الأحد، 23 أكتوبر 2016

الجزء 2 من تحليل نص لشبنغلر حول التقنية

 في دلالة التقنية

محاورة فصلية حول تحليل نص لشبنغلر 

بقلم: محمد الشبة
 

ثم طالبت التلميذ بمواصلة قراءة النص،  فقرأ الجملتين التاليتين:
 «إن نمط حياة الحيوان، يتميز عن نمط حياة النبات، بكون الأول يستطيع التحرك في المجال، فهو يمتلك نوعا ما، وبهذا القدر أو ذاك، استقلالا إزاء الطبيعة. إنه يدافع عن نفسه ويحميها، فيضيف شيئا أو مضمونا لوجوده الطبيعي
وبعد انتهائه من القراءة، سألت التلاميذ:
- ماذا يفعل صاحب النص في هاتين العبارتين؟
- يقارن بين الحيوان والنبات.
- بالفعل هو يقيم نوعا من التقابل بين نمط حياة النبات ونمط حياة الحيوان. فما الذي يميز نمط حياة الحيوان عن نمط حياة النبات؟
- التحرك في المجال.
- وأيضا؟
- الاستقلال إزاء الطبيعة.
- حسنا، جيد. لكن ما المقصود بمفهوم التحرك في المجال؟
وواضح أنني أطرح على التلاميذ مثل هذه الأسئلة لأننا بصدد الاشتغال على اللحظة الأولى من لحظات تحليل هذا النص الفلسفي، وهي لحظة شرح المفاهيم وتحديد العلاقات الموجودة بينها في أفق استخراج الدلالات والمعاني الكامنة في النص.
أجابت تلميذة:
- الحيوان يتحرك في المجال لأنه يتنقل من مكان إلى آخر.
- وأي مجال يقصد صاحب النص هنا؟
- المجال الطبيعي.
- جيد. وإذا كان الحيوان يتحرك من مكان إلى آخر، فمعنى ذلك أن النبات لا يستطيع ذلك؛ إذ يظل ثابتا وقابعا في مكانه.
لكن دعوني أتساءل معكم:
- هل التحرك في المجال معناه  فقط الانتقال الحركي من مكان طبيعي إلى آخر؟
فأجاب تلميذ:
- بل إن التحرك في المجال يعني أيضا التأثير في الطبيعة.
- وكيف يحدث هذا التأثير؟
- عن طريق ما  يصنعه الحيوان من  تقنيات بسيطة، والتي تمكنه من ترك بصمته في الطبيعة.
- هل من أمثلة على ذلك؟
- أعشاش العصافير مثلا؛ حيث أن العش هو منتوج صناعي أضافه الحيوان إلى الطبيعة.
- صحيح؛ فلولا وجود العصفور أو الطائر لما كان للعش أن يوجد. والأمر ينطبق أيضا على صنع الخلايا والجحور، إذ كلها تدل على نوع من القدرة لدى الحيوان على الصنع وإحداث أثر في الطبيعة، وهو ما لا نجده عند النبات.
ولهذا إذا لاحظتم معي، فإن الفيلسوف شبنغلر يتحدث في آخر هذه الفقرة عن إضافة الحيوان لشيء أو مضمون جديد لوجوده الطبيعي. ولا يمكن لهذا المضمون الجديد أن يكون سوى الوجود التقني المتمثل في المصنوعات، حتى ولو كانت بسيطة مقارنة مع التقنية التي نجدها عند الإنسان.
حسنا، سنرى هذا لاحقا. ودعوني الآن أتساءل معكم:
- إذا كان الحيوان يتميز عن النبات بخاصية "التحرك في المجال" التي قمنا بشرحها الآن، فهو أيضا يتميز عنه بخاصية "الاستقلال إزاء الطبيعة". فما المقصود بهذه الخاصية الثانية؟ ما معنى أن الحيوان يمتلك نوعا من الاستقلال إزاء الطبيعة؟
فأجاب أحد التلاميذ:
- معنى ذلك أنه يدافع عن نفسه ويحميها.
- بالفعل هذا ما ذكره صاحب النص. لكن إذا كان الاستقلال نقيضا للتبعية ومرادفا للحرية، فهل يعني هذا أن الحيوان حر وأنه لا يخضع بتاتا للطبيعة؟
- نعم إنه حر! ويبتعد عن الأشياء الطبيعية ولا يظل محبوسا بداخلها.
- ربما قد أشاطرك الرأي، لأن الحيوان مثلا قد يستحم في النهر ثم يغادره، وقد يستظل تحت الشجرة ثم يبتعد عنها. وبهذا فهو مستقل عن الأشياء الطبيعية، فيقترب أو يبتعد عنها، فضلا عن تأثيره فيها وحماية نفسه من أخطارها.
لكن مع ذلك، لنحاول تحديد مفهوم الطبيعة نفسه. فما المقصود بالطبيعة؟
- إنها الأشياء الخارجية التي لم يصنعها الإنسان. مثل: الأشجار والجبال والمياه..
- جيد.ولنسم هذه الطبيعة بالطبيعة الخارجية؛ لأنها توجد في العالم الخارجي وتدل على كل الأشياء المادية التي لم يتدخل الإنسان في صنعها. وحينما نتحدث عن هذه الطبيعة الخارجية، يمكن القول بأن الحيوان يملك فعلا استقلالا ولو نسبيا عنها. لكن ألا توجد أيضا طبيعة داخلية أو باطنية؟
فساد صمت لثوان قليلة، كسره أحد التلاميذ بقوله:
- نعم يا أستاذ توجد أيضا طبيعة داخلية.
- وأين توجد؟
- بداخل الإنسان.
- وبداخل الحيوان أيضا.
- نعم.
- وأين تتمثل هذه الطبيعة؟
- في ما هو فطري وغريزي.
- إذن، توجد داخل الحيوان  مجموعة من الدوافع الغريزية والفطرية التي تتحكم فيه، وتملي عليه سلوكه، مما يعني أن الحيوان ليس حرا ولا يملك استقلال إزاء الطبيعة بمعناها الداخلي والغريزي على الأقل. هل تشاطرونني الرأي؟
- نعم؛ إن الحيوان ليس حرا وكل ما يقوم به ناتج عن دوافع غريزية تتحكم فيه.
- وإذا ربطنا الغريزة التي هي طبيعة للحيوان بالتقنية عنده، فما الذي يميز هذه التقنية الحيوانية؟
- إنها تقنية غريزية.
- أي أن الغاية منها هي تلبية حاجات غريزية كالبحث عن القوت أو التوالد، فضلا عن أنها تقنية محدودة وثابتة لا تتطور.
وإذا كان الإنسان أيضا يمتلك غرائز بداخله، فهل يعني ذلك أن التقنية عنده ثابتة وغير متطورة، مثلها مثل التقنية عند الحيوان؟
- لا بل إن التقنية عند الإنسان متطورة ومتجددة.
- بالفعل. والسبب في ذلك يعود إلى أن الإنسان وإن كان يشترك مع الحيوان في الغريزة، فهو يتميز عنه بالعقل، مما يجعل التقنية عند الإنسان تتميز بمجموعة من الخصائص لا نجدها عن الحيوانات، وهو ما سنراه في الفقرة الثانية.
فسجلنا في السبورة وفي الدفتر بعض المعطيات المفاهيمية والمعرفية التي وقفنا عندها وناقشناها في هذه الفقرة الأولى من النص. وكنت أكتب المفهوم مثلا في السبورة، وأناقشه مع التلاميذ اعتمادا على الحوار وإبداء التلاميذ لآرائهم المختلفة، ثم أملي شفويا شرح المفهوم على التلاميذ لكي يكتبوه في دفاترهم. وبطبيعة الحال، فأنا لا أملي عليهم إلا ما استخرجته منهم، عن طريق نوع من التوليد السقراطي، من أفكار واستنتاجات وخلاصات معرفية.
وبعد أن قمنا بتثبيت المعطيات المتعلقة بالفقرة الأولى في الدفاتر، انتهت المدة الزمنية للحصة، لكي يكون علينا أن ننتظر حصة دراسية أخرى قادمة، سنتمم خلالها تحليلنا لنص الفيلسوف الألماني شبنغلر حول دلالة التقنية.
وفي الحصة الثانية، وبعد أن قمت بتذكير التلاميذ بأهم الخلاصات والأفكار التي استخرجناها من الفقرة الأولى من النص، عن طريق طرح أسئلة وتلقي إجابات، أشرت إلى أحد التلاميذ بأن يقوم بقراءة الفقرة الثانية.
وبعد قراءته للجملة الأولى من هذه الفقرة الثانية، والتي جاء فيها ما يلي:
«وإذا أردنا أن نصل إلى دلالة التقنية، فعلينا الانطلاق من الروح أو النفس ومنها وحدها
تساءلت مع التلاميذ:
- ما هو الهدف الذي أعلن عنه صاحب النص في بداية هذه الفقرة الثانية؟
- الوصول إلى دلالة التقنية.
- ومعنى ذلك أنه يسعى إلى تحديد دلالة التقنية بمعناها الدقيق والحقيقي.
- نعم.
- وأين تكمن هذه الدلالة الحقيقية للتقنية حسب شبنغلر؟
- تكمن في الانطلاق من الروح أو النفس.
- أي أن فهم المعنى العميق والحقيقي للتقنية لا يكون إلا بالانطلاق من النفس الإنسانية. لكن ما معنى ربط التقنية بالروح الإنسانية؟
- معنى ذلك أن التقنية الحقيقية توجد عند الإنسان.
- وبهذا المعنى يمكن القول إن التقنية بالمعنى الدقيق خاصية إنسانية.
- نعم.
خصوصا وأن صاحب النص استخدم لفظة "وحدها"؛ أي أن التقنية ترتبط بالنفس البشرية وحدها. لكن ما دلالة الروح أو النفس هنا؟
- النفس هي المحرك لجسم الإنسان والمتحكمة فيه.
- وإذا ربطنا هذه النفس بالتقنية، يمكن القول بأن النفس هي ذلك الجانب العقلي والفكري الذي يجعل الإنسان يبدع الأدوات والآلات التقنية. فهل يمكن القول انطلاقا من ذلك بان التقنية بالمعنى الدقيق هي تقنية عقلية؟
- نعم. وهذا ما يجعلها خاصية إنسانية.
- بينما التقنية عند الحيوان ذات طابع غريزي. وإذا كانت التقنية ترتبط بالعقل، فهي تقنية متطورة ومتجددة ومبدعة، بينما تظل تقنية الحيوان ثابتة ونمطية وغريزية، مادمنا نجد الطائر مثلا يبني عشا بمواصفات محددة ويعيد بناءه بشكل متكرر دون أن يستطيع إبداع أي مسكن غيره، بينما يشهد تاريخ البشرية أن الإنسان استطاع أن يبدع أنواعا شتى من المساكن التي يقطنها. فضلا عن أن وظيفة العش عند الطائر لا تتعدى تحقيق أهداف غريزية كالتوالد وحفظ النوع، بينما نجد الإنسان يشيد المباني لغايات وأغراض متنوعة جمالية وثقافية وسياسية وعسكرية وفنية واقتصادية وغيرها. ولعل هذا ما سنستشفه مما تبقى من النص.
ثم طالبت التلميذ بمواصلة قراءة النص، فتوقفنا عند الجملة التالية في الفقرة الثانية:
«فالوجود الحر للحيوان هو صراع وليس شيئا آخرا غير الصراع: إنه خطته الحيوية... أما التقنية، في دلالتها الإنسانية، فهي خطة للحياة
تساءلت مع التلاميذ:
- يتحدث شبنغلر عن الوجود الحر عند الحيوان، فهل معنى ذلك أن الحيوان حر؟
- نعم إنه حر.
- هل توافقون زميلكم الرأي؟
- الإنسان هو الذي يعتبر كائنا حرا، بينما الحيوان غير حر.
- إذن منكم من يقول أن الحيوان حر، ومنكم من يقول أنه غير حر. هل يمكن لكل واحد منكم أن يقدم مبررات لتدعيم رأيه؟
فقال التلميذ صاحب الفكرة الأولى:
- الحيوان حر لأنه يختلف عن النبات، حيث يتحرك في الطبيعة ويحدث أثرا فيها. كما أنه يملك استقلالية إزاء الطبيعة.
- نعم هذا صحيح، وهو نفس ما قاله صاحب النص من قبل. لكن مع ذلك فقد توصلنا في نقاشنا السابق إلى أن الحيوان محكوم بدوافعه الغريزية، مما يعني أنه تابع لها وليس حرا بالمعنى الحقيقي والدقيق.
وهنا تدخلت التلميذة صاحبة الفكرة الثانية قائلة:
- الحيوان غير حر لأن غرائزه هي من تتحكم فيه، بينما يعتبر الإنسان حرا لأنه يتصرف وفق عقله ويطور حياته بشكل مستمر.
- هذا صحيح. وإذا ربطنا الحرية بالتقنية يمكننا القول بأن التقنية عند الحيوان تملى عليه من قبل غريزته، مما يعني أنه ليس حرا في إبداعها، بينما يبدع الإنسان التقنية ويطورها انطلاقا من فكره وعقله.
ولاحظوا معي أن الفيلسوف شبنغلر حينما تحدث عن الوجود الحر للحيوان اعتبره مجرد صراع، وليس شيئا آخرا غير الصراع. فما دلالة مفهوم الصراع هنا؟ عن أي صراع يتحدث الفيلسوف؟ مع من يتصارع الحيوان؟
- يتصارع مع الطبيعة ومع غيره من الحيوانات.
- من أجل ماذا؟
- من أجل العيش والبقاء على قيد الحياة.
- ومن يملي عليه ذلك؟
- غرائزه.
- إذن فالصراع عند الحيوان هو صراع تحركه دوافع فطرية وغريزية.
- نعم.
- وهو ما يدل على أن "الحرية" التي يمتلكها الحيوان مقارنة مع النبات، بحيث يتحرك في المجال ويدافع عن نفسه..الخ، ليست سوى حرية غريزية، وبالتالي فهي ليست حرية بالمعنى الدقيق مثلها من الحرية العقلية والفكرية لدى الإنسان. وهذا ينطبق على التقنية أيضا؛ إذ أنها عند الحيوان غريزية بينما عند الإنسان عقلية وفكرية.
وإذا تأملتم معي الجملة جيدا، ستجدون أن صاحب النص قد فسر الصراع لدى الحيوان بأنه خطته الحيوية. فماذا يعني مفهوم خطة حيوية هنا؟
- أي تصرفات هدفها تلبية ما هو غريزي.
- بالفعل؛ فما هو حيوي وأساسي بالنسبة للحيوان هو تلبية حاجاته الغريزية من أكل وشرب وجنس وما إلى ذلك. وهذا ما يعني أن التقنية عند الحيوان مرتبطة بالغريزة فقط، فهي مجرد وظائف أو عمليات أو سلوكات غريزية  يقوم بها الحيوان من أجل المحافظة على وجوده الطبيعي.
أما التقنية في دلالتها الإنسانية، فاعتبرها شبنغلر خطة حياة. فما معنى هذا المفهوم؟
- معنى  ذلك أن التقنية عند الإنسان تشمل جميع مجالات الحياة.
- وإذن، فإذا كان الحيوان يسعى من خلال ما ينجزه من تقنيات إلى تلبية حاجاته الغريزية، فإن الإنسان على العكس من ذلك يستخدم التقنية لتلبية رغبات متعددة في حياته.
- هذا صحيح.
- مثل ماذا؟
- رغبات فنية.
- وأيضا؟
- رغبات ثقافية وتربوية وسياسية.
- وأيضا رغبات اقتصادية ودينية ورياضية وغيرها، لأن رغبات الإنسان كثيرة ولامتناهية. وقد رأينا في درس الرغبة أن الإنسان حيوان راغب، وأن الرغبة خاصية إنسانية. وإذا ما ربطنا التقنية هنا بالرغبة يمكننا القول بأنها أيضا خاصية إنسانية. فالتقنية عند الإنسان ترتبط بالفكر والعقل؛ فهي تلك التأملات والمخططات والاستراتيجيات الفكرية التي تقف وراء السلوكات البشرية وترسم لها غاياتها، وتسعى إلى تنظيم الوجود البشري.
بعد وقوفنا عند هذه المقارنة التي يقيمها شبنغلر بين التقنية عند الحيوان باعتبارها خطة حيوية والتقنية عند الإنسان باعتبارها خطة حياة، وبعد أن سجلنا في الدفاتر المعطيات المفاهيمية والمعرفية المتولدة عن النقاش الذي دار بين جماعة الفصل، أومأت إلى التلميذ بمواصلة قراءة النص، فأوقفته بعد أن قرأ الثلاث جمل التالية، وهي جمل مترابطة وتنصب حول نفس الفكرة:
«وهنا يظهر لنا الخطأ الثاني الذي ينبغي تفاديه. لا نفهم التقنية من خلال وظيفة الأداة. إن ما يهم ليس هو شكل الأشياء، ولا كيف نصفها، ولكن ما نفعله بها، وكيف نستخدمها. فما يهم، ليس السلاح بل الحرب
وبادرت بالتساؤل:
- يتحدث شبنغلر عن خطإ ثان يتعين تفاديه، وهذا إشارة إلى الخطأ الأول الذي ذكره في الفقرة الأولى من النص. وقبل أن نتعرف على هذا الخطأ الثاني، من يذكرنا أولا بالخطأ الأول؟
فأجاب أحد التلاميذ:
- يتمثل الخطأ الأول في اعتبار البعض أن هدف التقنية هو صنع الأدوات والآلات.
- ومعنى ذلك أن هدف التقنية حسب شبنغلر يكمن فيما نصنعه بتلك الآلات؛ أي أن هذه الأخيرة هي مجرد وسائل لتحقيق غايات أخرى يرسمها لها العقل البشري.
والآن، ما هو الخطأ الثاني الذي يدعونا شبنغلر إلى تجنبه هنا؟
- يتمثل هذا الخطأ في فهم التقنية انطلاقا من وظيفة الأداة.
- ومعنى ذلك أنه لا ينبغي أن نفهم التقنية من خلال وظيفة الأداة. لكن ما المقصود بوظيفة الأداة هنا؟ أداة ماذا؟
- أداة التقنية.
- ما المقصود بوظيفة الأداة؟
- يقصد بها الغاية المتوخاة من صنع الأداة.
- هل يقصد بوظيفة الأداة الغاية من صنعها أم طريقة عملها واشتغالها؟
هنا انتابت الحيرة التلاميذ وتوزعت إجاباتهم بين من اعتبر أن المقصود بالوظيفة هي الغاية أو الهدف من صنع الأداة، ومن اعتبر أن المقصود بها هي الطريقة التقنية التي تشتغل من خلالها الأداة.
وقد يكون للترجمة العربية للنص دور في حصول مثل هذا التشويش الذهني في فهم بعض مقاطع النصوص الموجودة في المقررات الفلسفية، مما يستلزم معه عودة المدرس إلى النص في لغته الأصلية، من أجل فهم أفضل له.
والواقع أنني اعتمدت على حسي الفلسفي لكي أتساءل مع التلاميذ:
- لاحظوا معي أن شبنغلر ينفي أن تنحصر دلالة التقنية في وظيفة الأداة، كما ينفي مباشرة أن تكون دلالة التقنية متمثلة في شكل الأشياء، ويقصد بها الأدوات والآلات، كما ينفي أيضا أن تكون هذه الدلالة  متمثلة في الطريقة التي نصف بها تلك الأشياء التقنية. وبالمقابل فهو يؤكد على أن الدلالة الحقيقية للتقنية تكمن فيما نفعله بتلك الأدوات والآلات. وهذا يعني أن دلالة التقنية تكمن في الغاية من صنعها وليس في الكيفية التي تعمل من  خلالها. ومن هنا فحينما نفى شبنغلر أن تكون دلالة التقنية متمثلة في وظيفة الأداة، فالأرجح أنه يقصد بها طريقة عملها أو شكلها المادي الفيزيائي، لأنه لكل أداة أو آلة مواصفات وميكانيزمات عمل محددة.
وهكذا، فإن الفهم العميق والحقيقي لدلالة التقنية حسب شبنغلر لا يكمن في الوقوف عند الخصائص التقنية للأدوات والآلات وعند طريقة عملها، بل يتعين البحث عن تلك الدلالة في ما نفعله بتلك الآلات؛ أي في الغايات التي يحددها الفكر الإنساني لها. فهل تشاطرونني الرأي؟
أجاب أحد التلاميذ:
- نعم، لأن الإنسان بعقله وفكره هو الذي يحدد للتقنية غاياتها وأهدافها.
وقال آخر:
- بطبيعة الحال، فالمهم ليس هو شكل الآلة أو عملها التقني، إذ  قد تتخذ هذه الآلة أشكالا متعددة وتمارس عملها بطرق كثيرة، بل المهم هو الغايات التي يرسمها الفكر الإنساني لهذه الآلة.
- ولتوضيح ذلك يمكن أن أقدم لكم أمثلة لبعض الآلات التقنية؛ كالتلفزة أو الهاتف أو الحاسوب مثلا. فما يهم ليس شكل التلفزة أو الهاتف أو الحاسوب، إذ نجد أشكالا مختلفة من التلفزات والهواتف والحواسيب، ولكن ما يهم حسب شبنغلر هو الغايات والرغبات التي نحققها من خلال تلك الآلات التقنية، والتي هي رغبات متنوعة ثقافية وفنية وتربوية وسياسية ورياضية وتواصلية وترفيهية وغيرها. وهذا ما يجعل التقنية في نظر شبنغلر سيرورة إنسانية؛ أي أنها متغلغلة في حياة الإنسان وخاضعة للأهداف التي يسطرها لها الفكر البشري.
- نعم هذا صحيح يا أستاذ؛ لأننا قد نجد نفس الأداة أو الآلة التقنية تستخدم لأغراض مختلفة حسب طريقة تفكير مستعمليها.
- أحسنت، هذا صحيح! فنحن لا نستخدم كأفراد الهواتف أو الحواسيب لتحقيق نفس الأغراض. كما أن التلفزة مثلا كأداة تقنية تعتبر محايدة؛ إذ تسخرها كل دولة أو جهة ما لتحقيق أهدافها الإيديولوجية أو الثقافية الخاصة.
- وأيضا السكين مثلا يا أستاذ؛ قد يستخدمه الإنسان لتقشير الخضر أو لذبح البشر!
- هههه هههه أحسنت.
كانت فكرة المتعلم الأخيرة طريفة، خلقت الابتسامات على الوجوه، وبعثت نوعا من المرح داخل فضاء الفصل الدراسي.
وقد كانت من عاداتي المترسخة والتي أواظب عليها أثناء حواراتي الفصلية مع التلاميذ، هو أنني كنت أربط جسورا بين الأفكار الفلسفية والحياة، وأقدم للتلاميذ أمثلة متنوعة من حياتهم اليومية والمعيشية من أجل توضيح الأفكار وإفهامها لعقولهم الغضة. وغالبا ما تكون بعض تلك الأمثلة طريفة أو قريبة من وجدان المتعلمين ومن مجالات اهتمامهم، مما يخلق مرحا فلسفيا وتربويا كان يحفز تلامذتي على التعلم ويشعرهم بالمتعة أثناء حصة مادة الفلسفة.
بعد ثوان معينة من المرح المعرفي، بادرت تلامذتي بالتساؤل:
- كيف نفهم دلالة التقنية عند الفيلسوف شبنغلر من خلال قوله: «ما يهم ليس السلاح بل الحرب.»؟ ما الفرق بين السلاح والحرب؟
- السلاح نستخدمه في الحرب.
- حسنا، وأين تكمن دلالة التقنية الحقيقة؛ في السلاح أم في الحرب؟
- في الحرب.
- وما معنى أن دلالة التقنية لا تكمن في السلاح بل في الحرب؟
- معنى ذلك أنه يتعين علينا أن لا نفهم دلالة التقنية انطلاقا من الأسلحة التي هي مجرد أدوات وآلات، بل نفهمها انطلاقا مما ننجزه من خلال تلك الأدوات والآلات.
- جيد؛ فقد  نكون أمام نفس الأسلحة، ولكن كل جهة تستخدمها لأغراض مختلفة. فحينما نتحدث عن الحرب، فإننا نربطها بالفكر البشري، لأن هذا الفكر هو الذي يحدد للحروب غايتها وأهدافها. فالحروب الصليبية مثلا تختلف من حيث أهدافها عن الفتوحات الإسلامية أو الحرببين العالميتين أو حرب الخليج أو الحروب الناشبة الآن في بعض الدول العربية.
- صحيح أن لكل حرب أهدافها الخاصة، والتي قد تكون سياسية أو اقتصادية أو دينية أو  عرقية أوغيرها.
- وفي هذه الغايات والمخططات الفكرية تكمن الدلالة الحقيقة للتقنية، مما يجعلها بالفعل خاصية إنسانية، ومختلفة عن التقنية الحيوانية البسيطة.
وأثناء هذا النقاش، كنت أسجل بعض المعطيات المفاهيمية بشكل مختصر في السبورة. وفي نهاية النقاش أمليت على التلاميذ شفويا الخلاصات الرئيسية التي انتهينا إليها.
وهنا انتهت الحصة الدراسية، والتي امتدت حوالي ساعة من الزمن، ليكون علينا انتظار حصة قادمة من أجل إنهاء تحليلنا للنص!
في الحصة القادمة، وبعد تذكير التلاميذ بأهم الخلاصات التي انتهينا إليها سابقا أثناء تحليلنا للنص، قلت لهم:
- من يواصل قراءة النص؟
فرفع التلاميذ أصابعهم مبدين رغبتهم في القراءة، فأومأت إلى أحدهم بالقراءة، فقرأ ما يلي:
«إن الحرب الحديثة، التي تعتبر الاستراتيجية عنصرها الرئيسي تظهر لنا حقيقة أكبر، وهي أن التقنية هي مسألة سلوك مهتم وهادف، وليست أبدا أشياء وموضوعات، وهذا بالضبط ما يتم نسيانه...»
وبعد انتهائه من القراءة، تساءلت مع التلاميذ:
- يؤكد من جديد شبنغلر الدلالة الحقيقة للتقنية، وينفي دلالة أخرى لها يعتبرها  خاطئة. من يميز لي، من خلال ما قرأه زميلكم الآن، بين هاتين الدلالتين؟
- هناك دلالة يتبناها شبنغلر وتتمثل في قوله بأن التقنية سلوك هادف. أما الدلالة الخاطئة فهي القول بأن التقنية أشياء وموضوعات مادية.
- وما معنى أن التقنية سلوك هادف؟
- أي أن الفكر الإنساني هوالذي يحدد للتقنية أهدافها.
- إذن فالدلالة الحقيقة للتقنية الإنسانية تكمن على مستوى الغايات والمخططات والاستراتيجيات التي يرسمها العقل البشري للآلات التي يبتكرها.
- نعم. وهذا ما يجعل التقنية بالمعنى الدقيق خاصية إنسانية.
- وإذا كانت التقنية ليست أدوات وموضوعات مادية، فإنها إذن أفكار وتأملات عقلية. كما أنها تتمظهر على مستوى أنماط العيش لدى الإنسان، وتتجسد في جميع مجالاته الحياتية. وقد قدم لنا شبنغلر مثال الحرب الحديثة لكي يوضح لنا هذه الفكرة؛ لأن هذه الحرب تتضمن مخططات استراتيجية هي التي تجعل الاختراعات التقنية خاضعة لسيرورة عامة تتقاطع داخلها أهداف متعددة ومتشابكة.
وهذا ما سيوضحه شبنغلر أيضا في الجملتين الأخيرتين من النص. من يقرأهما؟
- أستاذ! أستاذ!
- تفضل.
وأخذت التلميذة تقرأ ما يلي:
«إن كل آلة تستخدم سيرورة معينة وتخدمها وتدين بوجودها إلى التأملات والاستباقات الخاصة التي تحرك هذه السيرورة. فكل وسائل نقلنا ولدت وتم تطويرها انطلاقا من فكرة السياقة، والتجديف، والإبحار والطيران، ولا انطلاقا من تمثلات للعربة أو للمركب
وبعد انتهائها من القراءة، تساءلت مع التلاميذ:
- ما معنى مفهوم السيرورة؟
- إنها السير نحو الامام.
- بالفعل؛ فهي من فعل سار يسير بمعنى مشى نحو الأمام. وهذا يعني أن التقنية تستخدم من أجل تحقيق أهداف مستقبلية يرسمها لها الفكر.
لكن دعوني أسألكم: ما الفرق بين السيرورة بالسين والصيرورة بالصاد؟
- السيرورة من فعل سار والصيروة من فعل صار.
- وما الفرق بين سار وصار؟
- سار هي ذهب إلى الأمام، وصار هي تحول وأصبح على حال  جديدة.
- إذن فمفهوم الصيرورة يتضمن معنى السيرورة مع التغير؛ بمعنى أن التقنية تتقدم نحو الأمام وفي نفس الوقت يقع فيه تغير وتحول، كما تغير أيضا من نمط عيش الإنسان، وهذا بخلاف نمط عيش الحيوان الذي كما رأينا يظل قارا وثابتا.
وإذا كان للتقنية سيرورة، فمن يحرك هذه السيرورة حسب شبنغلر؟
- تحركها التأملات والاستباقات الفكرية.
- إذن فما يميز التقنية عند الإنسان هو أنها محكومة بمخططات فكرية مسبقة هي التي توجهها وترسم أهدافها، بينما التقنية عند الحيوان كما رأينا سابقا محكومة بدوافع غريزية. وهذا يعني أيضا أن الحيوان غير حر فيما يصنعه من تقنيات بسيطة بل هي من صنع دوافعه الغريزية، بينما يمتلك الإنسان قسطا كبيرا من الحرية في صنع أدوات وآلاته التقنية بحسب ما يريده وما يطمح إليه.
وإذا  ما تساءلت معكم الآن عن المثال الذي قدمه شبنغلر في الجملة الأخيرة من النص: ما هو هذا المثال؟
فأجابت تلميذة:
- العربة والمركب.
- صحيح. ولنقل عموما وسائل النقل. فما وظيفة هذا المثال؟ ما هي الفكرة التي يريد أن يؤكدها؟
- يريد أن يؤكد  من خلاله صاحب النص أن فكرة السياقة والتجديف والإبحار والطيران هي التي أدت إلى ابتكار الإنسان لوسائل النقل.
- جيد. وهذا معناه أن فكرة السياقة هي التي أدت إلى ابتكار العربة، وفكرة التجديف هي التي أدت إلى صنع المركب، وفكرة الطيران هي التي أدت إلى ابتكار الطائرة، وهكذا دواليك.
وانطلاقا من هنا ما علاقة التقنية عموما بالفكر والعقل؟
- العقل هو الذي يفكر ويخطط لكي يؤدي ذلك إلى صنع الآلات التقنية.
- فالحاجة إذن هي أم الاختراع. ونحن نعلم أن للإنسان رغبات لا حصر لها، وليس فقط حاجات بيولوجية مثل الحيوان، ولذلك فالعقل البشري هو الذي يطمح إلى تحقيق جملة من الرغبات التي تشكل ذلك المحرك الذي يدفعه إلى ابتكار مختلف أشكال منتوجات التقنية. فصنع هذا القلم الذي بين يدي، مثلا، جاء نتيجة لفكرة الكتابة والتعبير عن الأفكار، كما أن اختراع هذا الهاتف الموجود في جيبي جاء هو الآخر نتيجة لفكرة تحقيق التواصل عن بعد. والأمر ينطبق على كل الأدوات والآلات التي أبدعها الإنسان.
وقد نفى صاحب النص أن يكون تطوير وسائل النقل نتيجة لتمثلات العربة أو المركب، لماذا هذا النفي؟ ما هي دلالته انسجاما مع ما قلناه سابقا؟
- ربما يعني بذلك أن تفكيرنا في العربة والمركب هو الذي يؤدي بنا إلى تطويرهما.
- لكن كيف ذلك؟
- يصنع الإنسان آلة بمواصفات معينة، ثم بعد ذلك يطورها إلى الأحسن.
- صحيح أنه يقع مثل هذا التطور التقني، لكن ما الذي يؤدي إليه؟ أي ما سبب التطور التقني على وجه الدقة حسب منظور شبنغلر؟ ولكي أساعدكم على الجواب لاحظوا معي حديثه عن "فكرة" السياقة و"فكرة التجديف"...وغير ذلك.
- هذا معناه أن الفكر هو سبب تطوير التقنية.
- نعم صحيح؛ فشبنغلر يريد أن يقول لنا بأن فكر الإنسان حينما يرغب في السياقة أو الطيران مثلا، فإن هذه الرغبة التي يحددها الفكر الإنساني هي التي تؤدي إلى تطوير الآلات التقنية من حال إلى حال آخر. وأنتم تعلمون مثلا أن الهواتف التي توجد لديكم الآن هي تطوير لهواتف كانت موجودة من قبل؛ ففكر الإنسان ورغبته هما اللذان أديا إلى تطوير شكلها ووزنها وإدخال تحسينات على وظائفها.
فوافقني التلاميذ على ذلك، خصوصا وأنني قدمت لهم مثالا توضيحيا من صميم تجربتهم المعاشة، مادام معظمهم يمتلك هاتفا نقالا ويستخدمه بشكل يومي.
وبهذا، نكون قد انتهينا من أهم وأصعب خطوة في تحليل النص، وهي المتعلقة بالاشتغال على مفاهيمه واستخراج أفكاره ومضامينه المعرفية. أما باقي الخطوات المتعلقة بالأطروحة والإشكال والأساليب الحجاجية والمناقشة، فإننا عادة ما ننجزها في مدة زمنية أقل، لأننا نكون قد تطرقنا إليها ولو ضمنا خلال إنجازنا للخطوة الأولى.
وهكذا، ومادام التلاميذ قد فهموا عبارات النص وتم بيننا نقاش مفصل حول مفاهيمها ودلالاتها، فإنه يكفي الآن أن تطرح على التلاميذ أسئلة مباشرة تتعلق بالأطروحة والإشكال والحجج، لكي تقتنص منهم إجابات نقوم بتثبيتها في السبورة والدفتر. وفي الأخير ننجز المناقشة من خلال مستويين؛ أحدهما نسميه مستوى التثمين والآخر نسميه مستوى النقد.
وحينما كتبت في السبورة أطروحة النص كخطوة ثانية، تساءلت معهم:
- من يحدد لي أطروحة النص بعد كل ما أنجزناه سابقا؟
فقدم بعض التلاميذ اقتراحاتهم، من قبيل:
- التقنية بالمعنى الدقيق خاصية إنسانية لأنها ترتبط بالعقل والفكر.
- التقنية ظاهرة إنسانية قديمة، وهي تتميز عن تقنية الحيوان الغريزية بكونها عبارة عن مخططات فكرية.
- يقارن صاحب النص بين التقنية عند الحيوان والتقنية عن الإنسان، حيث أن الأولى غريزية وثابتة والثانية عقلية ومتطورة.
وقد قمت باستحسان بعض ما قدمه التلاميذ، كما نبهت بعضهم الآخر إلى ضرورة أن تكون الأطروحة مختصرة وشاملة ومصاغة بأسلوب شخصي. وقمعنا بشكل جماعي بصياغة أطروحة النص وكتابتها في الدفاتر كما يلي:
تعتبر التقنية بالمعنى الدقيق خاصية إنسانية مرتبطة بالوجود الإنساني منذ القدم، وهي عبارة عن أهداف ومخططات فكرية تختلف عن التقنية الحيوانية التي هي فقط عبارة عن وظائف بيولوجية
وبعد هذا سألت التلاميذ عن إشكال النص، فقدموا جملة من التساؤلات من بينها:
- ما الفرق بين التقنية عند الإنسان وتلك الموجودة عند الحيوان؟
- ما هي خصائص التقنية الإنسانية؟
- أين تكمن الدلالة الحقيقية للتقنية؟
- ما الذي يجعل التقنية خاصية إنسانية؟
وقد اعتبرنا أن إشكال النص يتكون من هذه الأسئلة في ترابطها وتشابكها.
وبعد ذلك طالبت التلاميذ بالعودة إلى النص من جديد للقيام بعملية استكشافية من أجل الوقوف عند الحجج والأساليب الحجاجية المستخدمة فيه.
وهكذا قلت للتلاميذ:
- ما هي الأساليب الحجاجية المستخدمة في الفقرة الأولى؟
- أسلوب النفي.
- ويمكن تسميته أيضا بأسلوب الدحض. لن ما هي المؤشرات اللغوية التي تدل عليه؟
- "علينا ألا ننطلق".
- وأيضا؟
- "ولا من المفهوم الخاطئ".
- وماذا ينفي صاحب النص هنا؟
- ينفي أن يتم فهم دلالة التقنية فقط انطلاقا من العصر الآلي الحديث.
-وماذا ينفي أيضا؟
- ينفي أن يكون هدف التقنية هو صناعة الأدوات والآلات.
- جيد. وهذا ما رأيناه سابقا.
وهل استخدم صاحب النص آليات حجاجية أخرى في هذه الفقرة؟
- نعم.
- ما هي؟
- آلية التأكيد.
- ما هي المؤشرات الدالة عليها؟
- "إن التقنية ترجع.."، "..بل هي خاصية.."
- وماذا يؤكد؟
- يؤكد على أن التقنية قديمة قدم الإنسان، وأنها لا تقتصر على الإنسان بل توجد عند الحيوان أيضا.
- وهل  من أسلوب حجاجي آخر في النص؟
فأجاب أحد التلاميذ:
- نعم.
- وما هو؟
- التقابل.
- يقابل بين ماذا وماذا؟
- بين الحيوان والنبات.
- وماذا يريد أن يثبت من خلال هذا التقابل؟
- يريد أن يثبت على أنه يمكن نسبة التقنية للحيوان، بينما لا يمكن نسبتها إلى النبات.
- جيد. وحجته في ذلك هو أن الحيوان يتحرك في المجال الطبيعي، ويملك استقلالا إزاء الطبيعة، ويدافع عن نفسه ويحميها، ويضيف مضمونا جديدا إلى وجوده الطبيعي.
إن  صاحب النص يقدم إذن حجة مستمدة من الواقع الفعلي والمعيشي للحيوانات، لكي يثبت فكرة أنها تمتلك نوعا من التقنية والقدرة على الصنع، بخلاف النباتات التي لا تمتلك ذلك.
وإذا انتقلنا  إلى الفقرة الثانية، يمكن أن تلاحظوا معي أنه استخدم آليات حجاجية ثلاث رئيسية هي: الدحض والإثبات والتقابل. فما هي المؤشرات والوظائف المتعلقة بكل آلية على حدة؟
قدم مختلف التلاميذ إجاباتهم عن السؤال الذي طرحته عليهم، حيث بحثوا في الفقرة الثانية واستخرجوا المؤشرات اللغوية الدالة على كل آلية من الآليات الحجاجية الثلاث، وحددوا وظائفها في النص، وذلك كما يلي:
* المؤشرات الدالة على آلية الدحض:
+ لا نفهم التقنية من خلال
+ إن ما يهم ليس هوولا
+ فما يهم ليس
+ ولا انطلاقا من
* وظائفها في النص:
+ لا ينبغي فهم التقنية انطلاقا من وظيفة  الأداة.
+ ما يهم ليس هو الأداة التقنية في حد ذاتها، بل الغاية المتوخاة منها.
* المؤشرات الدالة على آلية الإثبات:
+ علينا الانطلاق من
+ إن كل آلة...
+ كل وسائل نقلنا ولدت انطلاقا من
* وظائفها في النص:
+ دلالة التقنية مرتبطة بالروح أو النفس، وهي ما يجعلها بالمعنى الدقيقة خاصية إنسانية.
+ كل آلة هي نتاج لسيرورة من التأملات التي تسبق وجودها و تحدد أهدافها مسبقاٌ.
+ الفكرة هي التي تولد التقنية وتطورها.
أما آلية التقابل، فقد تبين للتلاميذ بسهولة أن الفيلسوف يقابل بين التقنية عند الحيوان والتقنية عند الإنسان، وذلك من أجل أن يثبت أن التقنية عند الحيوان مجرد خطة حيوية، أي سلوكات غريزية هدفها الحفاظ على بقاء النوع . أما عند الإنسان فتعتبر التقنية خطة للحياة، أي أنها مرتبطة بالفكر وقائمة على التأمل ورسم أهداف للسلوك البشري (البعد الغائي). 
وبعد كل هذا، انتلقنا إلى الخطوة الأخيرة في تحليل النص، وهي الخطوة المتعلقة بالمناقشة. وعادة ما أميز مع تلامذتي بين مستويين في المناقشة؛ مستوى التثمين وفيه أدعو التلاميذ إلى تعزيز وتدعيم بعض الأفكار التي يتفقون فيها مع الفيلسوف، ومستوى النقد وهو الذي يبدي فيه التلاميذ اختلافهم مع الفيلسوف في بعض الأفكار، أو يبرزون بعض الجوانب التي أغفلها.
وهكذا، ومن خلال حوار دار بين جماعة الفصل، أكد التلاميذ أن قيمة النص تكمن في كشفه عن الماهية الحقيقية للتقنية لدى الإنسان، وكيف أنها تتميز عن تلك الموجودة لدى الحيوان، وأنها لا تتمثل فقط في الجانب المادي الآلي بل هي سيرورة ذهنية ومخططات فكرية لا تعرف التوقف. فضلا عن هذا أكد التلاميذ مع شبنغلر على أن التقنية قديمة لدى الإنسان، وأنها عرفت تقدما مع مرور التاريخ. ووافقوه أيضا على تميز الحيوان عموما، سواء أكان عاقلا أم غير عاقل، عن النبات بخاصية التقنية والصنع.
أما على مستوى النقد، فقد رأى بعض التلاميذ أنه لا يجوز تسمية ما يقوم به الحيوان غير العاقل "تقنية" أو عمل تقني بالمعنى الدقيق، لأن أفعاله محكومة بمحددات غريزية وينتفي فيها عنصر الإبداع المميز لأي ممارسة تقنية بالمعنى الدقيق، كما هو الحال عند الإنسان.
كما رأى بعضنا على أنه بالرغم من تأكيد شبنغلر على أن جوهر التقنية هو "الفكر" الذي يخطط لها وينجزها ويتحكم فيها، وليس جوهرها هو "الآلات" التي هي مجرد نتيجة لذلك الفكر، فإن الآلات التقنية نفسها حين تبلغ حدا من التطور والتعقيد فإنها تغدو ممتلكة لمنطق مستقل خاص بها، ويصبح لها تأثير حتمي على فكر الإنسان نفسه بحيث لا يعود هذا الأخير قادرا على التحكم فيها بشكل تام. فهناك إذن "فكر تقني" هو نتاج التقنية في حد ذاتها وليس نتاجا للإرادة الحرة للفكر الإنساني!!
وبمناقشة أفكار النص، انتهينا من تحليله على نحو حواري وممتع، وقاربناه من زوايا مختلفة، كما ربطنا مضامينه بحياة المتعلمين وتجاربهم المعيشية، وجعلناهم يفكرون بصدق فيما فكر فيه الفيلسوف نفسه، باعتبار أن ما فكر فيه لا يهم وحده كفيلسوف صاحب "عقل كبير"، بل يهم أيضا "العقول الصغيرة" للمتعلمين.  

 إكتشفوا المزيد من المحاورات الفصلية المتعلقة بتحليل النص الفلسفي في كتابنا التالي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.