ملاحظة:
يصعب على
التلاميذ، في الغالب، قراءة الكتب الفلسفية والأكاديمية، ولذلك فهم في حاجة إلى
نوع من الكتابة الفلسفية المبسطة التي تشجعهم على القراءة الفلسفية، من أجل اكتساب
مجموعة من القدرات التي لا غنى عنها في الكتابة الإنشائية الفلسفية المطالبين بها
في الفروض والامتحان الوطني.
ولذلك، فحن
نسعى في هذا القسم إلى إعطاء المتعلم نماذج من مقالات مبسطة تتضمن بعض المواصفات
اللغوية والمنهجية والمعرفية التي يمكنه أن يتمثلها ويستبطنها من خلال قراءته لها،
ويكون بإمكانه بعد ذلك أن يوظفها في كتاباته الفلسفية. فقد بينت التجربة أن المتعلمين
الذين يواظبون على المطالعة هم الذين يتفوقون في الكتابة الإنشائية الفلسفية، لأن
منهجية الكتابة الفلسفية لا نتعلمها بين عشية وضحاها، أو من خلال حصص دراسية
معدودة نخصصها لهذا الغرض، بل إن المطالعة وقراءة أعمال ومقالات لكتاب آخرين تساعد
التلاميذ أيضا، وبشكل كبير، على اكتساب أفكار ومهارات منهجية ستجعلهم يكتبون
إنشاءات فلسفية بمواصفات جيدة.
هوية الشخص
بحث عن الثابت وراء التغيرات التي
تطال الشخص
بقلم: محمد الشبة
"تحلل
إصرار الذاكرة" لوحة لسلفادور دالي (1904-1989)
إذا تأملنا في حياة الواحد منا، فإننا نجدها
حياة تعتريها الكثير من التغيرات والتقلبات التي تطرأ على جوانب عديدة من الكائن
البشري الذي ندعوه شخصا؛ أي ذاتا مفكرة وواعية من جهة، وذاتا حرة ومسؤولة قانونيا
وأخلاقيا من جهة أخرى. فمن مرحلة عمرية إلى أخرى تتغير الملامح الجسدية للشخص، كما
تتغير أفكاره وأحواله النفسية بشكل دائم، وخلال لحظات زمنية قد تتعلق أحيانا بنفس
اليوم أو الساعة من الزمن. كما يطرأ التغير أيضا على مستواه الاجتماعي وسلوكاته
الأخلاقية. فكم من إنسان كان فقيرا وأصبح غنيا، أو كان غنيا وأصبح فقيرا، وكم من
آخر كان مجرما وشريرا وأصبح بعد ذلك تقيا وخيرا. وقل نفس الشيء على التحولات التي
تطرأ على الأشخاص على مستويات متعددة جسدية وفكرية ونفسية. لكن ما يلاحظ هو أنه
بالرغم من كل هذه التغيرات التي تطرأ على الشخص، فإنه يظل يشير إلى نفسه على أنه
نفس الشخص، وكأن التغيرات التي حدثت له لم تجعله يصبحا شخصا آخرا، مما قد يعني أن
هناك عنصرا يظل ثابتا لديه هو الذي يجعله يحس أنه نفس الشخص بالرغم مما يطرأ عليه
من تحولات وتغيرات مختلفة. وهذا الذي يظل ثابتا لدى الشخص ويعطيه إحساسا بأنه
هوهو، هو ما ينعت عادة بهويته. مما يجعل هوية الشخص تشير إلى ما هو ثابت لديه،
بالرغم من التغيرات التي تحدث له في أمكنة وأزمنة مختلفة. وقد اعتبر البعض أن هوية الشخص هي الخاصية أو الخصائص التي تجعل الشخص مطابقا لذاته ومماثلا لها
من جهة، ومتميزا عن غيره من جهة أخرى. ومن هنا تبدو الهوية مبدأ وحدة واختلاف في الآن
نفسه. وإذا كان الشخص يظل يحس بهويته ويعيها، ويشير إلى ذاته على أنه نفس الشخص،
فما الذي يبقى ثابتا لديه ويسمح له بذلك؟ أي ما هو العنصر الذي يظل ثابتا لدى
الشخص ويمنحه إحساسا بهويته؟ وما الذي يحدد هوية الشخص؟ وعلى ماذا ترتكز؟ وما الذي
يجعل الشخص يشعر أنه هو هو بالرغم من التغيرات التي تطرأ على عدة جوانب منه؟
يبدو أننا نلاحظ، من خلال التأمل في حياة كل فرد منا، أنه بالرغم مما يحدث لنا من تقلبات نفسية أو تغيرات
فكرية وجسدية، فإننا مع ذلك نظل نفكر بكيفية أو بأخرى؛ أي أن ما يظل ثابتا لدينا
هو عنصر التفكير، مما جعل فيلسوفا كديكارت يعتبر التفكيرا أساسا لهوية الشخص. فقد شك في كل شيء لكنه مع ذلك لم يستطع أن يشك في أنه يشك، وما دام الشك نوعا
من التفكير فقد انتهى أنه يفكر. ومن هنا فقد تساءل قائلا: أي شيء أنا؟ وأجاب: أنا
شيء مفكر. وهذا ما يجعل هوية الشخص عند أبي الفلسفة الحديثة تتحدد على مستوى
الفكر؛ فالشخص هو ذات مفكرة وواعية. ويتجلى هذا الوعي في القدرة على الشك والفهم
والتصور والنفي والإثبات والتخيل والإحساس…الخ. وتعتبر هذه الأفعال خصائصا مكونة
لهوية الشخص بحيث لا يمكن تصوره بدونها، فهي إذن ثابتة لدى الكائن البشري وتميزه
عن باقي الكائنات.
وإذا كانت أفعال الأنا
هاته مختلفة ومتنوعة، فإنها مع ذلك تصدر عن نفس الجوهر المفكر، والذي يبقى في هوية
وتطابق مع نفسه في كل الظروف والأحوال، وبذلك فهو يمثل هوية الشخص وجوهره وما هو
ثابت فيه.
روني
ديكارت (1596-1650م)
«أي شيء أنا
إذن؟ أنا شيء مفكر.» (1)
وقد استبعد ديكارت
الخصائص المرتبطة بالجسم باعتبارها خصائصا عرضية وليست من طبيعة نفسه، واعتبر أنه
يمكن أن يوجد حتى ولو افترضنا أنه لا بدن له. فالأنا على وجه التدقيق ذهن أو روح
أو فكر أو عقل. فالفكر هو أساس هوية الشخص ووجوده؛ فأنا أفكر إذن أنا موجود، أنا
موجود ما دمت أفكر، وإذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود.
ويبدو فعلا أنه من الصعب
تصور هوية للشخص بدون أن يكون قادرا على ممارسة التفكير العقلي، بالرغم من أن
الأشخاص يستخدمون عقولهم بطرق مختلفة، ويفكرون بكيفيات متعددة.
ولعل هذا ما سيجعل الفيلسوف جون لوك يعتبر أن
الشخص كائن واعي ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس
فيها التفكير والتعقل. من هنا فهوية الشخص عنده لا تخرج عن إطار الفكر كما هو
الحال عند ديكارت، إلا أنه يختلف عن هذا الأخير في أنه لا يمكن تصور أفكار فطرية
بمعزل عن الحواس؛ ذلك أن العقل صفحة بيضاء والحواس هي التي تمده بالمعارف
والأفكار. وهذا ما جعله يربط بين الفكر والإحساس من جهة، كما ربط من جهة أخرى بين
الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الوعي في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص
وتقوت. وهذا يعني أن الوعي والذاكرة هما
مكونان أساسيان لهوية الشخص.
لكن قد يتعرض صديق لنا لحادثة سير وهو عائد
إلى المنزل مثلا، وقد تثبت الفحوصات الطبية أنه فقد ذاكرته، بحيث لم يعد يتذكر
أحداث الماضي ولم يعد يدري من هو. وهذا ما قد يدفعنا إلى التساؤل عن هويته بالنسبة
لذاته، وعن دور الذاكرة في جعل صديقنا هذا يحس بهويته وثباتها. فهل يمكن اعتبار الذاكرة هي ذلك العنصر الثابت
المحدد لهوية الشخص؟ وهل يمكن لهذا الأخير أن يمتلك إحساسا بهويته بدون امتلاكه
القدرة على تذكر أحداث الماضي؟
إذا ولينا وجهنا شطر الحيوانات، فإننا نجد أن
بعضها على الأقل يمتلك ذاكرة بمواصفات محددة، بحيث أن الكلب مثلا يتذكر الألم الذي
سببته له العصا سابقا حينما نرفعها في وجهه الآن. غيرأن هذا التذكر الموجود لدى
الكلب هو تذكر حسي، يرتكز على حاسة البصر التي يرى من خلالها العصى، فيتذكر الألم
الذي سببته له في لحظات ماضية. ومن هنا يمكن القول بأن ذاكرة الحيوان حسية ومشروطة
بمنبهات حسية، مما يجعلها ذاكرة بسيطة ومحدودة. ولعل أهم ما تفتقر إليه ذاكرة
الحيوان هو عنصر الوعي المميز للذاكرة الموجودة لدى الإنسان ككائن عاقل ومفكر وواع.
فالشخص البشري يستطيع أن يستحضر في وعيه أحداث الماضي المختلفة والمتنوعة، دونما
حاجة إلى الحواس أو المنبهات الحسية الخارجية، بل إنه يستحضرها في وعيه فقط.
استبدال ذاكرة بأخرى يجعلنا أمام هوية شخصية
جديدة!؟
ومن
هنا يمكن القول إن الذاكرة هي استحضار لوقائع الماضي عن طريق الذهن. وهذا ما يجعل
الذاكرة وعيا؛ أي أنها وعي ممتد في الماضي، بموجبه تصبح الأحداث السابقة حاضرة في
الحاضر داخل الذهن والوعي البشري.
وإذا كانت ذاكرة الشخص تختزن معلومات وذكريات
وإدراكات ماضية يتم الاحتفاظ بها داخل الوعي، فربما هذا ما يجعل البعض يرى أن
الذاكرة هي ما يحدد هوية الشخص، أي أنها من يجعله يحس أنه هوهو رغم مرور السنين،
ورغم ما يقع له من تغيرات على مستويات متعددة. فالذاكرة هي من يجعل الواحد منا
ينظر إلى نفسه على أنه نفس الشخص في فترات زمنية مختلفة. وهذا ما يفترض وجود ترابط
بين الذكريات المختلفة المؤثثة لسلسلة الحالات الفكرية والنفسية السابقة، بحيث
تتولد كل حالة نفسية أو فكرية عن الحالة السابقة وترتبط بها، ويتم هذا الترابط
داخل الوعي الممتد في الماضي، والذي هو وعي تذكري يختزن أحداث الماضي ويربطها
بالحاضر. ومن هنا تصبح الذاكرة، بموجب هذا التصور، هي ما يحدد هوية الشخص، وما
يربط ماضيه بحاضره.
وفي هذا السياق نجد جون لوك يؤكد على أن
الوعي المصاحب دوما لأفعال الشخص وإدراكاته المختلفة، في أمكنة وأزمنة متعددة، هو
ما يمنحه إحساسا بهويته. فوعيي المستمر بذاتي هو من يجعلني أحس أنني من يكتب الآن،
هو نفس الشخص الذي كان بالمنزل يتناول وجبة الفطور قبل ساعات. وإذا افترضت أنه قد
حصل انقطاع بين اللحظة الحاضرة واللحظات الماضية، بحيث لم أعد أتذكر ما عشته
سابقا، فإنه يمكن القول أنني لم أعد أعرف ذاتي، أو أن هذه الذات قد تبخرت وتبخر
معها إحساسي بهويتي.
جون لوك (1632- 1704)
« بما أن الوعي يرافق الفكر
باستمرار..فإن هذا هو ما يجسد الهوية الشخصية.» (2)
وإذا كانت هوية الشخص ترتبط بفكره ووعيه
وذاكرته، وإذا كان هذا الفكر يترجم من خلال عدة أفعال عقلية مختلفة في الزمان
والمكان، فإن الإشكال الذي يطرح هنا هو: هل هذه الأفعال التفكيرية وهذه الإدراكات
العقلية تصدر عن نفس الجوهر المفكر؟ أي هل يود بداخلنا أنا مفكر هو عبارة عن جوهر
ثابت ومستقل، تصدر عنه كل تلك الأفعال المختلفة، بحيث هو الذي يمنحها الوحدة
والترابط، أم أنه لا وجود لمثل هذا الأنا المستقل، وأن ما يوجد فقط هو مجموعة من
الإدراكات المتنوعة، والتي قد توهمنا بأننا نمتلك مثل هذا الأنا المفكر؟
يعتقد ديكارت، شأنه شأن
معظم العقلانيين المثاليين كأفلاطون، بأن هناك جوهرا ثابتا لدى الشخص هو الأنا أو
النفس خاصيته التفكير الذي يظل ثابتا لدى الشخص، وبالتالي يشكل أساس هويته. وإذا
كانت تصدر عن الأنا المفكر أفعال مختلفة كالشك والتصور والتخيل والإثبات … فإن هذا
التنوع الحاصل فيها لا يمنع من أنها تصدر عن جوهر واحد هو النفس الواعية أو الأنا
المفكر.
كما أن فيلسوفا كابن
سينا مثلا يعتقد بوجود جوهر ثابت لدى الإنسان هو النفس، بينما يكون الجسد عرضة
للتغيير، كما نجد أفلاطون و سقراط يعتقدان بجوهرانية الروح وأفضليتها على الجسد،
وكيف أنها تبقى خالدة حتى بعد موت البدن وفنائه.
وإذا كان جون لوك يؤسس هوية الشخص على الوعي
الذي يظل مصاحبا لأفعال الإنسان دائما، بل ويمتد حتى في الذاكرة، وهو الأمر الذي
يعطي للشخص انطباعا بأن له أنا، وبأنه هو الذي يصبغ على أفعاله طابع الوحدة
والاستمرارية، فإن النزعة التجريبية لجون لوك لا تسمح له بأن يعتقد بجوهر واحد و
ثابت، كأساس لهوية الشخص كما اعتقد ديكارت. وإذا كان لوك قد اعتبر
بأن الوعي يرافق دوما فكرنا، مما يجعل الوعي مكونا أساسيا من مكونات الهوية الشخصية،
ويجعل كل واحد منا يطلق على نفسه اسم الأنا ويظل مطابقا لذاته باستمرار، فإنه يبدو
أنه لم يحسم بشكل نهائي في ما إذا كانت الأفعال الصادرة عن الوعي ترتبط بجوهر واحد
أم بعدة جواهر. وهذا واضح في قوله: «إننا لا نعتبر، في هذه الحالة، ما إذا كانت
الذات نفسها ترتبط باستمرار بالجوهر نفسه أو بمختلف الجواهر.» (3)
وسيأتي التجريبي دفيد
هيوم ليختلف صراحة مع ديكارت حول هذه النقطة؛ فاعتبر خلافا لهذا الأخير بأنه لا
وجود لجوهر واحد اسمه النفس هو الذي يكون هوية الشخص وتصدر عنه أفعال الوعي
المختلفة، بل إن الوعي يتجزأ إلى مختلف العمليات التي تصدر عن إدراكاتنا الحسية،
والتي تتعاقب في الزمان والمكان بكيفية مكثفة ومسترسلة لا تعرف التوقف بحيث تمنحنا
انطباعا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا اسمه النفس أو الأنا، في حين أن الأمر لا يعدو
أن يكون مجموعة متعددة ومتغيرة من الإحساسات الظاهرية أو الباطنية، والتي تكون
هويتنا ووعينا، وبتوقف تلك الإدراكات الحسية في النوم أو الموت مثلا، فإنه يتوقف
معها الوعي نهائيا ولا نستطيع في هذه الحالة الحديث عن النفس أو الأنا المفكر
كجوهر ثابت ومكون لهوية الشخص كما زعم ديكارت.
ومن هنا لا يعتقد دفيد
هيوم بجوهرانية النفس؛ حيث يرى أن كل ما هنالك هو أنه تصدر عن الإنسان مجموعة من
الإدراكات الحسية، سواء الظاهرة أو الخفية، وهي تصدر عنه بشكل متتابع ومتتالي في
الزمان والمكان بحيث تمنحنا تصورا وهميا بأن لنا جوهرا ثابتا وقائما بذاته هو
النفس أو الأنا، في حين أن واقع الحال يؤكد أنه لا يوجد أي انطباع حسي يقابل فكرة
النفس، وبالتالي فهي فكرة من تأليف الذهن ولا يوجد أساس تجريبي لها على أرض
الواقع. ونحن نعلم أن العمدة في المذهب التجريبي؛ هو أنه إذا شاءت الفكرة أن تكون
صحيحة لزم أن يكون لها مصدر أصلي في الحواس، وأن تكون نابعة من التجربة. فكل أشكال
الوعي ترتبط عند هيوم بالإدراكات الحسية؛ بحيث يتوقف الوعي بتوقف هذه الأخيرة،
مثلما هو الحال أثناء الموت مثلا. ولذلك لا نجد الفلاسفة التجريبين، لاسيما
المتطرفين منهم، يؤمنون بخلود النفس وبقائها بعد فناء الجسد.
دفيد هيوم
(1711- 1776م)
«عندما أتوغل في أعماق ما أسميه (أنا) أصطدم دائما بهذا
الإدراك الخاص أو ذاك.. فلا يمكنني ان أعقل نفسي (أنا) في أية لحظة من دون عملية
إدراكية ما، ولا يمكنني أن ألاحظ إلا الإدراك.» (4)
وعلى العموم يجعل دفيد
هيوم، كما هو الشأن بالنسبة لمواطنه جون لوك، الإدراكات الحسية أساسا لكل الأفكار
التي يحملها وعينا وذاكرتنا، والتي يمكن أن تشكل ما يمكن أن نسميه بهويتنا
الشخصية.
وبالرجوع إلى عنصر
الذاكرة، فقد يلاحظ البعض أنها تتعرض للتلف وأن بعض الأشخاص يفقدونها، إما بسب
المرض أو الشيخوخة أو غير ذلك، مما قد يجعل فيلسوفا كشوبنهاور يحاول البحث عن عنصر
آخر محدد لهوية الشخص، ولا يمكن لهذا الأخير أن يفقده حتى ولو فقد عقله أو وعيه أو
ذاكرته. وقد وجد شوبنهاور هذا العنصر في الإرادة، والتي هي إرادة الحياة التي تظل
ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.
(1788-
1860م)
« يستطيع
تقدم السن أو المرض، أو إصابة في المخ أو حمق أن يحرمنا كلية من الذاكرة، ومع ذلك
فإن هوية الشخص لا يفقدها هذا الاختفاء المستمر للتذكر. إنها تتوقف على الإرادة
التي تظل في هوية مع نفسها، وعلى الطبع الثابت الذي تمثله.» (5)
وقد تساءل شوبنهاور:
«على ماذا تتوقف هوية الشخص؟»، وأجاب: «ليس على مادة جسمه، فإن هذه تتجدد في بضعة
أعوام، وليس على صورة هذا الجسم، لأنه يتغير في مجموعه وفي أجزائه المختلفة، اللهم
إلا في تعبير النظرة، ذلك أنه بفضل النظرة نستطيع أن نعرف شخصا ولو مرت سنوات
عديدة.»(6) ومن هنا، فقد استبعد
شوبنهاور الجسد واعتبره غير محدد لهوية الشخص، نظرا لأنه يتعرض إلى مجموعة من
التغيرات سواء على مستوى مادته وصورته. وإذا كان الجسد لا يحدد هوية الشخص عند
شوبنهاور، فيبدو أنه قد استثنى من ذلك نظرات العيون، والتي قد تميز شخصا عن آخر
وتجعلنا نتعرف عليه بعد أن يغيب عنا سنين عديدة. وهذا قد يعني أن لكل واحد منا
نظرات عيون ذات خصائص معينة، تظل ثابتة لديه مع مرور الزمن، مما يسمح بالقول إنها
قد تمثل هويته التي نتعرف عليه من خلالها. لكن مع ذلك، وحتى ولو صح أن نظرات
العيون تظل ثابتة لدى الشخص، فإنها قد لا تمثل سوى ما يمكن تسميته بالهوية
البيولوجية التي تنحصر في إطار ما هو عضوي وجسدي، شأنها في ذلك شأن بصمات أصابع
اليد. ولذلك سيسعى شوبنهاور إلى البحث عن ذلك العنصر الذي يجعلنا نشعر، حتى حينما
نشيخ ونهرم، أننا لا زلنا كما كنا في شبابنا. وقد وجد أنه بالرغم من التحولات التي
يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده
الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث
الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض، بل يتمثل في
الإرادة التي هي أساس هوية الشخص ونواة وجوده بحيث تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها،
وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.
ومن هنا، فقد يتغير
وعينا ويتجدد فكرنا، كما قد نفقد القدرة على التذكر، لكن ما لا يزول بداخلنا هي
هذه الذات التي تمثل جوهر وجودنا، وهي ذاتنا الحقيقية «التي لا تعرف في قراراتها
غير شيئين: أن تريد أو لا تريد.»(7)
وهكذا يتبين في الأخير
أنه قد تمت مقاربة هوية الشخص من زوايا متعددة، من أهمها الزاويتين العقلية
والغريزية، مما جعل الفلاسفة يحددون هوية الشخص في عناصر متعددة من أهمها الفكر
والوعي والذاكرة. ولعل هذا التعدد يدل على غنى مفهوم الشخص ككائن له أبعاد متعددة
ومتداخلة، بحيث يصعب أن نضع بينها حواجز نهائية، بل لا بد من أخذ التمفصلات
الحاصلة بينها بعين الاعتبار، من أجل فهم متكامل لمفهوم الشخص ولهويته البشرية.
هوامش:
1- روني ديكارت: التأملات، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنكلومصرية،
الطبعة الثانية، 1974، ص: 101. ,
1972, pp. 264-265.
2- جون لوك: مقالة في الفهم البشري. عن "منار الفلسفة" للسنة الثانية
بكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص 13.
3- نفس المصدر السابق.
4- دفيد هيوم، منقول من "المختار من
النصوص"، اختيار وتعريب محمود يعقوبي، مكتبة الشركة الجزائرية، 1972، ص
65-66.
5- أرثور شوبنهاور: العالم بوصفه إرادة
وتمثلا. عن "في رحاب الفسفة"
للسنة الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص
16.
6- نفسه.
7- نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.