وضعيات مشكلة
من أجل طرح إشكال قيمة الشخص
بقلم: محمد الشبة
انطلقنا في بداية محور "قيمة
الشخص" من وضعيات مشكلة من أجل أن نستخلص التساؤلات المكونة لإشكال المحور،
وتتمثل هذه الوضعيات في حالات نعايشها في الواقع وهي؛ حالة الأحمق الذي يهيم في
الشوارع، وحالة الطفل الذي لا يتجاوز عمره سنتين، وحالة المرأة الذي تمارس الزنا،
وحالة المريض في حالة غيبوبة. كما وقفنا عند وضعية مشكلة أخرى مستمدة من الآية
القرآنية "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر..". وقمنا
باستثمار كل وضعية على حدة، واستخلصنا منها مجموعة من الأسئلة الإشكالية المتعلقة
بقيمة الشخص.
فبالنسبة لحالة الأحمق، تساءلت مع التلاميذ:
هل الأحمق الذي يهيم في الشوارع يمتلك قيمة الشخص؟ فكان جواب بعضهم بالنفي من
منطلق أنه لا ينفع المجتمع في شيء، وهذا ما جعلنا نستخلص أن قيمة الشخص قد تتحدد
انطلاقا من الوظائف والخدمات التي يقدمها للمجتمع وللآخرين. لكنني، ومن أجل تأزيم
الموقف، طرحت على تلامذتي التساؤل الآتي: هل يمكن أن نركب عل الأحمق أو نذبحه كما
نفعل مع الحيوانات؟ فكان جوابهم بالنفي لأن ذلك غير مقبول من الناحية القانونية
والاجتماعية والإنسانية، بل وقد يعرض صاحبه للعقاب والمتابعة القضائية. وقد قادنا
هذا إلى افتراض أن للأحمق قيمة ما هي التي تمنعنا أن نعامله معاملة الأشياء
والحيوانات، وهي قيمة يستمدها من كونه كائنا بشريا حتى ولو كان عقله مضطربا وغير
مشابه للعقل الأخلاقي الاجتماعي أو العقل المنطقي الحسابي مثلا، ذلك أن الأحمق لا
زال يفكر بطريقة ما وبالتالي فهو لم يفقد "العقل" نهائيا، وهذا ينسجم مع
قول لأحد الفلاسفة جاء فيه أن "الأحمق هو الذي فقد كل شيء إلا عقله".
وهكذا فقد انتهينا إلى أنه يمكن الحديث عن قيمة أصلية وأولية للشخص بمجرد أنه
إنسان، وبغض النظر عن أي حكم أخلاقي أو اجتماعي قد يصدره الآخرون عليه، ومن ناحية
أخرى فالشخص تكون له قيمة أيضا حينما يقوم بوظائف ويقدم منافع للآخرين وللمجتمع،
ويمكن أن نسميها بالقيمة الاجتماعية. وقد دفعنا هذا إلى أن نطرح تساؤلات من قبيل:
هل قيمة الشخص مطلقة أم نسبية؟ وللشخص قيمة في ذاته بغض النظر عن حكم الآخرين
عليه؟
أما بالنسبة لحالة الطفل الصغير، فقد تبين
لنا هو الآخر أن له حقوقا وأنه يلزمنا باحترامه والاهتمام به من منطلق أنه إنسان،
حتى ولو لم يكن يقدم خدمات للمجتمع، وحتى ولو لم يكن قد اكتسب العقل الأخلاقي أو
العقل الاجتماعي بعد. وهذا ما جعلنا نقر بأن الطفل الصغير والمولود حديثا ينطبق
عليهما وصف "الشخص" ويمتلكان قيمة ما غير مشابهة لقيمة الحيوانات مثلا.
وقيمتها لا تكمن في الجانب الجسدي البيولوجي بل في ما يقبع داخل جسدهما من معاني
إنسانية. وقد دفعنا هذا إلى التساؤل: ما هي هذه المعاني الإنسانية القابعة لدى
الطفل وتجعلنا نقدره ؟ وأين تكمن قيمة المولود أو الطفل الصغير بالضبط؟ وهل
يستحقان قيمة الشخص فعلا؟ كما قادنا هذا النقاش إلى إثارة مسألة الإجهاض، وتساءلنا
عن الأسباب التي تجعله محرما دينيا وقانونيا، لننتهي أن الجنين أيضا له قيمة،
وبالتالي فقد تساءلنا عن سر هذه القيمة، وهل يتمتع الجنين بقيمة الشخص؟ وهل يمكن
اعتباره شخصا على الأقل من الناحية الافتراضية؟؟
وفيما يخص حالة المرأة التي تمارس الزنا،
تساءلت مع التلاميذ: هل المرأة التي تمارس
الزنا تحتفظ بقيمة الشخص ؟؟ فكان جواب بعضهم بالنفي، مما دفعني إلى أن أوجه سؤالا
إلى التلاميذ: لماذا تفقد المرأة قيمتها حينما تمارس الزنا؟ فأجاب أحدهم: لأن
الزنا محرم في الدين الإسلامي. فقلت له: لكن هناك مجتمعات أخرى لا تدين بالإسلام.
فأجابني: ولكن كل الديانات تحرم الزنا. فقلت له: قد يكون هذا صحيحا، لكن هناك
مجتمعات علمانية كما أن هناك أفرادا ملحدون قد لا يعتبرون ممارسة الجنس مع الآخر
خارج إطار الزواج "زنا"، بل قد يعتبرونه حقا من حقوقهم الجنسية
والعاطفية. وبطبيعة الحال فقد رفض معظم التلميذ هذا الموقف الأخير من منطلق
قناعاتهم الدينية، لكن المهم هو أنه موقف أزم نوعا ما قناعاتهم وجعلنا نتساءل من
جديد: هل ممارسة الجنس بطريقة "غير شرعية" يفقد الإنسان قيمته كشخص؟؟
ومن أجل إعطاء بعض الجدية لمثل هذا التساؤل، قلت للتلاميذ: لنفترض أننا أمام طبيبة
أو مهندسة أو بطلة رياضية أو مغنية مشهورة أو ممثلة رائعة أو عالمة في الرياضيات
أو فيلسوفة، ومع ذلك تمارس الجنس مع رجل تحبه هو بمثابة "عشيق" لها، هل
ستصبح مثل هذه المرأة فاقدة لأية قيمة بمجرد ممارستها الجنس في الخفاء مع حبيبها؟؟
فانقسم التلاميذ إلى فريقين رئيسيين
أحدهما اعتبر أن المرأة بالرغم من ذلك تظل لا قيمة لها مادامت تمارس
"الزنا"، في حين اعتبر الفريق الآخر أن ممارستها للجنس لا يفقدها قيمة
الشخص مادامت تمتلك قدرات علمية وثقافية، أو تمتلك مواهب فنية أو كروية، أو تقدم
خدمات للمجتمع من خلال مهنة الطب أو الهندسة أو غير ذلك. وهكذا استنتجنا أن قيمة
الشخص تتأرجح بين عدة معايير ومحددات كالدين والأخلاق والموهبة والعلم وتقديم
خدمات إيجابية للمجتمع... مما جعلنا نتساءل من جديد: أين تكمن قيمة الشخص بالضبط؟ وهل
يمكن للحكم الأخلاقي الصادر عن الغير أن يكون محددا لقيمة الشخص؟ ألا يمكن للشخص
أن تكون له قيمة في ذاته بغض النظر عن حكم الغير عليه؟ ثم هل الأخلاق واحدة في كل
المجتمعات؟ ألا نجد أمورا "حرام" هنا و"حلال هناك؟ وإذا كان الأمر
كذلك، ألا يمكن القول بأن من يمتلك موهبة الرسم أو الموسيقى أن تكون له قيمة في
مجتمع يقدر الموهبة الفنية، ولا تكون له قيمة في مجتمع يحرم الرسم والموسيقى؟؟
أليست قيمة الشخص نسبية إذن؟؟
أما بالنسبة لوضعية المريض في حالة الغيبوبة
التامة أو شبه التامة (ما يسمى بالموت السريري مثلا)، فقد تساءلت مع التلاميذ: هل
يجوز للممرضة أو الطبيب أن يزيل الأنبوب الذي يمد هذا المريض بقوم الحياة؟ فكان
جوابهم جميعا بالنفي من منطلق أنه إنسان وله حق في الحياة؟ فتساءلت معهم: هل يمتلك
إذن المريض في حالة الغيبوبة قيمة الشخص؟ فكان جوابهم بالإيجاب مادام أنه كائن
بشري ويجب احترامه وعدم معاملته كما نعامل الأشياء والحيوانات. وقد قادنا هذا إلى
أن نستنتج أن هذا المريض بالرغم من أنه في هذه الحالة لا يستطيع أن يكون مفيدا
لمجتمعه، كما أنه لا يمتلك القدرة الأخلاقية للتمييز بين الخير والشر، كما أنه فقد
كل موهبة فنية أو تقنية أو كروية يمكن أن تمنحه قيمة الشخص.. ولكن مع ذلك لا يزال
يحتفظ بهذه القيمة. وقد دفعنا هذا للتساؤل من جديد: هل توجد قيمة يشترك فيها جميع
الناس بالرغم من وجود اختلافات كثيرة فيما بينهم أم أن قيمتهم كأشخاص تتحدد بحسب
هذه الفروق والاختلافات الموجودة بينهم؟؟ وهل قيمة الشخص مطلقة أم نسبية؟ وهل
للشخص قيمة في ذاته أم أنه يستمدها من نظرة المجتمع والغير إليه؟؟
أما بالنسبة للآية القرآنية "ولقد كرمنا
بني آدم وحملناهم في البر والبحر.."، فقد تبين لنا من خلال التأمل فيها أن
البشر جميعهم يمتلكون ما يسمى "بالكرامة" التي هي قيمة معنوية وروحية
تستمد من آدميتهم وإنسانيتهم، وهذا ما يجعلهم متساوون في الحقوق مثلا. لكن مع ذلك
فقد تساءلت مع التلاميذ: ألا يمكن للإنسان أن يفقد كرامته الإنسانية؟ ألا يوجد شخص
له كرامة أكثر من الآخر؟ فكان جوابهم بالإيجاب، مما دفعني إلى أن أسألهم: ما الذي
يجعل الإنسان يفقد كرامته؟ فأجاب أحدهم: حينما يبيع نفسه بالمال. فقلت له: إن
الكرامة إذن لا تقدر بثمن، ولذلك على الشخص أن يحافظ عليها، لن كيف يحافظ عليها؟؟
فأجاب أحد التلاميذ: بالتزامه بالواجبات الأخلاقية. فقلت للتلاميذ: إذن فالأخلاق
هي عنصر أساسي من العناصر المحددة لقيمة الشخص وكرامته، لكن لا ينبغي أن ينسينا
هذا أن الأخلاق في جانب من جوانبها تظل نسبية وقد تختلف من جماعة بشرية إلى أخرى،
كما لا ينبغي أن ينسينا هذا أن هناك كائنات بشرية لا تمتلك "عقلا
أخلاقيا" مثل المواليد والمصابين بعاهات عقلية.. ومع ذلك فهم يحتفظون بقيمتهم
وكرامتهم البشرية.
وهكذا ظل إشكال قيمة الشخص مفتوحا على
مصراعيه، وجعلنا نختصره في مجموعة من التساؤلات من أهمها ما يلي:
ما الذي يمنح للشخص قيمة؟ وما الذي يجعله جديرا
بالاحترام؟ هل توجد خاصية ثابتة لدى جميع الأشخاص هي التي تمنحهم نفس القيمة
المشتركة؟ وأين تكمن مثل هذه الخاصية؟ وإلى أي حد يمكن أن نربط قيمة الشخص بعلاقته
مع الغير؟ وهل يمكن أن نتحدث عن قيمة نسبية للشخص؟ وما هي محدداتها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.