من أجل درس فلسفي حواري ومفعم بالحياة
بقلم: محمد الشبة
نستوحي أطروحة هاته
المقالة، والأفكار المتفرعة عنها، من تجربتنا الفصلية المتعلقة بتدريس الفلسفة؛
حيث اتخذناها أرضية ومنطلقا لتقديم تصورنا للدرس الفلسفي، كدرس أردناه أن يكون
حواريا وحجاجيا ونقديا من جهة، وممتعا ومفيدا ومفعما بالحياة من جهة أخرى.
1- الإبداع الفلسفي هو تفكير ذاتي في الحياة:
إذا أمعنا التأمل في ما
ينتجه الفلاسفة في نصوصهم، فإننا نجد إبداعهم الفلسفي في منطلقه هو تفكير ذاتي،
لهذا الفيلسوف أو ذاك، في الحياة. فكل فيلسوف يفكر بطريقته الخاصة في قضايا الحياة
الإنسانية، ولذلك نجد أشكالا مختلفة من التفلسف في تاريخ الفلسفة. فالفكر الفلسفي
هو فكر حر، يؤسس فيه المتفلسف أفكاره انطلاقا من حجج يبنيها هو نفسه، لكي يتحمل
مسؤوليتها ويكون قادرا على الدفاع عنها. فالفيلسوف يعيش في الحياة، مع الناس،
ولكنه يتخذ منها مسافة نقدية لكي يفكر فيها. فإذا كان الناس منغمسين في الحياة
ومنخرطين فيها، بحيث تتملكهم أحداثها وتغرقهم في أمواجها العاتية، فإن الفيلسوف
يسعى إلى التخلص من هذا الأسر أو التملك أو الغرق، وذلك عن طريق التسلح بسلاح
النقد العقلي، الذي يطمح من خلاله إلى التعالي على أمواج الحياة واتخاذ مسافة
نقدية منها، لكي يحاول أن يرسم لها مسارا إنسانيا يصنع من خلاله أحلامه الفلسفية
العقلانية والقيمية. ومن هنا، فالفيلسوف لا يرضيه ما هو كائن بل إنه يتوق إلى ما
ينبغي أن يكون.
وما يمكن التأكيد عليه
هنا هو أن ما يوجد في تاريخ الفلسفة هو أشكال مختلفة من التفكير في الحياة. فلا
توجد الفلسفة "بأل التعريف"، وبالمطلق، بل ما نجده في تاريخ الفلسفة هو
أشكال من التفلسف المتنوعة والمختلفة من ذات متفلسفة إلى أخرى. ولذلك فما يمكن أن
نعلمه للتلميذ وندربه عليه، لا يعدو أن يكون جملة من المهارات والتقنيات التفكيرية
التي يستخدمها هذا الفيلسوف أو ذاك، أثناء ممارسته لفعل التفلسف. وهكذا نجد حضورا
للمسة كل فيلسوف فيما ينتجه من كتابات فلسفية، وهذا ما يطبع الكتابة الفلسفية
بطابع الاختلاف والتعدد، بالرغم من وجود بعض الخصائص المشتركة التي تميز التفكير
الفلسفي عموما، كالأشكلة والمفهمة والمحاجة مثلا. كما أن هذه الأشكال المختلفة من
التفلسف، هي في أساسها صادرة عن تفكير ذات الفيلسوف في الحياة. ولذلك نجد من ناحية
أولى حضورا لهذه الذات الفلسفية في الكتابة، ويتجلى هذا الحضور في مرجعية الفيلسوف
الاجتماعية والثقافية، ومعتقداته، بل ومزاجه أيضا، كما نجد من ناحية ثانية أن هذه
الكتابة الفلسفية ترتبط بحياة الفيلسوف الخاصة من جهة، وحياة المجتمع والعصر من
جهة أخرى. وهذا ما يجعل الحياة الاجتماعية والإنسانية عموما، هي الأرضية الخصبة
التي يتخذها الفيلسوف كمنطلق للإبداع والتفلسف.
2- من
درس في تاريخ الفلسفة إلى درس في الحياة:
إذا كان الفيلسوف نفسه ينطلق في تفكيره من الحياة، وإذا كانت غاية الدرس
الفلسفي هي تقريب التلاميذ من تفكير هذا الفيلسوف نفسه، من أجل التعرف عليه
واكتساب مهارات التفكير التي أنتجته، فإن تحقيق مثل هذا الهدف لن يكون ممكنا إلا
من خلال الانطلاق من الألغاز الحياتية نفسها التي أدهشت الفيلسوف، وشكلت منطلقا
للتفلسف عنده. ولذلك فغاية الدرس الفلسفي لن تكون، والحالة هاته، هي معرفة ما
أنتجه الفيلسوف من أفكار فقط، بل معرفة مسوغاتها ومبرراتها، وهي مبررات ولا شك تجد
جذورها في ظواهر الحياة الإنسانية نفسها التي كانت أصلا ومصدرا لممارسة التفلسف.
ولهذا السبب، يتعين
الانتقال من درس في تاريخ الفلسفة إلى درس في الحياة. ونحن نقصد بدرس في تاريخ
الفلسفة؛ ذلك الدرس الذي يكتفي بتقديم معلومات وأفكار تاريخية، فقط من أجل أن
يتعرف عليها التلميذ ويشحن بها ذاكرته، وهذا هو الدرس الإخباري والإلقائي. ولذلك
فنحن ندعو إلى تجاوزه من أجل درس آخر لا يكتفي بعرض الأفكار الفلسفية، بل يقف عند
المهارات والآليات التفكيرية التي أنتجتها ويسعى إلى ترسيخها لدى المتعلم، وذلك في
أفق أن يصبح قادرا في ما بعد أن يستخدمها من أجل التفكير في حياته الخاصة، وحياة
مجتمعه. ومن هنا تكون غاية الدرس الفلسفي هي خدمة الحياة نفسها، بما يمكن أن يقدمه
لنا من أشكال مختلفة في التفكير تسمح بتقديم فائدة للحياة، وتجعل الفلسفة ذات جدوى
بالنسبة للمتعلم والإنسان عموما.
وهكذا، فنحن لا نتعرف على
النصوص الفلسفية كإرث أو تركة تاريخية أثرية، بل لكي نفكر فيها من جديد. ويمكن
لهذا التفكير الجديد أن يقدم من خلاله التلاميذ إضافات جديدة، حتى الفيلسوف نفسه
لم يصل إليها، خصوصا وأن العصور تختلف، وأن هناك مستجدات جديدة تقع. فليست الأفكار
الفلسفية أحداثا وقعت في الماضي وانتهت، بل إنها لا تزال تحدث في الحاضر، وستحدث
في المستقبل. فما يدهش الفيلسوف يوجد في كل الأزمنة، ولذلك يمكن للتلاميذ أن
يكشفوا في حياتهم الخاصة وفي واقعهم الراهن عما أدهش الفلاسفة وحثهم على التفلسف،
لكي يتخذونه كمنطلق للتفكير في القضايا والمواضيع التي استشكلت على الفلاسفة
وأثارت دهشتهم. ويمكن لهذا التفكير التلاميذي بطبيعة الحال أن يقدم أجوبة جديدة
ومقاربات مغايرة لتلك التي قدمها الفلاسفة. وهذا ينسجم تماما مع التفكير الفلسفي
كتفكير يقوم على النقد والمغايرة والاختلاف، كما ينسجم مع المستجدات التي تقع في
مسرح التاريخ البشري، والتي يمكنها أن تجعلنا نحن أبناء الحاضر نقدم أجوبة لم يكن
بإمكان فيلسوف الماضي أن يطرحها أو يفكر فيها. ولعل هذا ما يسمى باللامفكر فيه في
عصر من العصور، والذي يصبح من الممكن التفكير فيه في عصور لاحقة.
ومن هذا المنطلق، يبدو أن
علينا أن نقوم بثورة "كوبرنيكية" على الدرس الإلقائي- الإخباري. وتتمثل
هذه الثورة "الكوبرنيكية" في جعل الدرس الفلسفي يتمحور ويدور حول
المتعلم، بعد أن كان من قبل يدور حول المعلم. ولهذا فعوض درس إلقائي يكون فيه
المدرس بمثابة المالك للمعرفة، والتلاميذ هم عبارة عن "أواني" فارغة
يتعين ملؤها بالمعرفة، ندعو إلى درس يكون فيه المعلم مثل المتعلمين يبحث هو الآخر
عن المعرفة، ويكتفي بتوجيه التلاميذ من أجل مساعدتهم على بناء الدرس بشراكة معه.
فمعلم الفلسفة هنا هو باحث عن المعرفة وليس مدعيا لامتلاكها، وهذا يتناسب مع مفهوم
الفلسفة نفسها باعتبارها محبة للحكمة وبحثا عن المعرفة، وليس أبدا ادعاءا
لامتلاكها. كما أن الهدف في مثل هذا الدرس التشاركي والتفاعلي، لا يكون هو التعرف
على الأفكار والمضامين المعرفية بالدرجة الأولى، بل تعلم أساليب التفكير، واكتساب
القدرات والمهارات العقلية.
وحينما يكون المعلم هو
محور العملية التعليمية، وحينما يشحن التلاميذ بمعارف ومعلومات لا يعرفون أصلها
ولا منشأها، ففي هذه الحالة يصبح الدرس الفلسفي غريبا بالنسبة للتلاميذ، وتضعف
لديهم القابلية والرغبة في التعلم. ولذلك، لا بد أن يكون درس الفلسفة درسا تفاعليا
وحواريا، تبنى فيه المعارف بشراكة بين المعلم والمتعلمين، ويتم فيه ربط مضامين
الدرس بحياتهم حتى يدركوا أن ما يدرسونه هو جزء من ذواتهم، ولصيقا بحياتهم اليومية
والاجتماعية. وبهذا الشكل يكون نزع الغرابة عن الدرس الفلسفي مرتبطا بربط هذا
الدرس بالحياة، وجعله مناسبة للتفكير في قضايا الإنسان المختلفة.
ومن هنا يبدو لنا أنه لا
بد أن يراهن الدرس الفلسفي على الحياة. وتعني المراهنة على الحياة من جهة أن إبداع
درس فلسفي في المستوى المطلوب، لا يمكن أن يكون منطلقه سوى حياة التلاميذ والوسط
الاجتماعي الذي ينتمون إليه؛ ذلك أن طرح إشكالات الدرس مثلا لا يمكن أن يكون إلا
عن طريق ربطها بوقائع وتجارب يعيشها التلاميذ أو يعاينوها في الواقع الاجتماعي،
مما يجعلهم يدركون حقيقة تلك الإشكالات وتحضر لديهم دافعية قوية من أجل الإقبال
على حلها. كما أن شرح مضامين النصوص الفلسفية ومناقشتها، لا يمكن أن يكون إلا
انطلاقا من أمثلة مستمدة من حياة التلاميذ أنفسهم. ومن جهة أخرى، فمراهنة الدرس
الفلسفي على الحياة تعني أنه يستهدف خدمة حياة المتعلمين أنفسهم؛ وذلك عن طريق
إمدادهم بمهارات عقلية وقيم فلسفية، من شأنها أن تفيدهم في ممارستهم الحياتية
والمجتمعية.
3- من درس إيديولوجي إلى درس نقدي:
يمكن انطلاقا من منظورنا الخاص أن نتحدث عن غايتين أساسيتين يتوخاهما الدرس
الفلسفي؛ إحداهما عقلية وتفكيرية تتمثل في مساعدة التلاميذ على اكتساب قدرات
ومهارات يستخدمها الفلاسفة أثناء ممارستهم لفعل التفلسف، كالأشكلة والمفهمة
والمحاجة والتحليل والتركيب وغير ذلك، والأخرى قيمية تكمن في تزويد التلاميذ
بالقيم الإنسانية التي دافع عنها الفلاسفة وسعوا إلى غرسها في حياة مجتمعاتهم،
كقيم التسامح والحوار واحترام الآخر والاعتراف بحقه في الاختلاف، والحرية
والمسؤولية والشجاعة الفكرية وغير ذلك. ومن هنا يصبح الدرس الفلسفي ليس درسا في
المعرفة فقط، بل هو درس في الحياة؛ أي أن الهدف الذي يتوخاه ليس هو مجرد اكتساب
معارف وقدرات في التفكير، بل أيضا ترسيخ قيم عقلانية وإنسانية لدى التلاميذ من أجل
أن ينقلوها بعد ذلك إلى الحياة الاجتماعية، من خلال علاقاتهم مع الناس، ومن خلال
ما سيمارسونه من وظائف داخل المجتمع. وبهذا المعنى يغدو الدرس الفلسفي درسا مفيدا
وذا جدوى، بالنسبة لذات التلميذ وبالنسبة للمجتمع معا.
وإذا كنا ندعو إلى درس في التفكير، ونسعى من خلاله إلى أن نجعل التلميذ
قادرا على الدفاع عن أفكاره والتعبير عنها بحرية، وممارسة النقد على كل ما يأتيه
من الآخر سواء كان فردا أو جماعة أو مؤسسة، فإن الهدف الأساسي من ذلك هو أن يصبح
ممتلكا لاستقلالية في التفكير، تجعله قادرا على التفكير لوحده وبشكل ذاتي دون
السقوط تحت أية وصاية كيفما كان مصدرها. وإذا تحقق مثل هذا المطمح، فإنه ولا شك
سيجعلنا أمام أفراد قادرين على تأسيس مجتمع ديمقراطي وحداثي، تسود فيه قيم النقد
والحوار والحرية والعقلانية، وغيرها من القيم الفلسفية الحداثية التي ساهمت في
تقدم المجتمعات الأوروبية، وجعلتها تتخلص من القيم العدمية والارتكاسية التي كانت
تمارس الوصاية على الإنسان الأوروبي في العصور الوسطى. فقد نشأت الفلسفة في مناخ
ديمقراطي لدى اليونان، كما ساهمت في إبداع الديمقراطية الحديثة في أوروبا، ولهذا
يتعين على الدرس الفلسفي أن يكون درسا "ديمقراطيا" ينبني على الحوار
وتبادل الحجج، من أجل أن يطمح لإنتاج مجتمع هو الآخر ديمقراطي؛ تسود فيه الحرية
والعقلانية. أما منابر الإلقاء والوصاية، سواء كانت دينية أو عرقية أو إيديولوجية
أو غيرها، فلا يمكنها إلا أن تكرس الوصاية والتبعية والاستعباد، وتجعل عقلية
القطيع تسود بدل أن تسود عقلية الفرد المتحرر من كل سلطة إلا سلطة العقل. وهكذا،
لا يمكن للسياسة أو الدين مثلا أن يلعبا دورهما في صنع "الديمقراطية"،
إلا إذا سادت فيهما قيم الفلسفة نفسها؛ أي قيم التسامح والنقد والاجتهاد والحوار،
لكي يكون بإمكاننا أن نطمح إلى صنع تفكير ديني متنور، وصنع ممارسة سياسية معقلنة.
وإذا كنا ندعو إلى درس فلسفي تفكيري وحجاجي، فإن وظيفة المدرس ليست هي أن
يلقن للتلاميذ معتقداته الدينية أو الإيديولوجية أو معتقدات غيره، بل وظيفته
الأساسية هي مساعدتهم على اكتساب المهارات والقدرات العقلية التي من شأنها أن
تمكنهم من مناقشة أفكار الفلاسفة أو غيرهم من جهة، وإنتاج أفكارهم الخاصة من جهة
أخرى. ومن هنا ننتقل من درس في الأفكار إلى درس في التفكير. وإذا تأملنا طبيعة
الأفكار التي ينتجها الفلاسفة في نصوصهم، فإننا نجدها عبارة عن وجهات نظر نسبية
وقابلة للنقاش، وليست أفكارا مطلقة أو معتقدات راسخة يتعين قبولها بدون نقاش. فإذا
كانت الفلسفة تدعو إلى الخروج من الوصاية، فإنها تدعو إلى الخروج من وصاية
الفيلسوف نفسه. ولذلك يتعين على المدرس والتلميذ معا أن لا يقعا أسيري هذا
الفيلسوف أو ذاك، بل أن يتخذا مسافة نقدية من جميع الفلاسفة، ويكونا لأنفسهما فكرا
خاصا بهما. فالفلسفة تجعل التلميذ أستاذ نفسه، ولا سلطة فيها إلا لسلطة العقل
والحجة العقلية.
ولذلك كثيرا ما كنت أقول لتلامذتي بأنهم يستطيعون أن يحاججوا الفيلسوف،
ويتغلبون عليه في الحجة! فتجربتنا، لسنوات طويلة، مع النصوص الفلسفية، بينت لنا
أنها لا تتضمن برهانا صوريا وقاطعا، كما هو الشأن في المنطق والرياضيات مثلا، بل
إن ما يوجد فيها هو مجموعة من الحجج التي تعتمد على أساليب خطابية تشتغل على اللغة
الطبيعية، أو ترتكز على دلائل استقرائية أو شواهد مستمدة من الوقائع، أو تقوم على
استدلالات عقلية واستنباطية ذات طابع نسبي. وهذا ما يجعل من الممكن بالنسبة
للتلاميذ ومدرسهم، وبالنسبة لدارسي النصوص الفلسفية عموما، أن يختلفوا مع الفيلسوف
ويقدموا حججا مضادة لحججه، ويكشفوا عن ثغرات أو ضعف في ما قدمه الفيلسوف من حجج
رام من خلالها تدعيم أفكاره وأطروحاته. وفي لعبة المحاججة هاته، يمكن أن تكون
الغلبة للتلميذ؛ فيقدم حججا أقوى من تلك التي جاء بها الفيلسوف نفسه!
لكن يمكن القول مع ذلك بأنه يصعب أن نخفي دائما، كمدرسين، تعاطفنا مع هذا الفيلسوف
أو ذاك، أو اعتراضنا عما قد يعبر عنه فيلسوف ما من أفكار وأطروحات. وهذا أمر عادي وطبيعي؛
لأننا لا ندرس موضوعات طبيعية وجامدة لا علاقة لها بوعينا المعرفي أو السيكولوجي، كما
هو الحال في العلوم التجريبية، بل ندرس ظواهر إنسانية وقضايا بشرية لا تخص الفيلسوف
وحده بل تخصنا نحن أيضا، كقضايا الواجب والسعادة والحرية والعدالة والعلاقة مع الغير
وغير ذلك، ولهذا يصعب أن نلتزم فيها الحياد التام. لكن مع ذلك لا بد، من الناحية البيداغوجية
والديداكتيكية، أن نحاول أن نلتزم الحياد أولا حينما نكون بصدد تقديم وتحليل أطروحة
الفيلسوف مع التلاميذ؛ فنعمل على سبر أغوارها وفهمها كما هي في ذاتها، بل ونبحث في
أسبابها ومبرراتها الممكنة، وهذه هي المرحلة الأولى، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة ثانية لا
بد لجماعة الفصل، من مدرس وتلاميذ، أن يناقشوا أطروحة الفيلسوف ويتخذوا منها مسافة
نقدية، تمكنهم من الوقوف عند قيمتها ومواطن القوة فيها أولا، ثم الكشف عما قد يوجد
فيها من ضعف وثغرات ثانيا. وهذا ما أسميه مع تلامذتي بمستوى "التثمين" ومستوى
"النقد" أثناء مناقشتنا لأطروحة فلسفية ما، بعد أن نكون قد حللناها وفهمناها
كما هي. وهكذا يمكن أن نتحدث عن لحظة نمارس فيها عملا إبستيمولوجيا خالصا، نكشف فيه
عن أسس المعرفة وآليات التفكير المنتجة لها، ولحظة أخرى نقوم خلالها بعمل نقدي بناء
وموضوعي ما أمكن ذلك؛ أي أنه نقد يستند إلى مبررات وأدلة وحجج معقولة ومتماسكة. ولعل
هذا العمل النقدي هو عين ما يفعله الفلاسفة ضد بعضهم البعض، أي خلال نقاشاتهم وجدالاتهم
الفكرية. ولذلك فنحن نتعلم من الفلاسفة أنفسهم، ونستقي أفعالنا الديداكتيكية الفصلية
من التفكير الفلسفي نفسه، حتى يكون ديداكتيكنا مطابقا للممارسة الفلسفية نفسها، ويستمد
مبرراته منها. وحينما نقوم بمثل هذا النقد الفلسفي لأطروحات الفلاسفة أنفسهم، كنقد
عقلي وحجاجي، فلا نعتقد أننا في هذه الحالة نمارس عملا إيديولوجيا سافرا ومتحيزا، بل
ندافع عن مبادئ وأفكار بما نملكه من حجج وأدلة، ولا ندعي أبدا أنها أفكار مطلقة أو
صحيحة بشكل نهائي، بل نكون مستعدين للتخلي عنها كلما ثبت لنا بالحجة خطأها، ما دام
أن هدفنا في الفلسفة هو الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. ومن هنا، فهذا التفكير النقدي
الفلسفي يختلف عن التفكير الإيديولوجي؛ لأن هدف الأول هو فحص الأفكار من أجل معرفة
الحقيقة التي يظل الفيلسوف يسعى إليها ويبحث عنها، بينما هدف الثاني هو نشر أفكار مسلم
بها عند "الإيديولوجي"، ومعتبرة عنده بمثابة حقائق لا جدال فيها. كما أن
المتفلسف الناقد لا يبتغي في نقده وممارسته الفكرية سوى معرفة الحقيقة، في حين نجد
الإيديولوجي يسعى إلى تحقيق أهداف وغايات بعيدة عن معرفة الحقيقة في ذاتها. فالإيديولوجي
غالبا ما يبيع الأوهام ويمارس التضليل، ولذلك يتعين في نظرنا أن نبتعد عن ممارسة العمل
الإيديولوجي داخل الفصول الدراسية ما أمكن ذلك، وعلينا أن نجعل عملنا يتخذ صبغة ديداكتيكية
وإبستيمولوجية ونقدية مطابقة لمنطق التفكير الفلسفي نفسه.
4- الحوار كشرط ضروري لحضور الحياة في الدرس الفلسفي:
يمكن استحضار الحياة في
الدرس الفلسفي، عن طريق تقديم الأمثلة الواقعية ومن مختلف المجالات، والتي من
شأنها إما أن توضح الأفكار الفلسفية، أو تسمح لنا بمناقشتها والتفكير فيها من
جديد. ومن شأن هذا النهج أو المسلك التدريسي أن يقرب الفلسفة من التلميذ، ويحفزه
على الانخراط في قضاياها وإشكالاتها، لأنها قضايا لا تخص الفيلسوف وحده، بل ترتبط
أيضا بحياة التلاميذ ككائنات إنسانية وعاقلة.
كما أن استحضار الحياة في درس الفلسفة، يتطلب من المدرس أن يشرك تلامذته في
بناء الدرس، ويجعلهم يخوضون معه مغامرة التفلسف. ومن هنا لا بد من التأكيد مجددا
على الطابع التشاركي والتفاعلي والحواري الذي ينبغي أن يميز الممارسة التدريسية
الفلسفية، إذ يعتبر المتعلم فيها طرفا أساسيا في بناء مختلف التعلمات المؤثثة
لفضاء الدرس. كما أن جعل الدرس الفلسفي "مغامرة" في التفلسف، يتطلب من
المدرس تجنب إملاء الملخصات المكتوبة والجاهزة، والعمل بالمقابل على خلق حوارات
بينه وبين التلاميذ حول أقوال أو نصوص أو قضايا فلسفية معينة، وتحفيزهم على التفكير
العميق فيها انطلاقا من واقعهم المعيشي، وما سيتوصل إليه من نتائج أثناء المناقشة
هو ما يمكنه أن يمليه شفويا على التلاميذ، ويعتبره بمثابة لبنات أساسية لبناء
الدرس وإنجازه. ومادام أن عطاء التلاميذ وطبيعة الحوارات الفصلية قد تختلف باختلاف
مستوى التلاميذ، وباختلاف ظروف كل حصة، فإن الدرس الفلسفي لا يمكنه إلا أن يتسم
بالمغايرة والتجدد من حصة إلى أخرى، ومن قسم دراسي إلى آخر.
ومادام أنه لا يمكن التعرف على
الفلسفة إلا من خلال نصوصها؛ فيتعين على المدرس أن يصحب معه تلامذته في مغامرة
استكشافية، من أجل التعرف على الفلسفة وعلى خصائص التفكير الفلسفي من داخل النصوص
الفلسفية ذاتها. وهذه المعرفة المباشرة بين التلميذ والفلسفة، هي أفضل بكثير من أن
يكتفي المدرس بمجرد إخباره عنها. فهذا الإخبار هو مجرد "ميتافلسفة"،
وليس هو الفلسفة في حد ذاتها. ولذلك فهو لا يمكن من معرفتها على نحو جيد، أما
التوغل في النصوص فهو الذي يجعل التلاميذ يعرفون طبيعة التفكير الفلسفي مباشرة،
دون وساطة مشوشة على الفهم والتعرف، مادام أن المدرس هنا ذات مستكشفة لخبايا
النصوص، مثله في ذلك مثل التلاميذ، ولا ينوب عنهم في الإدراك والفهم.
وحينما نتعرف مع التلاميذ
على الإشكالات والقضايا التي فكر فيها الفلاسفة، فإننا نتعرف على قضايا ليست
بالغريبة عنا، لأنها قضايا إنسانية لصيقة بوجود الإنسان حيثما كان. فبالرغم من أن
الفيلسوف يفكر بشكل شخصي وانطلاقا من رؤيته الخاصة في القضايا التي يعالجها، إلا
أنه مع ذلك لا يفكر في هموم وإشكالات تخصه وحده كذات فردية، بل إنه يعالج إشكالات
إنسانية إما تهم المجتمع الذي ينتمي إليه، أو تهم الإنسانية جمعاء. ولذلك، فما
يثير الفيلسوف ويدهشه هي قضايا يمكنها أن تدهشنا أيضا كمدرسين أو تلاميذ، مادامت
أنها قضايانا نحن أيضا، ولا يمكننا أن نتفاداها أو نتخلص منها بأي حال من الأحوال.
ولعل المهمة الملقاة على
مدرس الفلسفة هنا، هي أن عليه أن يفجر النصوص الفلسفية، ويكشف عما يوجد فيها من
حياة. فالنصوص الفلسفية ليست نصوصا صماء، بل إنها مفعمة بالحياة، لأنها تتضمن
تفكيرا لهذا الفيلسوف أو ذاك في قضايا حياتية مختلفة. ولذلك، يكون لزاما على مدرس
الفلسفة، من أجل فهم تلك النصوص وإفهامها لعقول التلاميذ الصغيرة، أن يربطها بحياة
التلاميذ وبواقعهم الاجتماعي، ما دام أن ما يفكر فيه الفلاسفة هي قضايا مرتبطة
بالإنسان ويعيشها الناس في مختلف المجتمعات والعصور. وهذا ما يجعل المدرس مضطرا
إلى تقديم أمثلة توضيحية مستمدة من الواقع المعيشي، من أجل جعل مضامين النصوص
مفهومة لدى التلاميذ، وجعلهم قادرين على مناقشتها انطلاقا من تجاربهم الحياتية.
وربما وجب على مدرس
الفسفة أن يراهن على التلميذ- الفيلسوف، التلميذ الذي سأجعله أنا كمدرس يتفلسف.
فإذا كنا نطمح إلى إبداع درس حجاجي وحواري ومفعم بالحياة، فإن هذا الطموح لن يتحقق
إلا بانخراط التلاميذ الفعال في بناء الدرس. وهذا الانخراط الإيجابي لا يمكنه أن
يكون إلا عن طريق أفعال التفلسف المختلفة، والتي تتمظهر من خلال إبداء التلاميذ
لملاحظاتهم واعتراضاتهم وانتقاداتهم، وقدرتهم على المنافحة على أفكارهم من خلال
تقديم حجج واقعية وعقلية مقنعة. وإذا كان دور المدرس في هذا الدرس هو دور الموجه
والمنشط والمحاور، فإن من شأنه واستنادا إلى خبرته المعرفية والفلسفية أن يذكي
جذوة النقاش العقلي، ويجعل أجواء الحجرة الدراسية مفعمة بالتفلسف. وبطبيعة الحال،
فإن من شأن هذا النقاش الدائر بين جماعة الفصل، كجماعة متفلسفة، أن يمنح للدرس
الفلسفي غنى وثراء، ويجعله درسا متجددا باستمرار. ولهذا فالمراهنة على التلميذ
المتفلسف، هي مراهنة من أجل الفلسفة نفسها، ومن أجل الدرس الفلسفي نفسه، ومن أجل
جعله قادرا على تحقيق الغايات المتوخاة منه.
5- متعة
الدرس نابعة من استحضار الحياة فيه:
يبدو لنا أنه لا قيمة
لدرس فلسفي لا يشعر فيه المتعلمون بالمتعة، ولا يحسون براحة نفسية وهم يشاركون في
بناء الدرس. ولا يمكن أن يشعر هؤلاء بالمتعة والارتياح إلا بتوفر جملة من الشروط،
من أهمها شرطين رئيسيين؛ أحدهما قيمي تواصلي يتمثل في مدى قدرة المدرس على كسب
محبة التلاميذ له، بما يستطيع أن يبدعه ويتفنن فيه من أشكال التواصل النفسي ونسج
علاقات أخلاقية رفيعة بينه وبينهم، تقوم على الود والاحترام والاهتمام والتفهم
والمساعدة والإصغاء إليهم، والشرط الأخر معرفي وديداكتيكي يتمثل في امتلاك المدرس
لتكوين معرفي وفلسفي جيد من جهة، وقدرته على تحويل المعارف الفلسفية العالمة إلى
معارف قابلة للتعلم والاكتساب من طرف المتعلمين من جهة أخرى. ولن يتأتى للمدرس
بلوغ هذا المبتغى الأخير إلا إذا بنى درسه بشكل حواري، وورط تلامذته في مغامرة
التفلسف، وجعلهم منخرطين بشكل فعال وإيجابي في مناقشة مختلف القضايا التي يحفل بها
الدرس الفلسفي. وبطبيعة الحال لا يمكن لهذه الحوارية والمناقشة أن تخلق عناصر
المتعة لدى التلاميذ، إلا إذا تم إقحام واستحضار عناصر من حياتهم وذواتهم النفسية
والاجتماعية خلال النقاشات الفلسفية نفسها. فما تزخر به النصوص الفلسفية من
إشكالات وأفكار، هي إشكالات وأفكار مرتبطة بشكل حميمي بقضايا وهموم إنسانية لصيقة
بالامتدادات والأبعاد الحياتية والمعيشية للتلاميذ. ولذلك يتعين على مدرس الفلسفة
أن يستثمر هذه الأبعاد الحياتية، ويراهن عليها من أجل خلق عناصر المتعة العقلية
والنفسية لدى المتعلم، ونزع طابع الغرابة والتجريد عن الأفكار الفلسفية، وجعلها
واضحة ومنتمية إلى العالم المعيشي للتلميذ، مما سيحفز هذا الأخير ولا شك على
الانخراط في مناقشتها والتفكير فيها بشكل شخصي وذاتي. ومن شأن عناصر المتعة هاته
أن تصبح مصدر إلهام بالنسبة للمدرس، لكي يقتنص منها أفكاره الديداكتيكية، ويعمل
على كتابتها وتدوينها. وبهذا الشكل يكون الديداكتيك حيا وطازجا ومستمدا من التجربة
الفصلية نفسها، كتجربة تفاعلية وحوارية وممتعة.
6- ديداكتيك
فلسفي من أجل الحياة:
اعتبر الفيلسوف إيمانويل
كانط أن السؤال الرئيسي في الفلسفة، والذي تتفرع عنه باقي الأسئلة هو سؤال: ما
الإنسان؟ ولذلك يجد مدرس الفلسفة أن كل الإشكالات التي يعالجها في درسه مع
تلامذته، هي إشكالات ترتبط بهذا الشكل أو ذاك بالإنسان. إشكالات تتعلق بقضايا
وجودية أو معرفية أو قيمية منتمية إلى الواقع البشري، ولصيقة بحياة الإنسان عموما،
وبحياة المتعلمين خصوصا باعتبارهم يمثلون "الإنسان" داخل الحجرات الدراسية.
ولهذا، لا بد لديداكتيك
الفلسفة إلا أن يستحضر حياة الإنسان، وأن يكون ديداكتيكا من أجل حياة المتعلمين؛
أي من أجل تزويدهم بمهارات وكفايات معرفية ومنهجية وتواصلية، وتزويدهم بقيم فلسفية
يكون بإمكانهم أن ينقلونها إلى مجتمعهم، ويستفيدون منها في حياتهم الخاصة، وفي
علاقاتهم مع الآخرين. وهذا ما يجعلنا نعتبر أن الفصل الدراسي هو "منبر"
يتعين على معلم الفلسفة أن يستثمره من أجل تمرير خطابه إلى المجتمع، وزرع قيم
الفلسفة في التربة الاجتماعية وفي حياة المتعلمين. فالمؤسسة التعليمية تمارس
إكراها قانونيا ومؤسساتيا على المتعلمين، وتضطرهم إلى أن يجتمعوا بالعشرات، بل بالمئات،
في الحجرات الدراسية وينصتوا إلى رجل الفلسفة، وهو ما يمثل في نظرنا فرصة سانحة
أمام هذا الأخير، من أجل أن يمارس الشغب العقلي ويستغل هذه الفرصة السانحة، من أجل
أن يجعل روح التلاميذ روحا فلسفية ويبث فيها قيم الفلسفة وآليات التفلسف النقدي
والحر. وبهذا الشكل، وبالرغم من العوائق التي قد تعترض تحقيق مثل هذا الطموح، يكون
بإمكان معلم الفلسفة أن يساهم، بهذا القدر أو ذاك، في إشاعة روح التفلسف، وجعل
الثقافة الفلسفية ثقافة مدرسية ومجتمعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.