في الوعي واللاوعي
بقلم: محمد
الشبة
إذا كانت
الفلسفة الكلاسيكية قد اعتبرت الإنسان وعيا بالدرجة الأولى، فإنها قد أغفلت
الجوانب اللاواعية في الإنسان، وهو ما سيتم الانتباه إليه في الفلسفة والعلوم
الإنسانية المعاصرة. وفي هذا السياق، عمل المحلل النفسي والفيلسوف سيغموند فرويد على الدفاع عن فرضية اللاشعور كفرضية
ضرورية ومشروعة. وهكذا اعتبر فرويد أن هناك الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا
يمكن تفسيرها انطلاقا من الوعي، بل هي صادرة عن دوافع لاواعية. وهذا ما يجعل فرضية
اللاوعي ضرورية ومشروعة، خصوصا وأن الممارسة الطبية النفسية أثبتت نجاحها
ومشروعيتها. ويدل اللاوعي على ذلك الجانب العميق والخفي في الجهاز النفسي، والذي
يحتوي على دوافع ورغبات غريزية ومكبوتة. وتجد تلك الدوافع اللاواعية تجليات لها في
عدة مظاهر، من بينها فلتات اللسان وزلات القلم والهفوات والأحلام والإبداعات
الأدبية والفنية ... كأشكال تعبيرية تتيح لتلك الدوافع والرغبات العميقة أن تطفو
إلى السطح وتعبر عن نفسها بكل حرية.
وقد قدم فرويد
مجموعة من الحجج لإثبات مشروعية فرضية اللاوعي؛ منها أن معطيات الوعي ناقصة ولا
يمكنها تفسير وفهم الكثير من الأفعال النفسية كالهفوات والأحلام مثلا. كما تثبت
التجربة اليومية أن هناك أفكار تخطر على الإنسان دون أن يكون مصدرها هو الوعي،
فإذن لا يمكن أن تكون صادرة إلا عن دوافع لاواعية. فضلا عن ذلك فإن فرضية اللاوعي
هي فرضية مشروعة لأن التجربة العلمية أكدت نجاحها على مستوى علاج الكثير من
الأمراض النفسية.
ومن هنا نجد فرويد
يمنح الأسبقية للاشعور
أو اللاوعي في تفسير الأنشطة الصادرة عن الجهاز النفسي. فالجزء الأكبر في هذا
الجهاز تحتله الدوافع اللاشعورية التي تقف وراء معظم أفعال الإنسان وإبداعاته
الفكرية والفنية.
ويتكون الجهاز النفسي حسب فرويد من الهو والأنا والأنا الأعلى. فالهوهو أصل الجهاز النفسي،
ويمثل الرغبات الغريزية التي تهدف إلى تحقيق اللّذة الحسية. كما أنه
لا عقلي، لاشعوري،
لا منطقي ،لا زماني ولا مكاني، أي لا يقيم اعتبارا لا لمبادئ العقل والمنطق
والأخلاق، ولا لمقتضيات الزمان والمكان والواقع، أثناء تحقيقه لرغباته الغريزية. أما الأنا فينشأ عن اصطدام رغبات الهو بالواقع، و يمثل
منطقة الصراع في الجهاز النفسي حيث يقوم بوظيفة أساسية، هي التوفيق بين
الرغبات اللامعقولة للهو و الأوامر
المثالية للأنا الأعلى. وإذا كان الأنا يتحكم فيه مبدأ الواقع، فإن الأنا الأعلى يمثل مبدأ المثال؛ إذ تتحكم فيه
مجموعة من القيم الأخلاقية العليا (الضمير الأخلاقي )، وهو ينشأ عن تقمص الطفل
للأوامر العليا لوالديه أو لمن يعتبرهم
قدوة بالنسبة إليه .
وإذا كان الوعي هو معرفة مباشرة بالحالات النفسية، ومجاله هو
مجموع العواطف والأفكار والصور التي تؤسس الحياة العقلية لكل فرد، فإن اللاوعي هو
جانب عميق في الحياة النفسية يتكون من الميولات والرغبات المكبوتة، والتي تعبر عن
نفسها في النكت وزلات القلم وفلتات اللسان والأحلام ... ذلك أن الحلم هو تعبير رمزي عن رغبات لاشعورية يصعب تحقيقها في
الواقع نظرا لرقابة الأنا والأنا الأعلى،
فيحتال عليهما الهو ليلا أو نهارا لكي يحقق رغباته في غفلة منهما!! وتفصح الرغبات
اللاشعورية عن نفسها أثناء الحلم بكيفية مقنعة ومرموزة . ولذلك اعتبر فرويد بأن "الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور"!!
كما ذهب إلى"أن الفوضى الظاهرة في الحلم ليست إلا
شيئا ظاهريا لا يلبث أن يختفي حينما نمعن النظر في الحلم".
وإذا كان فرويد قد أكد على دور اللاوعي في توجيه سلوكات
الإنسان، فإننا نجد بعض الفلاسفة ينتقدون فكرة اللاوعي هذه ويحاولون من جديد إعادة
الاعتبار لدور الوعي في صدور مختلف الأفعال والمواقف عن الإنسان ككائن مفكر وعاقل
وواع.
وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى الفيلسوف
الفرنسي المعاصر ألان
(إميل شارتيي) الذي يرفض فكرة فرويد القائلة بأن اللاشعور هو الذي يتحكم في
الذات، و يقول على العكس من ذلك أن أفكارنا و سلوكاتنا هي نتائج للوعي؛ أي لذات
فاعلة و متكلمة .
وهكذا نجد ألان
يعتمد في كتاباته على أسلوب سجالي،
يحاول من خلاله أن ينتقد مفهوم اللاشعور كما قدمه علم النفس الفرويدي. فلفظ
اللاشعور في نظره هو من نسج خيال فرويد، إنه شخصية أسطورية، كما أنه من الصعب
تحديده وفهمه. كما أنه لا يمكن القول بأن
الغريزة لاشعورية، والسبب هو أنه لا يوجد أمامها شعور حيواني تتمظهر من خلاله. و
هذا يعني أن كل وعي أو شعور هو عقلي ومفكر فيه من قبل العقل الواعي.
وإذا كان التقليد الفلسفي قد
اعتبر الإنسان حيوانا ناطقا، وتم اعتبار
أن الوعي هو السمة الأساسية المميزة له عن باقي الكائنات، وأنه المصدر أو الأساس
الذي تنبني عليه كل الحقائق، وأن سلوكات الإنسان وأفكاره صادرة عن الوعي، فإن أبحاث فرويد في مجال علم النفس أدت إلى اكتشاف اللاوعي أو
اللاشعور، بحيث ثم اعتباره أساس الحياة
النفسية وأنه يحتل الحيز الأكبر في الجهاز النفسي، وما الوعي سوى الجزء الضئيل
الذي يتواجد على سطح هذا الجهاز. واعتبر فرويد أن معظم سلوكات الإنسان، وأشكال
وعيه بذاته وبالعالم، صادرة عن دوافع
لاشعورية تجد تجلياتها في الأحلام والنكت وفلتات اللسان، وفي الإبداعات الفنية والأمراض
النفسية .
وإذا كان فرويد
قد ركز كثيرا على الوعي في جانبه الفردي، فإننا نجد غوستاف لوبون يحدثنا عن لاوعي
جماعي يهيمن على الحياة النفسية أكثر من الوعي. ويتخذ
هذا اللاوعي أو اللاشعور طابعا جماعيا من خلال ارتباطه بروح العرق؛ أي بماضي
الجماعة الثقافي والفكري الذي يتوارث جيل عن جيل ويتحكم في الأفراد بشكل لاواعي،
ويتمظهر في سلوكاتهم وطقوسهم الإجتماعية.
وروح العرق هو مجموعة من العناصر الثقافية
والسيكولوجية التي تميز سلاسة أو عرق معين، وتتوارث جيل عن جيل، وهو يرتبط ارتباطا
وثيقا باللاشعور مادام أن هذا الأخير يتكون من عناصر وراثية تشكل روح العرق التي
تتميز بها جماعة ما.
إن أفعال الإنسان حسب غوستاف
لوبون صادرة عن دوافع لاشعورية تتكون من عناصر وراثية تعود إلى ماضي
السلاسة والعرق، وهي عناصر وراثية ثقافية تترسخ لدى الأفراد مع مرور الزمن من خلال
التربية والتنشئة الاجتماعية. ومن هنا،
فالعناصر اللاشعورية تتشابه بين كل أفراد العرق الواحد، كالغرائز والانفعالات
والمعتقدات المستبطنة ... إذ
بالرغم من وجود تفاوت في المستوى الفكري والثقافي بين عالم مشهور وصانع أحذية
مثلا، فإنهما يتشابهان في الصفات العامة التي يشترك فيها أفراد العرق الواحد
كالمزاج والأحاسيس والاعتقادات....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.