الخميس، 20 أكتوبر 2016

كلي أيتها الثياب، فأنت المدعوة ولست أنا !! الجسد وقيمة الشخص

 
كلي أيتها الثياب، فأنت المدعوة ولست أنا!!
الجسد وقيمة الشخص

بقلم: محمد الشبة

 
لوحة للفنان الإيطالي أمديو مودلياني (1884-1920)

في وقتنا المعاصر، غدت المظاهر تحتل مكانة مهمة في حياتنا الاجتماعية، فتجد الكثير من الناس يصدرون حكما على قيمة الشخص انطلاقا من مظهره الخارجي، إذ قد يقال مثلا عن شخص ما أنه ذو مكانة رفيعة فقط لأنه حسن الثياب والمظهر الجسدي. وربما يلعب ضعف الوعي الأخلاقي وسيادة الأمية والجهل في كثير من الأوساط الشعبية دورا أساسيا في إصدار مثل هذه الأحكام السطحية. ولعلنا نشير إلى ذلك انطلاقا من قصة ذلك الرجل الذي يقال أنه دعي إلى وليمة أقامها أحد جيرانه، فأتى إليها بملابس بالية وغير أنيقة مما اضطر الحراس إلى منعه من دخول قاعة العرس، وذلك بحجة أنه سيسبب إزعاجا للمدعوين بسبب مظهره غير اللائق. وهكذا فما كان على صاحبنا إلا أن عاد أدراجه، وفكر أن يأتي إلى الحفلة مرة أخرى بثياب جديدة أحسن من الأولى. وبالفعل فقد نجحت خطته، واستقبل هذه المرة بترحاب كبير. وحينما جلس إلى طاولة العشاء، بدأ يتأمل في الأكل ويتمتم مخاطبا ملابسه: «كلي أيتها الثياب، فأنت المدعوة ولست أنا!!». ومن هنا يتبين كيف أن هذه الحكاية الشعبية، توضح إلى أي حد قد تلعب المظاهر الخارجية، اللباس والجسد بصفة خاصة، دورا كبيرا في تحديد قيمة الشخص داخل المجتمع. وقد لا يحصل هذا طبعا في جميع الأوضاع والأحوال، ولكن حصوله في بعضها على الأقل من شأنه أن يجعلنا نفكر ونتأمل في دور الجسد في تحديد قيمة الشخص البشري.


العشـاء الأخيــر للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي

ونحن حينما نتحدث عن الشخص، فإننا نعني به ذلك الكائن العاقل والواعي والمفكر من جهة، والحر والمسؤول قانونيا وأخلاقيا من جهة أخرى. كما يتكون هذا الكائن من جانبين رئيسيين؛ أحدهما جسدي وعضوي وبيولوجي، والآخر روحي وعقلي وثقافي. ويبدو أن الشخص ككائن عاقل لا يمكنه أن يمارس مختلف الأنشطة الصادرة عن العقل بدون الارتكاز على الجسد؛ فكل الأنشطة اليومية الروتينية، سواء كانت يدوية كالمشي أو الطبخ أو اللعب أو مختلف الأفعال الحرفية، أو كانت ذهنية كالكلام والحوار والتدريس هي أفعال يتداخل فيها حضور الجسد والعقل معا؛ وكأن الأعضاء الجسدية لا تعمل إلا بإيعاز من العقل، وكأن هذا الأخير لا يستطيع أن يمارس أنشطته إلا بالاعتماد على أعضاء الجسد. وإذا كان الأمر كذلك، ربما وجب على الشخص أن يعتني بجسده قدر اعتنائه بفكره وعقله وروحه، إذ أن أي إهمال أو ضرر قد يلحق بالجسد فإنه ينعكس على العقل أيضا؛ وقد قيل: إن العقل السليم في الجسم السليم. ولهذا نجد الدين الإسلامي قد اعتنى بصحة الجسد ونظافته، واعتبر هذه النظافة من الإيمان. وهذا يعني أن طهارة الجسد ونظافته تساهم ولا شك في إعطاء قيمة لصاحبه، لأن النظافة تؤدي إلى الإيمان، وهذا الأخير يلعب دورا مهما في المجتمعات الإسلامية في جعل الشخص يكتسب قيمته ومكانته بين الناس داخل المجتمع.
وحينما نتحدث عن قيمة الشخص، فإننا ولا شك نميزها عن قيمة الحيوانات أو الأشياء الأخرى. ومصدر هذا التميز راجع ولا شك إلى امتلاك الإنسان وانفراده بخاصية العقل. ولهذا فنحن نتحدث عن قيمة نفعية واستعمالية تتميز بها الحيوانات والأشياء، بحيث نستخدمها كوسائل لتحقيق مجموعة من المنافع والمصالح للإنسان، بينما هذا الأخير يمتلك، إذ هو صاحب عقل أخلاقي كما يرى كانط، قيمة عليا تسمو على كل الكائنات والأشياء الطبيعية الأخرى، وهي قيمة أخلاقية تجعله غاية في ذاته وصاحب كرامة لا تقدر بأي ثمن.
ولهذا، يبدو أن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يحدد قيمة الشخص في عقله الأخلاقي وليس في جسده البيولوجي؛ ذلك أننا إذا نظرنا إلى الشخص من هذا المنظور العضوي الطبيعي، فإننا سنجد أنه لا يتميز أبدا عن باقي الحيوانات التي تتفوق الكثير منها عليه من هذه الناحية الجسدية.



الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724-1804م)
«الموجودات العاقلة تدعى أشخاصا، ذلك أن طبيعتها تدل عليها من قبل بوصفها غايات في ذاتها، أعني شيئا لا يمكن استخدامه ببساطة كوسيلة.» 

 لكن هل يعني هذا أن التركيز على الأخلاق في تحديد قيمة الشخص، يلغي نهائيا أي دور للجسد في تحديد تلك القيمة؟ أو ليس بإمكاننا ربط الأخلاق بالجسد، والحديث عن سلوكات أخلاقية تمارس انطلاقا من الجسد ولا يمكنها الاستغناء عنه؟
صحيح أن الشخص كائن عاقل، وصحيح أن العقل هو أرفع وأسمى ما يوجد لديه، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نغض الطرف عن الجسد كمكون رئيسي من مكونات هذا الشخص. وهكذا، فنحن نجد أن الكثير من الأفعال الأخلاقية تمارس من خلال الجسد وبالاستناد إليه؛ فحينما أبتسم في وجه إنسان آخر، فإن هذا سلوك أخلاقي حميد يمارس من خلال الابتسامة التي هي حركات جسدية تحدث على مستوى الوجه، كما أنني حينما أغض البصر عما لا ينبغي التحديق فيه، أو أنحني لشخص إجلالا وتقديرا، أو أمشي باستحياء، فإن هذه الأفعال وغيرها تبين ولا شك العلاقة الوطيدة الموجودة بين الجسد والأخلاق. وهذا ما يجعلنا نعتبر أنه بقدر ما يحمل الجسد دلالات أخلاقية، فإنه يكتسي بذلك قيمة إنسانية رفيعة، وبالتالي يمكن للشخص أن يكتسب قيمة سامية إذا ما حرص أن تكون أفعاله الجسدية لائقة وأخلاقية. ومن هنا يختلف الجسد البشري عن أي جسد آخر، لحيوان أو شيء ما، إذ في الوقت الذي نجد قيمة باقي الأجساد تتحدد من منظور مادي وبيولوجي، فإن قيمة الجسد لدى الشخص ترتبط بقيمة مبادئه الأخلاقية والروحية. ولهذا يكتسب الشخص قيمة مميزة في المجتمع إذا ما جعل تعابيره وحركاته وأفعاله الجسدية معبرة عن قيم أخلاقية عليا؛ فنظافة الجسد مثلا هي، بخلاف قذارته، تمنح للشخص قيمة جسدية وروحية معا، ونفس الشيء بالنسبة لأفعال أخرى كثيرة يتداخل فيها ما هو جسدي مع ما هو روحي وأخلاقي.
لكن بغض النظر عن الجانب الأخلاقي للجسد، فإنه يمكن القول بأن قوته أو مهارته أو رشاقته أو جماليته يمكنها أن تساهم في منح صاحبها قيمة مهمة داخل المجتمع. فالملاكم الذي يتمكن من الحصول على الأوسمة والأموال الطائلة وإعجاب الجماهير، إنما تمكنه من ذلك قوته الجسدية. كما أن لاعب كرة القدم الذي يملك مهارات جسدية عالية، يستطيع بواسطتها أن يحتل مكانة عالية ليس من حيث حصوله على الأموال والامتيازات المادية فحسب، وإنما حصوله على ود وإعجاب الجماهير أيضا. كما قد يجعل الجمال الجسدي المرأة تحصل لقب "ملكة الجمال"، وهو جمال ولقب يساهمان ولا شك في احتلالها مكانة ما بين الناس، تختلف عن المكانة التي كانت ستحتلها لو كانت ذميمة الخلقة ولها نصيب ضئيل من الجمال. كما قد يمكن الجمال الجسدي المرأة أيضا من ترقي المراتب الاجتماعية عن طريق تزوجها من أحد الأثرياء الذين غالبا ما تجدهم يبحثون عن النساء الجميلات للتزوج بهن. وكل هذا وغيره يبين ما قد يلعبه الجسد من جعل الشخص البشري، سواء كان رجلا أو امرأة، يحصل على الكثير من الامتيازات الاجتماعية وعلى إعجاب الآخرين.
وهكذا، يمكن القول إن قيمة الشخص، كما أكد على ذلك الفيلسوف كانط مثلا، تتحدد من خلال عقله الأخلاقي العملي وبمدى امتثاله لأوامر هذا العقل وتشبثه بمكارم الأخلاق. لكن تبين لنا أيضا أن هذه القيمة الأخلاقية غير منفصلة، في الكثير من مظاهرها، عن الجسد وأفعاله، مما يجعل هذا الأخير يصبح حاملا لدلالات أخلاقية وروحية مندغمة فيه ومحفورة في ثناياه. وهذا يوضح العلاقة الوثيقة والممكنة بين الأخلاق والجسد، أو بين القيم الأخلاقية والمظاهر الجسدية التي تجسدها على أرض الواقع. ومن جهة أخرى، فقد تبين لنا أن الجسد يساهم في منح الشخص قيمة داخل المجتمع، وذلك خارج إطار أي اعتبارات أخلاقية، بل فقط انطلاقا مما قد يتصف به هذا الجسد من عناصر مميزة؛ قد تتمثل في القوة العضلية، أو الخفة والرشاقة، أو الحسن والجمال، أو المهارة اليدوية.
وعلى ذكر المهارة اليدوية، يمكننا القول بأن الكفاءة العقلية التي يجعلها فيلسوفا كجون راولز تساهم في منح الشخص قيمة داخل المجتمع، بجانب ما يسميه بالكفاءة الأخلاقية، هي أيضا لا يمكنها أن تمارس وظائفها بدون الاعتماد على الجسد، حتى أنه يمكننا القول بأن الكفاءة العقلية هي في العديد من جوانبها تعتبر كفاءة جسدية، لاسيما في ما يتعلق بالكفاءات العقلية المرتبطة بالحرف والصناعات اليدوية؛ فالنجار والخياط والحداد وغيرهم، من أصحاب الحرف والمهن، يمتلكون كفاءات عقلية مهنية تمارس من خلال مهارات وقدرات جسدية ويدوية، وهي مهارات تساهم ولا شك في منحهم قيمة داخل المجتمع.

الفيلسوف الأمريكي جون راولز (1921-2002م)
«إننا نعتبر المواطنين أشخاصا أحرارا وأندادا.. بفضل كفاءاتهم الأخلاقية والعقلية.» 

 فلا يمكن للشخص، كما يذهب إلى ذلك جون راولز أن يكتسب قيمة إلا بمساهمته الفعالة في تنمية المجتمع وفعل ما هو مفيد وصالح لمجتمعه. ولذلك، يتعين على الواحد منا أن يعتني بجسده ويطور مهاراته، بقدر ما يعتني بعقله وينمي مواهبه وقدراته الداخلية، وذلك لما يوجد من تشابك وتقاطع بينها، وهذا التداخل هو ما يجعلهما يساهمان معا في احتلال الشخص مكانة مميزة بين أفراد المجتمع.


جورج غوسدورف (1912-2000)
« يعتقد "الفرد" أنه إمبراطور داخل إمبراطورية، فيضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع الآخرين، بحيث يتصور نفسه كبداية مطلقة. وعلى العكس من ذلك يدرك الشخص الأخلاقي أنه لا يوجد إلا بالمشاركة، فيقبل الوجود النسبي، ويتخلى نهائيا عن الاستكفاء الوهمي.»  

وإذا كانت قيمة الشخص لا تتحقق إلا بانفتاحه على الغير، كما يرى الفيلسوف جورج غوسدورف، فإن هذا الانفتاح لا يكون بالفكر والعقل والروح فقط، بل بالجسد والأعضاء أيضا. فنحن ننظر إلى الغير ونصافحه ونعانقه ونوبخه ونثني عليه ونعجب به باستعمال حركات جسدية واضحة، تعبر ولا شك في ثناياها عن قيم روحية ومعاني فكرية. فلا يمكن الفصل في العملية التواصلية التي ندرك من خلالها الآخر، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف ماكس شيلر، بين ما هو جسدي وما هو روحي أو نفسي؛ إذ إننا ندركهما معا وبشكل كلي، مما يبين أهمية الجسد في ما يصدر عنا من أفعال تساهم في رسم قيمتنا الإنسانية أمام الآخر.

الفيلسوف الألماني ماكس شيلر (1874- 1928م)
«إن أول ما ندركه من الناس الذين نعيش وإياهم، ليس هو أجسادهم، ولا أفكارهم ونفوسهم، بل إن أول ما ندركه منهم هو مجموعات لا تنقسم ولا تتجزأ.» 

وإذا كنا قد وضحنا إلى أي حد يلعب الجسد دورا مهما في تحديد قيمة الشخص، فإننا مع ذلك نميل إلى التأكيد على أن هذه القيمة الجسدية لا تكون سامية ورفيعة إلا بقدر ما تقترن بأهداف وغايات أخلاقية نبيلة وإنسانية. ولذلك، ينبغي العناية بالجسد بالقدر الذي يحقق لنا السمو الخلقي والمكانة الاجتماعية. ويمكن أن يتم ذلك بطرق وأساليب متعددة ومتنوعة؛ منها العناية بنظافة الجسد، وتطوير مهاراته ومواهبه، الرياضية والحرفية وغيرها، وتطويع حركاته وتعابيره ومنحها رمزية وأبعادا إنسانية وأخلاقية عميقة. ولهذا، فإن إهمال بعض الأشخاص لنظافة أجسادهم وملابسهم، أو استخدامهم لجوارح جسدهم في ما هو مضر وغير أخلاقي، كأفعال القتل أو السرقة أو الشتم أو غير ذلك، من شأنه ولا شك أن ينقص من قيمتهم ومكانتهم كأشخاص داخل المجتمع البشري. ولعل هذا ما جعل أغلب الفلاسفة يركزون على الجانب العقلي والروحي والباطني في تحديد قيمة الشخص، وهم لم يفعلوا ذلك من أجل الحط من قيمة الجسد، وإنما على العكس من ذلك من أجل الرفع من قيمته بجعله يسمو على باقي الأجساد عن طريق حمله لدلالات وقيم أخلاقية وعقلية وروحية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.