تأطيرعام لمجزوءة
الوضع البشري
حينما قذف بالإنسان في هذا العالم، على حد تعبير سارتر، وجد نفسه
داخل وضع بشري هو مضطر لكي يعيش فيه ويتعامل معه، ويصنع ذاته في أحضانه وليس أبدا
خارجه. ويمكن القول بأن الوضع البشري هو مجموعة من الحدود القبلية التي ترسم
الوضعية الأساسية للإنسان.
وإذا كان الكائن البشري يجد
نفسه، حينما يـأتي إلى هذا العالم، مشروطا بمجموعة من المحددات الثقافية
والاجتماعية التي كانت موجودة بشكل قبلي، فإنه مع ذلك يحس أنه كائن متميز عن
الحيوانات وأشياء الطبيعة بوعيه وإرادته العاقلة والحرة. وهذا ما يسمح له بالتساؤل
عن ذاته وعن قيمته في هذا الوجود، وعن الدور المنوط به في هذه الحياة، بالنظر إليه
ككائن أخلاقي ومسؤول قانونيا وأخلاقيا.
وحينما نتحدث عن الحرية والمسؤولية لدى الشخص البشري، فإننا نطرح ذلك
بالضرورة في إطار علاقته بالآخرين، إذ اعتبر معظم الفلاسفة أن الشخص مسؤول عن نفسه
وعن الآخرين، فحريته تنتهي حينما تبتدئ حرية الآخرين. وفي إطار علاقة التفاعل التي
تحدث بين الأشخاص-الأغيار داخل مجال الوضع البشري تصنع الأحداث التاريخية في
مستوياتها المختلفة، وتصبح جزءا أساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية ومحركة
لسلوكات الأفراد ووعيهم.
وهكذا بإمكاننا عموما الحديث
عن أبعاد ثلاثة رئيسية تحدد وجود الشخص داخل وضعه البشري؛ البعد الذاتي والبعد
العلائقي والبعد التاريخي. فالبعد الأول يتعلق بالتساؤل حول الشخص ككائن بيولوجي
من جهة، وككائن عاقل من جهة أخرى. أما البعد الثاني، فيخص الشخص ككائن اجتماعي
مضطر للعيش مع الغير، مما يجعل وجوده إشكاليا ويثير العديد من التساؤلات. في حين
يتعلق البعد الثالث بالإنسان ككائن تاريخي، يراكم تجارب ويستحضر الماضي في صنعه
لأحداث الحاضر وتطلعه إلى غايات المستقبل.
في إطار البعد الذاتي، تم التساؤل في الفلسفة ابتداء من جون لوك على
وجه الخصوص عن هوية الشخص. فإذا كان الإنسان يتغير مع مرور الزمن، سواء من الناحية
الجسدية أو النفسية أو الفكرية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يبقى
ثابتا لدى الشخص بالرغم من التغيرات التي تحدث له؟
وإذا كان الإنسان يدرك أنه
متميز عن باقي الحيوانات، فإنه ولا شك يحس أن له قيمة أصيلة وكامنة فيه. لكن أين
تكمن هذه القيمة؟ هل هي مشتركة بين جميع الناس؟ وهل يمكن للإنسان أن يفقدها؟ وكيف
يمكن أن يحصل ذلك؟
وإذا كان الإنسان كائنا
عاقلا وأخلاقيا، فهذا يعني أنه كائن حر ومسؤول. فبخلاف الحيوانات وأشياء الطبيعة
المحكومة بقوانين غريزية وثابتة، نجد أن الإنسان يمتلك قسطا كبيرا من حرية التصرف
والاختيار، مما يدفعنا إلى التساؤل: ما حقيقة أن الشخص كائن حر؟ ما هي حدود هذه الحرية؟
وما هي الحواجز التي قد تعوق الشخص في تحقيقه لذاته وصنعه لأوضاعه البشرية؟
وإذا كان الإنسان ينظر إلى
نفسه كشخص؛ أي كذات عاقلة وواعية وحرة، فإنه كفرد يجد نفسه داخل وضعه البشري أمام
كائنات أخرى هم أفراد مثله، أي أنهم أشخاص وكائنات عاقلة أيضا. وإذا كان وجود
الحيوانات والأشياء الطبيعية لا يطرح مشكلات كبيرة بالنسبة للشخص أو الأنا المفكر،
فإن الأشخاص الآخرين على العكس من ذلك يمثلون مشكلا بالنسبة إليه. فأنا لا أوجد في
العالم لوحدي، بل يوجد الغير بجانبي. ولهذا فوجوده معي هو وجود إشكالي على عدة
مستويات أنطلوجية وإبستيمولوجية وأكسيولوجية.
ففي ما يخص الجانب الأنطلوجي/الوجودي، يمكن أن نتساءل: كيف يمكن أن
يتأتى لي إدراك وجود الغير كوجود مماثل لذاتي؟ وهل يمكنني أن أوجد، كأنا وككائن له
أفكار ومشاعر وقدرة على ممارسة نشاط الوعي، بدون تواجد الغير معي ؟ وهل وجود هذا
الأخير ضروري لوجودي ووعيي بذاتي أم أنه مجرد وجود جائز ومحتمل؟
وإذا افترضت أن الغير ذات مثلي، له أفكار ومشاعر، فإن معرفته من قبلي
سوف لن تكون سهلة، كما هو الحال بالنسبة لمعرفتي بالكائنات الطبيعية. ولهذا
فمعرفتي بالغير ستتأرجح بين الإمكان والصعوبة، إن لم نقل الاستحالة أحيانا. كما
ستختلف هذه المعرفة بحسب طبيعة هذا الغير الذي أريد معرفته، مما يطرح إشكال وسائل
وسبل تحقيق هذه المعرفة.
غير أن العلاقة مع الغير
ليست فقط علاقة معرفية بل هي أيضا علاقة سيكولوجية وأخلاقية، تتحكم فيها مجموعة من
القيم والمبادئ والمنطلقات. ويظهر أن العلاقة مع الغير على مستوى الوجود الواقعي
تتخذ عدة أشكال؛ مثل الصراع والعداوة والإقصاء من جهة، والتسامح والإخاء والاعتراف
المتبادل من جهة أخرى. كما قد يكون هذا الغير قريبا مني أو بعيدا، سواء تعلق الأمر
بالقرب الجغرافي أو القرب السيكولوجي أو القرب الثقافي. ولهذا قد يكون هذا الغير
صديقا لي أو عدوا أو غريبا. ويمكننا في هذا الإطار أن نتساءل عن أسس العلاقة مع
الغير، ونبحث عن محدداتها وملابساتها.
وإذا انتقلنا إلى البعد
التاريخي للشخص في إطار وضعه البشري، تبين لنا أنه كائن تاريخي بامتياز، وأن له
وعي حاد بالزمن. فهو يعيش داخل وعيه الحاضر مجموعة من المعطيات والخبرات التي
تنتمي إلى الماضي، وتؤثث ذاكرته الفردية أو الجماعية. كما أن الشخص البشري يدرك
جيدا أن حياته تمضي نحو حتفه وموته.
وإذا كان البعد التاريخي
حاضرا بقوة لدى الإنسان، ويشكل جزءا أساسيا من ذاكرته وهويته، فإننا نجده يتطلع
دوما إلى محاولة معرفة هذا الماضي واستجلاء خباياه. لكن معرفة هذا الماضي التاريخي
هي، في جوانب كثيرة منها، معرفة بالغير. ولذلك فهي تطرح مشكلات معرفية شبيهة بتلك
التي تطرحها معرفة الغير. فهل يمكن أن ننفذ إلى نوايا الفاعلين التاريخيين أثناء
إنجازهم للأحداث التاريخية؟ وهل يمكن أن نعرف الغايات التي تسير نحوها تلك
الأحداث؟ ثم هل كان هؤلاء الفاعلين والأبطال التاريخيين يملكون كل الحرية في توجيه
الأحداث والوقائع التاريخية أم أن هناك عوامل خارج إرادتهم هي التي كانت توجههم،
ولو على نحو خفي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.