الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

التفكير الذاتي للتلميذ بين الدرس والإنشاء


التفكير الذاتي للتلميذ
 بين الدرس والإنشاء

بقلم: محمد الشبة
                
     
     

إن الاشتغال بالوضعيات المشكلة وبتحليل النصوص والوسائل السمعية البصرية، وغيرها من الحوامل الديداكتيكية والوسائل البيداغوجية الضرورية لبناء صرح الدرس الفلسفي، هو اشتغال يؤكد على أن منطلق حضور التفكير الذاتي أثناء الإنشاء الفلسفي هو الدرس الفلسفي نفسه؛ ولذلك لن يكون من الممكن جعل هذا التفكير الذاتي يحضر في الإنشاء ما لم يتجسد من قبل في الدرس.
من هنا يتعين، أثناء عملية تحليل النص داخل الحجرة الدراسية، التركيز على تعليم المهارات أكثر من المعارف والمعلومات، كما يتعين التعامل مع النصوص بشكل وظيفي ، أي في إطار معالجة إشكال ما من إشكالات الدرس.
كما أن على تحليل النص أن يستهدف بالدرجة الأولى إكساب المتعلم مهارات وقدرات الأشكلة والمفهمة والحجاج، من أجل أن يوظفها التلميذ في الإنشاء الفلسفي وفي التعامل مع نصوص أخرى ومع قضايا تعترضه في الحياة ( ربط الفلسفة بالحياة ). فلا يكون المضمون المعرفي هنا هو المستهدف بالدرجة الأولى، بالرغم من أهميته، بل اكتساب مهارات التفكير والتمرن على مجموعة من الآليات والقدرات التفكيرية والعقلية.  وهذا ينسجم مع القول البيداغوجي المتداول: " قليل من المعرفة وكثير من المهارات ".
كما يستهدف تحليل النصوص خلق تفاعل وحوار بين المعلم والمتعلمين من جهة، وبين المتعلمين فيما بينهم من جهة أخرى. مما يشجع التلاميذ على إبداء الرأي واكتساب جرأة في طرح الأفكار، وهو الأمر الذي من شأنه أن يقوي ملكة التفكير الذاتي لديهم؛ هذه الملكة التي ينتظر أن يترجمها المتعلم من خلال قدرته على التساؤل والدهشة والنقد وبناء المفاهيم بالدقة اللازمة، واكتساب القدرة على المحاجة والدفاع عن أفكاره ...الخ.



من هنا فتحليل النص لا يخرج عن الهدف المتمثل في تعلم مبادئ ومرتكزات التفكير الفلسفي، وفي مقدمتها القدرة على الأشكلة والمفهمة والمحاجة. وإذا تمكن المتعلم من اكتساب مهارة المحاججة على أفكاره، فإنه ولا شك سيترجمها على مستوى كتابته الإنشائية، مما سيمثل مؤشرا حقيقيا على ممارسته للتفكير الذاتي.
وإذا كان الهدف الرئيسي الذي يرومه الدرس الفلسفي هو تعلم آليات التفكير وأساليبه وتقنياته، وأيضا التمرن على تحليل الخطاب والمنافحة عن الأفكار والمحاججة عليها، فإن ذلك لن يتم  عن طريق درس إلقائي إخباري، بل عن طريق درس تفاعلي يراهن على المتعلم كشريك في بناء لبنات الدرس الفلسفي، ويتخذ له كشعار: " تعلم التفكير قبل تعلم الأفكار ".
من هنا فأريج التفلسف لن ينبعث في الحجرة الدراسية إلا من خلال التفكير الذاتي للمعلم والمتعلمين على السواء، في مختلف القضايا التي فكر فيها الفلاسفة ولكنهم جعلوا إمكانيات التفكير فيها لازالت قائمة ومفتوحة أمام القراء بعد ذلك. وفي هذا السياق يصبح المدرس والمتعلمون قراء ومؤولين للنصوص الفلسفية؛ يغوصون في ثناياها، يستنطقونها، يكشفون عن منطق التفكير فيها، ينتقدونها ويبينون حدودها، ويفكرون فيها من جديد انطلاقا من بيئتهم الثقافية وهموم عصرهم.
انطلاقا من هنا، فالتفكير الذاتي للمتعلمين يرتسم منذ اللحظة التي يتم فيها طرح الإشكال في بداية محور الدرس؛ حيث يكون عليهم الإجابة عنه بشكل شخصي، باعتباره مطروحا عليهم قبل أن يطرح على الفلاسفة. ومثل هذا التفكير الذاتي الأولي في الإشكال الفلسفي المطروح، هو الذي يتيح الفرصة لربط الإشكالات الفلسفية بحياة المتعلمين وجعلهم ينخرطون فيها بشكل عميق وكلي، وبنوع من التلقائية التي تجعل تفكير جماعة الفصل في المشكل الفلسفي هو الممر الذي يتم من خلاله لاحقا الانتقال إلى الأطروحات الفلسفية. ويكون تقديم هذه الأخيرة مناسبة لتعزيز التفكير الذاتي وتدعيمه، وليست أداة لإقصائه والتعتيم عليه. فنحن حينما نعالج إشكالات من قبيل هوية الشخص أو قيمته أو حريته، أو نتدارس معرفة الغير أو العلاقة معه، أو ننظر في قضية معرفية أو أخلاقية أو سياسية، فإنما نفعل ذلك باعتبارها تلتصق بوجودنا الشخصي وتلامس واقعنا المعيشي، قبل أن تكون مطروحة على الفلاسفة ومدار نقاش بينهم. ومن شأن مثل هذا الاقتحام الذاتي لعالم التفلسف، أن يورط المتعلمين في المشاكل الفلسفية ويقنعهم بجدواها، ويربط جسورا من التلاقي بينهم وبين الفلاسفة ليفكرون معهم، وفي آن واحد، في نفس الهموم والقضايا.
وهذا الضرب من التعامل مع إشكالات الدرس، من شأنه أن يلقي بتأثيراته على الكيفية التي سيعالج بها التلميذ الإشكال المطروح عليه في الإنشاء الفلسفي؛ إذ سيتعود على مناقشته من منطلق شخصي أولا، قبل أن يستثمر المواقف الفلسفية في رسم المسار الذاتي للمناقشة والوصول به إلى حدوده القصوى.
وقد علمتنا تجربة الفصل الدراسي، أن المتعلم غالبا ما يتوهم اكتساب منهجية الكتابة الإنشائية الفلسفية، والتي يلعب التفكير الشخصي دورا رئيسيا فيها، انطلاقا من حصة زمنية دراسية تقدم له فيها الخطوات الرئيسية لهذه المنهجية، فيتلقفها فرحا ويمضي مطمئنا ومعتقدا أنه أصبح مؤهلا لخوض مباراة الوضعية الاختبارية وهو مسلح بلياقة عقلية قوية وقدرات منهجية كافية، إلا أنه ما يلبث المسكين أن يفاجأ بأن رهان تطبيق المنهجية هو أكبر من مجرد حفظ عناصرها واستظهار بنودها وقواعدها، ولو على ظهر قلب، بل إنه رهان يتوقف على الرصيد العملي والكم التطبيقي المتعلق بالممارسة والاشتغال الفعلي على مواضيع متعددة ومتنوعة وطيلة مشوار السنة الدراسية، هذا فضلا عن القدرات اللغوية والإمكانيات المعرفية المتوفرة عند المتعلم سابقا.
وإذا كان اكتساب آليات الكتابة الفلسفية يتطلب الممارسة الفعلية والدائمة لمثل هذه الآليات، فإن المدرس مطالب بأن يجعل من فضاء الفصل الدراسي مجالا حقيقيا للقيام بمثل هذه الممارسة. وإذا كنا نؤكد على الأطروحة القائلة بحضور التفكير الذاتي في كل أجزاء الإنشاء الفلسفي وليس في خاتمته فقط، فإننا نؤكد بالمثل أنه يلزم أن يحضر هذا التفكير، وبكل مقوماته العقلية والمنهجية، في كل أجزاء الدرس وعناصره.
وإذا تبين أن تحليل النص الفلسفي، أثناء إنجاز الدرس، يمكن من إتاحة الفرصة للمتعلمين وللمعلم على حد سواء من أجل ممارسة التفكير الذاتي، فإن هناك جوانب أخرى في هذا الدرس تسمح بإتاحة مثل هذه الفرصة، ومن أهمها حضور الأمثلة في هذا الدرس، لما تتيحه من إمكانية استحضار حياة المتعلمين أثناء معالجة قضايا وإشكالات التفكير الفلسفي، و الحضور اللافت للوضعيات المشكلة في مختلف مراحل هذا الدرس بما تلعبه من دور يتجلى في جعل المتعلم يدرك أن الإشكالات الفلسفية هي إشكالات تهمه شخصيا، وأنه مطالب بأن يفكر فيها ذاتيا.
هكذا تجعل الأمثلة المقدمة للتلاميذ، والمقدمة من طرفهم، من الدرس الفلسفي درسا مفعما بالحياة، كما تؤهله لكي يغدو أغورا لإبداء الرأي والاعتراض على الأفكار والمنافحة عليها بكل جرأة وشجاعة. وكل هذه ولا شك، أشكال ومظاهر جلية على ممارسة التفكير الذاتي وحضوره القوي في الدرس الفلسفي، مما سيجعل من ذلك خطوة هامة لاستحضاره وإنجازه لاحقا أثناء الكتابة الإنشائية الفلسفية.
وفضلا عن الدور الذي تلعبه الأمثلة في ربط الأفكار الفلسفية بالحياة، ومد جسور من التواصل بين الفلاسفة والمتعلمين، فإنها مؤشر حقيقي على حصول الفهم؛ من قبل المدرس أولا، إذ لا إفهام بدون فهم، ومن قبل المتعلمين ثانيا، إذ تؤشر أيضا على تمثلهم لتلك الأفكار واستيعابهم لها، فضلا عن مدى قدرتهم على استعمالها في وضعيات حياتية جديدة ومغايرة. كما تجعل الأمثلة الدرس الفلسفي مفعما بالحياة، وتنزع عنه  تلك الغرابة التي طالما وسمها الكثيرون به. وحينما يغدو الدرس الفلسفي حيا، فإن ذلك يعني تسرب ذوات المتعلمين إلى كل مواده ومكوناته، وقدرتها على تنضيدها ونسج عناصرها بما يجعلها مكتسبة لخصوصيتها وتفردها؛ ولعل هذا ما يسمح بالإبداع الدائم والمتجدد للدرس الفلسفي، ويجعله يتخذ عدة مظاهر وتلوينات بحسب المخزون الديداكتيكي والمؤهلات المعرفية لكل مدرس من جهة، وبحسب التركيبة التلاميذية – من حيث نجابتها الذهنية ورصيدها الثقافي -  لكل قسم أو مستوى دراسي من جهة أخرى.
أما عن دور الوضعية المشكلة في تنمية القدرة على التفكير الذاتي، فإن هذا أمر لا يحتاج كثيرا من التوضيح؛ إذ أن وضع التلاميذ في مشكلات حياتية، يعمل من جهة على استفزازهم وإقحامهم في إشكالات الدرس بكيفية تلقائية وسلسة، كما يعمل من جهة أخرى على ربط الدرس الفلسفي بالحياة. ولذلك فالتلميذ يلمس من خلال الوضعية المشكلة أن قضايا الدرس الفلسفي تهمه بشكل أساسي، وتتجذر في واقعه الحياتي واليومي؛ فيدرك بذلك أهمية الإشكالات التي فكر فيها الفلاسفة، ويتحمس بدوره لاكتشاف عالم التفلسف، باعتباره عالما مفعما بالقضايا والمشكلات التي تلامس ذاته وتجاربه بشكل قوي وعميق.
وما لم يفكر المتعلمون في قضايا التفكير الفلسفي وإشكالاته بشكل ذاتي، أثناء اشتغالهم على الوضعيات المشكلة وتحليلهم للنصوص وإثارتهم لحوارات - بمعية مدرسهم - تستحضر أمثلة من الحياة، فإنهم لن يتمكنوا ممارسة مثل هذا التفكير الذاتي في نسجهم لمواضيعهم الإنشائية. ذلك أن كتابة مقدمة الإنشاء الفلسفي مثلا، بما تتطلبه من خلق مفارقات وإحراجات وتوترات تقود إلى طرح تساؤلات إشكالية، تشبه تماما ما يتم إنجازه أثناء الاشتغال على الوضعية المشكلة في بداية الدرس أو في بداية محور من محاوره. كما أن دور استخدام الأمثلة في الدرس، هو عينه دورها أثناء لحظتي التحليل والمناقشة في الإنشاء الفلسفي؛ إذ يكون المستهدف منها في الحالتين هو إما توضيح الأفكار والدفاع عنها من جهة، أو الاعتراض عليها وتفنيدها من جهة أخرى.
كل هذا وغيره، يجعل الدرس الفلسفي بحق حلبة تدريب حقيقية من شأنها أن تسمح بتأهيل التلاميذ لخوض مباراة الكتابة الإنشائية، في التقويم التكويني أو في النهائي، بكل ثقة واطمئنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.