مهارة الكشف عن الإشكال في النص الفلسفي
بقلم: محمد الشبة
لا يمكن
اكتشاف إشكال النص الفلسفي بمجرد قراءته من طرف التلاميذ؛ ذلك أن الأمر يتطلب اتباع مسار
محدد يبتدئ بالاشتغال على مفاهيمه وتحديد العلاقات بينها، وهذا الإشتغال سيمكننا
من استخراج الأفكار الأساسية في النص، وبعد ذلك يمكننا انطلاقا من تلك الافكار أن
نحدد أطروحة النص باعتبارها الفكرة المركزية التي تتمحور حولها كل الأفكار الجزئية
الأخرى. وإذا استخرجنا أطروحة النص وحددناها بدقة، فسيسهل علينا صياغة إشكاله من
خلال تساؤلات مترابطة تكون الأطروحة عبارة عن جواب عنها.
وسنحاول
أجرأة هذه المعطيات من خلال اشتغالنا على
نص لأفلاطون وارد في درس الفن من مقرر منار للسنة الأولى بكالوريا، مسلك
الآداب والعلوم الإنسانية طبعة 2007، ص 136:
·
النص:
« سقراط :إن محبي الأنغام والمناظر تستويهم
الأصوات العذبة والألوان البديعة والأشكال الجميلة وكل ما يتمثل فيه الجمال، ولكن
ليست لديهم القدرة الفكرية على تأمل الجميل في ذاته أو التمتع به.
غلوكون: هو كذلك حقا.
سقراط: أما أولائك الذين يتسنى لهم أن يرقوا إلى الجميل في ذاته، وأن
يتأملوا ماهيته، فهم نادرون حقا، أليس كذاك؟
غلوكون: إنهم نادرون بالتأكيد.
سقراط: فإذا كان هناك شخص يؤمن بوجود الأشياء الجميلة، دون أن يؤمن بوجود
الجمال في ذاته، ويعجز عن أن يتتبع من أراد أن يطلعه عليه، فهل تظن أن هذا الشخص
يحيا بحق؟ أليست حياته كلها حلما؟ فلنتأمل معنى الحلم، أليس هو خلط المرء، سواء في
يقظته أو في منامه، بين الشبيه المحاكي وبين الشيء الواقعي الذي يحاكيه هذا
الشبيه؟
غلوكون: في رأيي أنا على الأقل أن هذا هو الحلم.
سقراط: أما ذلك الذي يسلم بوجود الجمال في ذاته، ويتسنى له أن يتذوق هذا
الجمال في ماهيته، وكذلك الأشياء التي تشارك فيه، دون أن يخلط بين هذه الأشياء وبين
الجمال، وبين الجمال و بين هذه الأشياء، فهل تراه شخصا حالما أم يقظا؟
غلوكون: إنه يقظ بالتأكيد.
سقراط: وإذن فتفكير ذلك الرجل العارف يستحق أن يسمى معرفة، أما تفكير
الآخر، الذي يبني أحكامه على مظاهر، فليس
إلا ظنا.
غلوكون: بلا شك.»
أفلاطون:الجمهورية،ترجمة فؤاد زكرياء، دار
الوفاءـ الإسكندرية 2004. ص 359
·
تحليل النص:
الفقرة الأولى:
نجد فيها مفهومين رئيسيين:
-
الجمال في ذاته: وهو الجمال الحقيقي والمطلق، وهو يدرك
بواسطة التأمل الفكري الفلسفي.
-
الشيء الجميل: وهو الجمال الظاهري المتجسد في الأشياء
المحسوسة، والذي يدرك بواسطة الحواس.
فمعظم الناس
يحبون الأصوات والألوان والأشكال والأشياء الجميلة ويصدرون حولها حكما جماليا
حسيا،
لكنهم لا
يستطيعون إدراك الجمال في ذاته، لأن الأمر
يتطلب تأملا عقليا وفكريا لا يتأتى إلا للفلاسفة.
وقد استعمل
صاحب النص أسلوب التأكيد ( إن محبي الأنغام...) للتأكيد على أن الغالبية العظمى من
الناس تستمتع بالجمال الظاهري اعتمادا على الحواس (الأصوات،الألوان...)
ـ ونجد علاقة بين مفهومي الجمال في ذاته والشيء
الجميل: فالشيء الجميل هو نسخة ناقصة من الجمال في ذاته.. ولذلك فهذا الأخير
هو أسمى من الأول وأكثر منه تعبيرا عن الحقيقة، ويمكن التمييز بين حكم جمالي حسي
صادر عن الحواس، ويتعلق بالأشياء الجميلة أو الجمال الحسي، وحكم جمالي عقلي صادر
عن العقل، ويتعلق بالجمال المعقول أو الجمال في ذاته.
وهكذا يميز
أفلاطون بين عالمين: عالم المثل وعالم الحس؛ فالجمال في ذاته يوجد في عالم عقلي
مفارق هو عالم المثل الذي يدركه الفلاسفة بواسطة التأمل الفكري، أما الجمال
الظاهري فموطنه هو العالم المحسوس، وهو مجرد نسخة ناقصة عن الجمال المثالي والمطلق
الذي هو الجمال في ذاته.
وقد استعمل
صاحب النص أسلوب : النفي (لكن ليست لديهم...) بحيث ينفي أن تكون للعامة القدرة على
إدراك الجمال الحقيقي بواسطة التأمل الفكري.
الفقرة الثانية:
المفاهيم:
-
الشخص الذي يؤمن بوجود الجمال في ذاته: هو الفيلسوف الذي يدرك بفكره الجمال
الحقيقي.
-
الحلم: هو ذلك الوهم الذي يعيشه الناس في العالم
المحسوس، بحيث يخلطون بين ما هو حقيقي وماهو غير حقيقي.
-
الشبيه المحاكي: هو الجمال الظاهري الذي يقلد الجمال الحقيقي
ويتشبه به دون أن يدرك مرتبته.
-
الشيءالواقعي: هو الجمال العقلي الحقيقي الموجود في عالم
المثل.
-
تذوق
الجمال: هو إدراك الفيلسوف للجمال الحقيقي إدراكا عقليا وفكريا واستمتاعه به،
باعتباره جمالا يتميز عن الجمال الظاهري المتجسد في الأشياء المحسوسة.
وهكذا فعامة
الناس يدركون فقط الجمال الظاهري الحسي، أما أولائك الذين يبلغون الجمال في ذاته
فهم قلة، وهم الذين يمارسون التفكير الفلسفي، أو التأمل العقلي والفكري.
ويميز
أفلاطون بين المعرفة والظن، فالأولى تمثل العلم الحقيقي الذي يتيح لصاحبه معرفة
ماهية الأشياء وإدراك حقيقتها الأصيلة، أما الظن فهو حكم سطحي لا يدرك صاحبه إلا
مظاهر الأشياء دون أن ينفذ إلى باطنها.
ولتوضيح ذلك
اعتمد صاحب النص أسلوب التأكيد: حيث يؤكد على أن الذين يدركون الجمال الحقيقي هم
قلة فقط، وهم طبعا الفلاسفة، والتأكيد أيضا على أن أولائك الذين يدركون فقط
الأشياء الجميلة هم يعيشون الحلم بدل الحقيقة، والحلم هنا هو ذلك الخلط بين
الحقيقي والشبيه به، بين الجمال في ذاته والجمال الظاهري .
الفقرة الثالثة:
نجد فيها
المفاهيم الأساسية التالية:
-
اليقظة: وهي رمز لوعي الفيلسوف وانتباهه العقلي، بحيث لا يخلط
بين الجمال قي ذاته والأشياء الجميلة، بين الجمال الحقيقي والجمال المزيف.
-
المعرفة: وهي العلم الحقيقي الذي يمكن من معرفة
الجمال في ذاته.
-
الظن: وهو العلم المزيف الذي ترتكز أحكامه على ما
هو ظاهري وغير حقيقي.
وهكذا يمكن
التمييز مع أفلاطون بين نوعين من الحكم؛ حكم عقلي يتعلق بالجمال الحقيقي أو الجمال
في ذاته، وحكم حسي يقف عند مستوى الجمال الظاهري المتجسد في الأشياء المحسوسة.
وقد استنتج
صاحب النص في الأخير أن الإنسان الذي يدرك فقط الجمال الظاهري ويؤسس أحكامه على
المظاهر هو شخص يمتلك الظن فقط، في حين أن من يمتلك المعرفة الحقة هو ذلك الشخص
العارف الذي يدرك الجمال في ذاته.
من هنا يمكن
أن نصوغ أطروحة النص على الشكل التالي:
يميز أفلاطون
بين الجمال في ذاته والشيء الجميل، فالأول يمثل الجمال الحقيقي الذي يدرك عن طريق
التأمل الفكري، بينما الثاني يمثل الجمال الظاهري الذي يدرك بالحواس. من هنا
فالحكم العقلي، وليس الحكم الحسي، هو من يمكننا من معرفة الجمال الحقيقي.
وحينما سنحدد
أطروحة النص، على نحو استقرائي ومن خلال الاشتغال على جزئيات النص من مفاهيم
وأساليب حجاجية، سيهل علينا أن نستنبط انطلاقا منها الإشكال الكامن في النص، والذي
هو عبارة عن تساؤلات تجيب عنها الأطروحة. ويمكن صياغة الإشكال كما يلي:
ما الفرق بين الجمال في ذاته والشيء الجميل؟ وما
الذي يتيح لنا التمييز بينهما؟ وكيف يمكن معرفة الجمال الحقيقي وإصدار حكم بصدد ما
هو جميل؟
من هنا يتبين
كيف أن مهارة استخراج الإشكال من النص الفلسفي، تتطلب عملا استقرائيا يتمثل في
الاشتغال على جزئياته من مفاهيم وحجج وأفكار، مما سيؤدي إلى القبض على أطروحته
التي ستجعلنا نستخرج الإشكال منها على نحو تلقائي وبدون صعوبة كبيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.