقدر ما عرفته الحضارة الأوروبية الحديثة من تقدم مادي وتقني، فإنها عرفت أيضا تأخرا روحيا وقيميا. وهو ما يعني أن سيرورة التاريخ تتأرجح بين التقدم والتأخر، بين البناء والهدم؛ فقد عرف التاريخ المعاصر مثلا العديد من الحروب التي دمرت المكتسبات الثقافية والحضارية لشعوب عديدة، كما شهد هذا التاريخ نكبات واضطهادات ومآسي إنسانية عديدة، كما حدث مع القنبلة النووية في هيروشيما، أو ما حصل من تدمير في أفغانستان والعراق وفلسطين وفي البوسنا والهرسك. وهكذا، فقد كان يرافق التخريب المادي للمنشآت والبنايات والعمران، تخريب آخر طال الإبداعات الفنية والمكتبات الثقافية والمآثر التاريخية.
لكن بالمقابل، وهنا تكمن المفارقة، فإن التاريخ مثلما يشهد الخراب والتدمير، فإنه يعرف الابتكار والاختراع والإبداع أيضا، مما يعني أن التاريخ يتأرجح بين التقدم والتأخر، بين البناء والهدم. ولتوضيح هذه المفارقة التي تميز الصيرورة التاريخية،  قدم لنا صاحب النص مثالا يتعلق بالحضارة اليونانية القديمة؛ حيث شهدت هذه الحضارة تقدما هائلا في المجالين السياسي والفكري على وجه الخصوص، تمثل في ظهور النظام الديمقراطي وما رافقه من انتعاش فكري وازدهار علمي وفلسفي، ولعل أسماء علمية وفلسفية كطاليس وفيثاغورس  وأفلاطون وأرسطو هي خير شاهد على ذلك. لكن في الوقت الذي عرفت فيه الحضارة اليونانية تشييدا حضاريا وفكريا، فإنها بالمقابل قد عرفت تراجعا فيما بعد نجم عن التسلط والاستبداد والحروب والنزاعات التي دمرت تلك الحضارة ومنعتها من مواصلة مسيرة التقدم والازدهار.
وقد أشار صاحب النص، في بداية الفقرة الأخيرة، أن التقدم في التاريخ لا يسير بشكل خطي وتراكمي نحو تحقيق الأحسن، بل إنه يعرف حالات ركود وتراجع وتخلف، وتقع لأحداثه  انحرافات غير متوقعة. وهذا يعني أن منطق السيرورة التاريخية لا يتأسس على الاتصال والترابط والحتمية، بل تعرف أحداثها التاريخية انفصالات وقفزات فجائية وتراجعات نحو الخلف أيضا. فنحن، مثلا، نجد أن الحضارة الإسلامية قد عرفت تطورا مهما في القرون الوسطى، لكنها بعد ذلك عرفت جمودا وركودا لقرون عديدة، وبالمقابل فإن الحضارة الأوروبية قد شهدت تخلفا في القرون الوسطى، لكن مع بداية العصر الحديث عرفت تقدما هائلا وكبيرا في جميع المجالات. وكأن تقدم الشعوب الأوروبية كان موجودا بالكمون في القرون الوسطى، أي موجودا بشكل خفي أو بلغة أرسطو موجودا بالقوة، ثم أصبح موجودا بالفعل وبشكل ظاهري في العصر الحديث. كما أن التقدم الصناعي للحضارة الأوروبية لا يوازيه تقدم مماثل في المجال الروحي والأخلاقي، مما يعني أن التاريخ يسير بدرجات متفاوتة إذا ما انتقلنا من مجال حضاري إلى آخر.
وفي الأخير استنتج صاحب النص أن الصيرورة التاريخية هي صيرورة متناقضة، بحيث أن الأحداث تتطور أحيانا إلى الأحسن وينبثق عن هذا التطور ازدهار حضاري وثقافي، وتتراجع أحيانا أخرى إلى الخلف كما يحدث في الحروب والصراعات العرقية، وأشكال الإجرام المختلفة التي تظهر فيها وحشية الإنسان ونزعته العدوانية. ومن هنا فمسيرة التاريخ تتأرجح بين الحضارة والوحشية، وبين البناء والهدم.

ويبدو أن أهمية النص تكمن في تأكيده على مجموعة من الأفكار الأساسية التي تجد لها سندا في الوقائع التاريخية الفعلية، ومن أهمها فكرتين أساسيتين؛ الأولى تتمثل في أن التقدم في التاريخ يتخذ اتجاهات متناقضة، إذ بقدر ما تتطور الأحداث أحيانا نحو البناء والتشييد وتحقيق الأحسن، فإنها كذلك تتجه أحيانا نحو الهدم والتدمير ونحو ما هو أسوء. أما الفكرة الثانية فتتمثل في القول بأن التاريخ لا يسير بشكل خطي ومتراكم، بل يعرف انحرافات وقفزات واضطرابات، كما يعرف حالات ركوض وجمود حينا وحالات حركة وصراع حينا آخرا. وبالرجوع إلى مسرح التاريخ الفعلي للبشر، نجد بالفعل أن الكثير من الشعوب، سواء القديمة أو الحديثة، عرفت ازدهارا وتطورا في مرحلة تاريخية محددة، تلاه تراجع وتقهقر في مابعد، كما حصل للحضارتين الفرعونية والإغريقية قديما، والحضارة الإسلامية في العصر الوسيط. كما أن هناك الكثير من الأحداث التي شهدها التاريخ المعاصر قد وقعت بشكل فجائي ولو يكن بإمكان أحد أن يتوقع حصولها، كما هو الحال بالنسبة للثورات العربية التي أدت إلى إسقاط أنظمة ورموز سياسية عمرت لسنوات عديدة.
وإذا كان صاحب النص يشكك في فكرة التقدم الخطي والغائي للتاريخ، فإننا نجد لهذه الفكرة صدى عند  المؤرخ البريطاني المعاصر إدوارد كار الذي انتقد فكرة التقدم التي عبر عنها فلاسفة أمثال هيجل وماركس، حيث رفض إمكانية الحديث عن نهاية أو غاية معينة تسعى نحوها الأحداث التاريخية، واعتبر أن هذا النوع من التصور هو شبيه بالفكر اللاهوتي الذي يفترض بداية ونهاية للتاريخ. كما انتقد هذا المؤرخ فكرة التقدم الذي يسير بشكل متصل ومتراكم، ورأى على العكس من ذلك أن السيرورة التاريخية غالبا ما تعرف انقطاعات وانحرافات وتوقفات، كما أن درجة التقدم ليست واحدة في جميع القطاعات والمجالات، بل هناك اختلافات وتفاوتات فيما بينها على هذا المستوى بالذات. ولذلك فعوض الحديث مع هيجل عن معقولية كلية للتاريخ، يمكن الحديث عن عدة تواريخ ممكنة لكل منها منطق خاص يتناسب مع خصوصيتها الداخلية من جهة، ومع طبيعة المجتمعات التي تحدث داخلها من جهة أخرى.
وإذا كان صاحب النص يرى أن التاريخ لا يسير بشكل متصل بل يعرف انفصالات وانحرافات، فإننا نجد  كلود ليفي ستراوس ينتقد فكرة أن التقدم يسير بشكل منظم ومتصل، ويقول على العكس من ذلك إن هذا التقدم يتم على شكل قفزات وطفرات، ويتحرك في اتجاهات مختلفة. فليس هناك إذن انتظام وتساوي من حيث درجات التقدم في كل المجالات؛ فيمكن لدرجة التقدم أن تكون أعلى في المجال العلمي عنها في المجال الأخلاقي أو السياسي، كما أن التقدم الحاصل في الدول الغربية ليس هو نفسه الموجود في باقي الدول الإفريقية أو الآسيوية.
بالإضافة إلى هذا فزوايا النظر إلى مفهوم التقدم نفسه تختلف وتتعدد؛ وهذا يعني أن ما تراه جهة ما أو مجتمع ما على أنه تقدم انطلاقا من مرجعيتها الثقافية والاجتماعية قد يكون بالنسبة لجهة أخرى انتكاسا وتخلفا، فمن الصعب وجود معايير كونية نقيس من خلالها درجة التقدم في التاريخ، لاسيما حينما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية والمجالات التي تطغى فيها أحكام القيمة وتتغلب فيها المنظورات الذاتية.
لكن إذا كان التقدم في التاريخ حسب صاحب النص مصاحبا لأشكال من التأخر، وإذا كان البناء فيه يرافقه الهدم، وإذا كانت أحداثه غير متصلة وتعرف انحرافات، وهو ما تبناه مؤرخون مثل إدوارد كار  كما رأينا، أو فرنان بروديل الذي تحدث عن تواريخ ممكنة بدل تاريخ كلي وواحد، بحيث أن لكل تاريخ منطقه ودرجة تطوره الخاصة به، وإذا كان  أنثروبولوجي مثل كلود ليفي ستراوس يتحدث عن وجود طفرات وقفزاتفي التاريخ، فإننا بخلاف كل هذا نجد فلاسفة يدافعون عن فكرة التقدم في التاريخ، كما هو الحال بالنسبة لهيجل الذي نجد عنده نوعا من الحتمية العقلية التي تحكم الأحداث التاريخية وتجعلها تسير بشكل متصل ومتسلسل نحو غاية محددة. فلا وجود إذن حسب هيجل لبياضات أو فراغات أو صدف في التاريخ، بل هناك منطق باطني يتحكم في الكل ويرسم له وجهة معينة. ففلسفة التاريخ الهيجيلية تعتبر العقل الكلي المطلق هو من يسير التاريخ، بحيث يرتب أحداثه على نحو يجعلها سائرة نحو هدف أو غاية بعيدة المدى. وعلى هذا النحو، فالتاريخ لدى هيجل هو عبارة عن منظومة تطور ونمو خاضعة لمنطق باطني كامن في الشخصيات التاريخية، التي لم تكن وفق هذه الفلسفة إلا أدوات لتحقيق هدف التاريخ السائر بشكل حتمي نحو تحقيق غاية نهائية، تتمثل في تجسيد حرية العقل المطلقة.
ومهما يكن، فإن ما يحدث في مسرح التاريخ البشري يعكس كل هذه الأفكار الفلسفية جميعها؛ فالتقدم والتطور نحو الأمام يحصل لا محالة في التاريخ، إذ أن أحوال معظم الشعوب قد تغير من الأسوء إلى الأحسن في العديد من المجالات، وإذا كان هناك تراجع وتأخر قد حصل في هذا المجال أو ذاك، لاسيما في الجوانب الروحية والأخلاقية، فإن هذا ما يؤكد على نسبية فكرة التقدم في التاريخ، واختلاف وجهة النظر الحاصلة نحوها باختلاف الإيديولوجيات والمنطلقات الفكرية. وإذا  ما أقررنا بأن هناك تقدما في التاريخ، فإنه ينبغي الإقرار أن  التاريخ ليس شيئا واحدا، بل هناك تواريخ متعددة. وهذا ما سيجعل درجة التقدم بالضرورة تختلف من تاريخ إلى آخر؛ فالتاريخ الفني أو التاريخ السياسي أو التاريخ الديني أو التاريخ الفلسفي أو التاريخ الأخلاقي.. كلها تواريخ ذات إيقاعات متفاوتة من حيث نسبة التقدم، سواء داخل الحضارة الواحدة أو بالانتقال من حضارة إلى أخرى.

وهكذا، فقد أفرزت إشكالية التقدم في التاريخ أفكارا وتصورات فلسفية متقاطعة حينا ومتضاربة حينا آخر، بحيث دافع البعض عن فكرة التقدم في التاريخ واعتبر أحداثه ذات منحى خطي ومتراكم وحتمي، بينما أقر البعض الآخر بوجود تراجع وتقهقر في التاريخ مواز لما يحصل فيه من تقدم، أو قال بوجود تقدم تعتريه انقطاعات وانحرافات، وتتخلله صدف ومفاجآت. ويبدو أن وجود تواريخ متعددة، ووقوع أحداث متباينة ومتشابكة، وداخل مجتمعات مختلفة ثقافيا وحضاريا، هو ما يبرر كل  هذه الأطروحات المتعلقة بفكرة التقدم في التاريخ، والتي تظل أطروحات نسبية إن صدقت على جانب معين من التاريخ، فإنها لا تصدق على جوانبه الأخرى. ومهما عرف التاريخ من تقدم أو تأخر، من بناء أو هدم، فإن الإشكال الذي يطرح نفسه هو: هل الإنسان هو من يصنع الأحداث التاريخية أم توجد عوامل أقوى من الإرادة الإنسانية هي التي تحرك عجلة التاريخ وتتحكم في سير أحداثه؟



الثلاثاء، 27 ديسمبر 2016

إنشاء فلسفي حول قولة مرفقة بسؤال (العلاقة مع الغير)


 بالرغم من أن التلاميذ يدركون، بل وقد يحفظون، الخطوات المنهجية المتعلقة بالإنشاء الفلسفي، إلا أن ذلك لا يمكنهم من كتابة إنشاء فلسفي في المستوى المطلوب، لأن المرور من النظري إلى التطبيقي ليس بالأمر الهين.
ولهذا نعتقد أن من بين الطرق التي يمكن أن نساعد بها التلاميذ على تطوير قدراتهم في الكتابة الإنشائية الفلسفية، بالإضافة إلى التمارين التطبيقية، هي أن نكتب لهم إنشاءات نجيب من خلالها على مواضيع اختبارية، لكي يلاحظوا مباشرة المهارات وهي مطبقة في الكتابة الإنشائية الفلسفية. وهذا ما نسميه ب"التعلم بالنموذج"؛ أي تعلم أدوات ومهارات وتقنيات الكتابة الفلسفية من خلال استلهامها واستبطانها واستدماجها أثناء قراءة مواضيع إنشائية بعينها، دون أن يعني ذلك استنساخها بشكل حرفي.
ولهذا السبب أقدم لكم أعزائي التلاميذ هذا الإنشاء الفلسفي، الذي أجيب من خلاله على قولة فلسفية حول العلاقة مع الغير؛



إنشاء فلسفي
حول قولة مرفقة بسؤال

                                                                     بقلم: محمد الشبة





* القولة:
« نحن في علاقة غامضة مع الغير، نتردد بين التعاطف معه أو الخوف منه.»
لم تكون العلاقة مع الغير غامضة ؟

* الموضوع الإنشائي:

تعتبر العلاقة مع الغير من بين القضايا التي ناقشها الفلاسفة في مجزوءة الوضع البشري. فالشخص، باعتباره كائنا اجتماعيا، لا يمكنه أن يعيش منعزلا عن الآخرين بل لا بد له أن ينسج علاقات مختلفة مع الغير. ونظرا لأن هذا الأخير يتخذ أوجها مختلفة، فإن علاقتنا به ملتبسة وشائكة؛ إذ أنها أحيانا تكون علاقة مبنية على الصداقة والتعاطف، وأحيانا أخرى تكون علاقة يسودها الخوف والحذر. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا تكون علاقتنا مع الغير غامضة؟ ما أسباب هذا الغموض؟ وهل تتأسس علاقتنا مع الغير على المحبة والتعاطف أم على الكراهية والخوف؟ وهل من أسس أخرى تنبني عليها علاقتنا مع الغير؟

إذا تأملنا هذه القولة فإننا نجد أنها تنبني على أطروحة مفادها أن علاقتنا مع الغير يطبعها الغموض والالتباس، فهي تارة تتأسس على المودة والمحبة والتعاطف، وتارة أخرى يطغى عليها الخوف والحذر. ومن هنا فهي علاقة مزدوجة وشائكة وملتبسة. وإذا ما تأملنا في الطابع الغامض لعلاقتنا مع الغير، فإننا نجد لهذا الغموض أسبابا متعددة، من بينها أن معرفة مشاعر الغير وأفكاره ونواياه هي معرفة صعبة وتظل نسبية. ومن هنا فإن من بين دلالة هذا الغموض هي عدم معرفتنا بجوانب معينة في شخصية الغير، فلو كنا نعرفه تمام المعرفة لما كان غامضا بالنسبة إلينا. ومن بين أسباب هذا الغموض أيضا أن الغير غالبا ما يكون متقلب الأطوار ومتغير المزاج والمواقف، وقد يحدث هذا بسبب اختلاف الظروف النفسية أو الاجتماعية، أو تباين وتعارض المصالح المادية، مما يجعل الغير يفاجئنا بتصرفات تطرح بالنسبة إلينا الكثير من الغموض في فهم شخصيته وسلوكاته. ويترجم هذا الغموض على مستوى العلاقة المزدوجة والملتبسة التي تربطنا بالغير، والتي تتأرجح بين التعاطف معه والخوف منه. فحينما نتحدث عن التعاطف، فإننا نكون أمام علاقة إيجابية مع الغير تنبني على القرب والتواصل والمحبة والمودة، وهو ما يقع عندما يكون الغير صديقا أو حبيبا أو أخا أو أبا أو أما، حيث نجده كملجإ نلوذ به من أجل التخفيف من آلامنا وهمومنا، كما نتبادل معه مشاعر السعادة والفرح، ونناقش معه أفكارنا ومشاريعنا المستقبلية من أجل الأخذ بنصائحه وإرشاداته، التي تكون ولا شك مفيدة لنا باعتبار أن علاقتنا به تنبني على المودة والنصح وعلى كل القيم النبيلة والجميلة. لكن بقدر ما يوجد الغير الصديق والحبيب والخير، فإنه يوجد أيضا الغير الغريب والحقود والشرير. بل قد يحدث أحيانا أن تتجسد هذه الازدواجية عند نفس الغير؛ فكم من شخص اعتبرناه صديقا وأخا عزيزا، ولكننا تفاجأنا ذات يوم بغدره وسوء معاملته معنا. ولعل هذا ما يجعل الثقة شبه مفقودة بين الناس في عالمنا المعاصر، إذ أصبح الصديق الفاضل والمخلص عملة نادرة. فنحن نتوجس من الغير ونأخذ الحيطة والحذر منه، لأننا نخاف من الشر والأذى الذي قد يلحقنا منه. ففي الحياة هناك المجرمون والإرهابيون والأشرار والحقودون والحساد، والذين قد يفاجؤوننا في أية لحظة بأفعالهم السيئة والشريرة التي تؤذينا وتضرنا، مما يجعلنا نخاف منهم ونتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لتجنب شرورهم. فكم من شخص اعتقدنا أنه صديقنا وانقلب علينا بين عشية وضحاها، وطعننا بسيوف غدره القاتلة، وكم حدث أن هجم علينا مجرمون أو لصوص وسلبونا ممتلكاتنا دون أن نسبب لهم أي أذى، وكم من أناس يحسدوننا ويكرهوننا دون وجود أية أسباب مفهومة ومعقولة. ولهذا، فالعلاقة مع الغير هي فعلا علاقة يطبعها اللبس والغموض؛ فبقدر ما أنها علاقة مفيدة وإيجابية أحيانا، فإنها تكون علاقة مضرة وسلبية أحيانا أخرى.

ويمكن القول بأن قيمة أطروحة هذه القولة تتمثل في تنبيهنا إلى العلاقة الملتبسة والمزدوجة التي تطبع علاقتنا مع الغير، والتي تتأرجح بين التعاطف مع الغير والخوف منه. وبتأملنا في الواقع الاجتماعي نجد بالفعل عدة شواهد وأمثلة تؤكد ازدواجية هذه العلاقة. فحياتنا المعيشية لا تخلو من أناس، على قلتهم، نجدهم سندا لنا في أوقات المحن والشدائد، فتأتينا منهم المواساة والمساعدة سواء المادية أو المعنوية. وهذا هو حال علاقتنا مع آبائنا وأمهاتنا، ومع الأصدقاء المخلصين والناس الأخيار الطيبين الذين يصعب علينا العيش بدونهم. ولهذا نجد أرسطو يعتبر أن الصداقة ضرورية في الحياة، وأن لا أحد ينعم بالخيرات بدون أصدقاء. فسواء كان المرء غنيا أو فقيرا، وسواء كان هذا الفقر ماديا أم معنويا، فإنه يحتاج إلى الأصدقاء؛ ففي حالة الغنى يكون الدافع إلى الصداقة هو الشعور بقيمة ما نملك، أما في حالة الفقر فإنها تكون بمثابة ملاذ نلوذ به للتخفيف من آلام العيش وهموم الحياة. وبطبيعة الحال فإن أرسطو يقصد هنا الصداقة الحقيقة والدائمة التي هي صداقة الفضيلة، أما صداقتا المنفعة والمتعة فهما زائلتان وغير حقيقيتين. لكن بقدر ما يوجد في عالمنا الصديق والطيب والخير يوجد أيضا العدو والخبيث والشرير. ولعل هذا هو ما جعل سارتر يعتبر الغير جحيما، مادام يشيئنا ويفقدنا حريتنا ولا يتعاطف معنا. وإذا كان الغير ينظر إلينا فقط من الخارج، كما رأى سارتر، فإن المعرفة ستنعدم بيننا، مما يجعل علاقتنا به علاقة غامضة يسودها الخوف والحذر.
وهكذا، فبقدر ما نجد أن علاقتنا بالغير مبنية على التعاطف، فإنها تكون مبنية أيضا على الكراهية والخوف، مما يجعل صواب أطروحة صاحب القولة ذا طابع نسبي ومختلف باختلاف الظروف والأحوال. فالغير غامض وواضح، وهو عدو وصديق، وهو جحيم ونعيم. ولهذا يظل الرهان هو كيفية الارتقاء بالعلاقة مع الغير من مستوى الغموض والعداوة والكراهية إلى مستوى الوضوح والصداقة والمحبة المتبادلة. وهذا يتوقف على المجهودات التي يمكن أن نبذلها جميعا من أجل التغلب على أنانيتنا ومصالحنا الضيقة، ومحاولة ربط علاقات مع الغير تنبني على التقرب منه والتواصل معه والاعتراف به، وهو ما من شأنه أن يجعلنا نعرفه معرفة عميقة وحقيقية، ونكسب ثقته ونؤسس علاقة معه تبني على القيم الإنسانية النبيلة. ومهما كان الغير غامضا وغريبا، فإن علينا أن نحترم غرابته وحقه في الاختلاف، لأن الغريب كما ترى جوليا كريستيفا يسكننا نحن أيضا على نحو غريب، مما يحتم علينا أن نبني علاقتنا بالغريب على أسس المحبة والتسامح والاعتراف المتبادل، وليس على أسس الكراهية والعنف والإقصاء.

ويمكن أن نخلص في الأخير إلى التأكيد على العلاقة الشائكة والملتبسة التي تميز علاقتنا مع الغير، نظرا لتعدد أوجه هذا الغير ولتباين طبيعة هذه العلاقة بتباين الأمزجة والطباع من جهة، وتباين المصالح والمنافع من جهة أخرى. وهذا ما يحتم في نظرنا أن نبذل قصارى جهدنا، كأفراد وكجمعيات وكمؤسسات، من أجل القضاء على كل الأسباب التي تؤدي إلى الخوف والكراهية والغموض، ونؤسس لعلاقة بديلة تنبني على الأمان والمحبة والوضوح. فما هي العوائق والتحديات التي من شأنها أن تقف أمام تحقيق هذا المبتغى الإنساني النبيل؟       

صور ملتقى الثانويات لحقوق الإنسان بالرباط



صور تؤرخ لمشاركتي يوم 24 دجنبر 2016 في ملتقى الثانويات لحقوق الإنسان، والذي نظمته حلقة مينيرفا للبحث الفلسفي بثانوية مدارس محمد الخامس بالرباط، وذلك بشراكة مع اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بالرباط-القنيطرة.
 وقد قدمت أثناء هذا الملتقى عرضا بعنوان: 
الدرس الفلسفي والتربية على حقوق الإنسان








أهمية الأشكلة في الكتابة الإنشائية الفلسفية




الأشكلة كلحظة أساسية
في بناء الإنشاء الفلسفي

                                                                   بقلم: محمد الشبة



 

إن الفلاسفة لم يكتبوا إنشاءات فلسفية بل يظل الإنشاء الفلسفي جنسا مدرسيا ظهر وتبلور مع الأدبيات الديداكتيكية الفرنسية ابتداءا من القرن التاسع عشر، حيث سعت هذه الأدبيات إلى جعل تعلم التفلسف يتم ويتجلى من خلال قدرة التلاميذ على صياغة كتابة إنشائية بمواصفات عالية. هكذا يكون التلميذ مطالبا بأن يجسد مدى اكتسابه لقواعد التفلسف، بأن يعمل على كتابة إنشاء فلسفي انطلاقا من التعليق على نص أو الاشتغال على قول فلسفي أو الإجابة عن سؤال إشكالي. وفي جميع الأحوال، يكون التلميذ مطالبا بأن يبرهن أثناء كتابته الفلسفية على مدى اكتسابه لمجموعة من المهارات والقدرات الضرورية لممارسة التفلسف، وفي مقدمتها القدرة على المفهمة والأشكلة والحجاج.
وإذا ما ركزنا على القدرة المرتبطة بالأشكلة، أمكننا اعتبارها تلك الحركة الفكرية التي تسعى إلى الكشف عن المشكل الفلسفي المركزي الكامن في نص أو قول فلسفي ما، بغية إعادة بنائه عن طريق الوقوف عند رهانات الإجابة المقدمة عنه ووضعها موضع فحص، واختبارها من خلال مقارنتها مع مختلف الأجوبة الممكنة حول المشكل القائم.
إن الأشكلة، والحالة هاته، هي نوع من المساءلة التي تنصب حول جوهر النص أو الموضوع من أجل استنطاقه، والبحث عن المفارقات والإحراجات التي تسكنه، والعمل على ترجمة كل ذلك من خلال تساؤلات دقيقة يكون محلها هو مقدمة الإنشاء الفلسفي.
لذلك وجب التأكيد على أن سيروة تعلم كيفية طرح الإشكال المتعلق بالموضوع الاختباري تتم من خلال مجموعة من العمليات التي تتم في المسودة أثناء مرحلة الإعداد للتحرير، حيث يتم الاشتغال على المفاهيم الرئيسية المكونة للنص أو القولة أو السؤال، وذلك بالكشف عن دلالاتها المحتملة والسياقية وكذا العلاقات المنسوجة بينها داخل سياق الموضوع بالذات. وكل هذا من شأنه أن يمكننا من اكتشاف الأطروحة المركزية للموضوع، التي لا تعدو أن تكون ربطا بين جملة من المفاهيم التي تؤثث فضاءه، ومن شأنه كذلك أن يجعلنا نستخرج الأفكار الأساسية المحيطة بتلك الأطروحة. وانطلاقا من هذه الأطروحة وتلك الأفكار يكون بإمكاننا أن نستخرج مجموعة من التساؤلات ونصوغها بحسب ما تثيره من تقابلات ومفارقات، ونرتبها بحسب أهميتها وتسلسلها وفق المنطق الإشكالي للنص أو الموضوع المبحوث عموما. وبعد ذلك سيكون علينا أن نضعها في مقدمة الإنشاء الفلسفي، بعد أن نمهد لها بمدخل يسمح بتبريرها وتسويغها على نحو منطقي ومعقول.
وينبغي التأكيد هنا أن سيرورة الأشكلة وصياغة التساؤلات لا ينبغي أن تختص بها مقدمة الإنشاء الفلسفي فحسب، بل إنها ترافق كل خطوات الكتابة الإنشائية الفلسفية. فأثناء تحليل النص مثلا، يمكن أن تتخلل عملية استخراج المضامين والانتقال بين الافكار أسئلة موجهة وموضحة لمعالم التفكير مع صاحب النص، مادام أن طريق التفلسف ليسا معبدا ومستقيما بل مليئا بالنتوءات والمنعرجات. كما يلزم من التلميذ أثناء الانتهاء من تحليل النص واستخراج أطروحته الأساسية، أن يجسد قدرته على صياغة أسئلة انطلاقا من الأطروحة الكامنة في النص من أجل الكشف عن حدودها والتمهيد لنقدها ومناقشتها. ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن لحظة المناقشة هي لحظة خصبة لممارسة أفعال التساؤل والأشكلة، إذ كيف يكون بإمكان التلميذ أن يقارن بين الأطروحات الفلسفية المعالجة للمشكل الرئيسي، وينتقل من موقف إلى آخر معارض دون أن يستخدم خلال ذلك أسئلة تكشف عن وجود التعارضات والتقابلات والتوترات بين مختلف الإجابات الممكنة ؟؟
أما على مستوى خاتمة الإنشاء الفلسفي، فعادة ما ينصح بتأزيم الخلاصة التركيبية عن طريق التساؤل حولها وتبيان حدودها. وكل هذا يجعل العمل المرتبط بالأشكلة يمثل جوهر أفعال التفلسف التي تمتد من أول الإنشاء الفلسفي إلى آخره.