ملاحظاتي على إجابة تلميذة عن نص
فلسفي في امتحان وطني
يخص علاقة الشخص بالغير
سأقدم لكم موضوعا
لامتحان وطني للدروة الاستدراكية 2008، شعبة الآداب والعلوم الإنسانية، مع إجابة
لتلميذة وتصحيح من طرفي.
أرجو أن يجد فيه
تلامذتنا بعض الإفادة.
• نص الموضوع:
«
إنني أتلفظ ب "أنا" قبل التعرف على نفسي كشخص. فالأنا هي الأولى، ولا
اختلاف فيها أو تنوع؛ وهي لا تفترض وجود مذهب فكري في الشخص. فالأنا قائمة منذ
البداية، أما الشخص فهو مشروع...
يمكن
أن تتحقق الأنا وتصبح شخصا. ويفترض هذا التحقق الاعتراف بحدود الذات وخضوعها الطوعي
لما يتجاوزها، وإبداع القيم، والهروب من الذات في اتجاه الغير. ولكن الأنا يمكنها
كذلك أن تظل منغلقة على نفسها ومستغرقة فيها، عاجزة عن الانفتاح على الغير.
إن
التمركز حول الذات (...) هو العقبة التي تواجه عملية تحقق الشخص، أما الشرط
الأساسي لتحقق الشخص، فيتوقف على استبعاد التمركز حول الذات والتطلع باستمرار نحو
الغير، سواء كان فردا أو جماعة. »
حلل
النص وناقشه
·
إجابة التلميذة:
يتاطر هذا النص
ضمن مجال الوضع البشري ,خصوصا ضمن مفهوم الشخص .حيث يتعلق الامر بمسالة التفكير في
الاشكال المرتبط في تحديد الهوية الشخصية .هذا الموضوع الذي عرف العديد من
المساهمات الفلسفية الجادة التي اختلف في تحديد ها لهذه الهوية ,وان كان كل انسان
يتعارف على نفسه بصفته شخصا في مقابل الاشياء المادية الاخرى فانه يقدم نفسه كذات
عاقلة واعية قادرة على التميز بين الخطا والصواب والخيلر والشر والصديق والعدو
,ويعبر عن هذه الذات الثابتة والمستقرة والذي تظل هي هي بصيغة المفرد المتكلم اي
"انا" .ومن هذا المنطلق يحق لنا التساؤل فيما اذ كانت هذه الهوية انا
ثابت وماهوي وهل تقوم على الثبات ام على التغير والتحول?وعلى اي اساس تقوم الهوية?
بداية يؤكد صاحب
النص على ان تلفظه بضمير الانا المتكلم هو اقرار تام باسبقية الانا ويعطي المثال
بذلك على انه حينما يلفظ كلمة "انا" فهو ينطقها قبل ان يتعرف على نفسه
كشخص اي بالنسبة اليه فان الانا لا تقتضي وجود اي مذهب فكري يؤطرها فهي قائمة
بنفسها من البداية .فالايمان باسبقية الانا يزيل اي التباس حاصل ويلغي اسبقية
الشخص لكونه مشروعا لاحق .
بعد ذلك يؤكد صاحب
النص على ان امكانية تحقق الانا وتحولها الى شخص تظل قائمة ومحققة بشروط والتي
يحصرها في الاعتراف بالذات وخضوعها الطوعي لما يتجاوزها اي قدرتها على التاقلم مع
كل امكانيات الحياة والتغلب على كل المشاكل التي تواجه الذات والهروب الى الغير
سواءكان فردا او جماعة او كان قريبا اوبعيد ا .ليخلص صاحب النص امام هذه المعطيات
بان تمركز الذات حول نفسها يعيق اي انفتاح على الغير مما يبقي الذات في عزلة عن
العالم الخارجي ويحد اي قدرة لديها للابداع والخلق .
من جانب اخر وفي
نفس السياق يؤكد شوبنهاور ان الانا هي ثابتة دائما حتى عندما ننسى او نتغير و يضيف
قائلا بان الارادة هي التي تبقي الانا في حالة ثبات ,ويفسر ذلك بمثال حي يعاج هذا
الموضوع والذي يقول فيه ان عندما نكبر ونشيخ تظل ذواتنا هي هي على ما كانت عليه في
السابق .ليخلص قائلا بان هوية الشخص تتوقف على الارادة التي تظل مع الذات ومع
نفسها وعلى الطابع الذي تمثله .وهذا مايؤكده جون لوك فبالنسبة اليه فان الشخص
يختلف عن الموضوعات والاشياء ويتحدث بصيغة المفرد المتكلم التي ترجع اليه جميع
خبراته وافعاله في الحياة وان التجربة الحسية هي بالنسبة اليه اساس الهوية الشخصية
.
وفي مقابل ذلك يرى
الفيلسوف ديكارت بان اساس الهوية الشخصية هو الفكر اي العقل بمعنى اخر وارجع وجود
الذات الى الفكر حيت قال "اذا انا افكر انا موجود".فما دامت الذات هي
التي تفكر فانها تؤكد هويتها ثم وجودها , ليستنتج بعد ذلك ان الانا قائمة على
الفكر وحده وان التفكير و الوعي عند ديكارت ليس علامة وجود الشخص فحسب بل هوية
الشخص وذاته.
اما بالنسبة
للفيلسوف شوبنهاور فهو ينطلق من كون ان الذاكرة والطبع هما المؤسسان للهوية
الشخصية ويقصد بالطبع دوام نفس المزاجومعناه السمات العامة و الخصائص المميزة
للشخص,اما الذاكرة فتعرف بالحالة العادية امتدادات الماضي والحاضر . ليخلص الى نفي
بان هويتنا الشخصية معطا ثابت غير قابل للتغيير ويعلل فكرته بقوله ان الانسان ليس
الى ظاهرة من الظواهر يتذكر بعضها البعض لكي تكون بذلك الذاكرة اهم مكون للهوية
الشخصية وهنا يقول على الشاكلة الديكارتية " اذا انا اتذكر انا موجود"
هكذا يتضح لنا من
خلال ما سبق على ان مفهوم الهوية الشخصية صعب التحديد .اذا انها تختلف تبعا
للمنظور الذي يتم البحث فيه فالشخص الاخلاقي لا يتحدد الى بمشاركة الغير الاخرين
والتضامن معهم لا بالعزلة او معارضتهم .وان الهوية الشخصية لا يمكن ان نعزيها الى
مكون رئيسي بل هي نتاج العديد من مكونات الشخص والتي تكون بنية واحدة لا يمكن
تجاوزها لتحقيق ما يسمى بالشخص الذي يحاول التطلع الى الغير باستمرار والانفتاح عن
العالم.
·
ملاحظاتي على الموضوع:
من خلال تجربتي
السابقة مع الفروض والامتحانات الوطنية، تبين لي أن صيغة النص كثيرا ما تطرح بعض
الصعوبات بالنسبة للتلاميذ أكثر مما تطرحه صيغتي القولة والسؤال. فكثيرا من
التلاميذ الذين يقال أنهم قد خرجوا عن الموضوع واستحقوا نقطة هزيلة، غالبا ما يحدث
لهم ذلك في النص.
لماذا؟
لأن السؤال
المفتوح لا يطرح مشكلا كثيرا بالنسبة للإشكال المتضمن فيه، إذ يكون مباشرا ومفهوما
في الغالب. كذلك بالنسبة للقولة؛ إذ أنها غالبا ما تتكون من جملة أو جملتين يسهل
من خلال التمعن فيها معرفة الإشكال المطروح فيها، فضلا أنها ترفق بسؤال يوضح هو
الآخر الإشكال المطلوب معالجته.
أما بالنسبة للنص
فإن طوله وكثرة أفكاره وانزياح عباراته من جهة، وأيضا غياب مطلب محدد فيه سوى
عبارة <حلل وناقش> من جهة أخرى، كل هذا يجعل مسألة تحديد إشكاله ليست في
متناول جميع التلاميذ.
إن ضبط إشكال النص
هو مسألة جوهرية في تحليله ومناقشته؛ إذ لا يمكن كتابة تمهيد للموضوع إلا بعد
تحديد إشكال النص لأن التمهيد يفترض فيه بالضرورة أن يؤسس للطرح الإشكالي ويمنح
التبريرات الكافية لصياغته. كما أن تحليل النص يكون بهف الكشف عن الأطروحة التي
يقدمها صاحب النص عن الإشكال. أما بالنسبة للمناقشة فهي تتضمن مواقف فلسفية تجيب
أيضا عن الإشكال المطروح في المقدمة وتحاور أطروحة النص بصدد الإجابة عنه. بل إن
الخلاصة التركيبية أيضا هي تجميع للنتائج المتعلقة بالإجابات التي قدمت بصدد إشكال
النص سواء من طرف صاحبه أو من طرف المواقف الفلسفية المحاورة له (المؤيدة
والمعارضة).
فضبط إشكال النص
من طرف التلميذ وصياغته صياغة دقيقة هي مسألة أساسية وغاية في الأهمية، و لها
تأثير كبير على جودة الكتابة التي سيقدمها التلميذ، وبالتالي على النقطة التي
سيحصل عليها. فإذا فهم التلميذ فهما خاطئا أو ناقصا إشكال النص، فإن ذلك سيؤثر
بشكل سلبي على كل ما سيكتبه أثناء التحليل والمناقشة؛ إذ حتى ولو قدم معلومات
ومعارف فلسفية صحيحة ومهمة فإنه لا قيمة ولا معنى لها مادامت لا تعالج الإشكال
المتضمن في النص بدقة.
لماذا كتبت لك هذه
المقدمة؟
لأنك وللأسف لم
تتمكني من صياغة إشكال النص صياغة دقيقة؛ فأنت لم تطرحي الإشكال خاطئا بشكل كلي،
ولكن طرحته بشكل ناقص وغير مناسب بدقة لما يعالجه صاحب النص.
كيف ذلك؟
إذا تأملنا النص
جيدا فسنجده يتناول مفهوم الشخص في علاقته بالغير، فيعالج كيفية تحول الإنسان من
الأنا إلى الشخص ودور الغير في هذا التحول. فالفقرة الثانية من النص بتين بوضوح
علاقة تحقق الشخص، وانتقاله من مجرد أنا أولي إلى شخص، بالغير. وهناك عبارات واضحة
في النص تبين ذلك، مثلا تأملي في هذه العبارات الواردة في النص:
- < يمكن أن
تتحقق الأنا وتصبح شخصا. ويفترض هذا التحقق الاعتراف بحدود الذات وخضوعها الطوعي
لما يتجاوزها...والهروب من الذات في اتجاه الغير.>
- < إن التمركز
حول الذات... هو العقبة التي تواجه عملية تحقق
الشخص.>
- < ... أما
الشرط الأساسي لتحقق الشخص، فيتوقف على استبعاد التمركز حول الذات والتطلع
باستمرار نحو الغير، سواء كان فردا أو جماعة.>
هكذا لا بد لفهم
إشكال النص وصياغته بدقة من الانتباه إلى هذه العبارات الأساسية في النص، والتي
تشير بوضوح إلى أن النص يعالج إشكال دور الغير في تحقيق الشخص لذاته وبنائه لهويته
وانتقاله من الأنا إلى الشخص.
فالإشكال المتضمن
في النص إذن هو:
كيف
يحقق الشخص ذاته ويبني هويته كشخص؟ وما هو دور الغير في هذا البناء؟ هل يمكن للشخص
أن ينتقل من مجرد أنا إلى شخص بدون الانفتاح على الغير؟
هذا هو الإشكال
الجوهري والحقيقي في النص أختي ، أما الإشكال الذي طرحته أنت بهذه الصيغة:
<
ومن هذا المنطلق يحق لنا التساؤل فيما اذ كانت هذه الهوية انا ثابت وماهوي وهل
تقوم على الثبات ام على التغير والتحول?وعلى اي اساس تقوم الهوية? >
فهو إشكال لا
يتضمن مفهوم الغير الذي هو مفهوم أساسي في النص، ويلعب دورا أساسيا في تحقيق الشخص
لنفسه وتكوينه لهويته.
أنصحك إذن حينما
يتعلق الأمر بصيغة النص، أن تنتبهي جيدا للمؤشرات الدالة فيه، وهي تلك المفاهيم
والعبارات الأساسية فيه والتي انطلاقا منها نحدد الإشكال بدقة، أما إذا أغفلناها
فسنطرح الإشكال إما بشكل خاطئ أو ناقص.
وما حصل لك أنت هو
أنك طرحت إشكال النص ناقصا؛ فانتبهت إلى مسألة الهوية بين الثبات والتغير التي قد
تدل عليها إشارات في النص كحديثه عن الشخص كمشروع، وبنائه لذاته بشكل متفاعل
ومستمر، لكنك مع ذلك أهملت العبارات الأساسية في النص والتي أشرت إليها سابقا، وهي
التي تؤكد على دور الغير في بناء الشخص لذاته وتحقق إنسانيته.
- لهذه الأسباب
جميعا يجب أن تتجنبي طرح الإشكال كما هو موجود في الدرس،
بل أن تطرحي الإشكال المتضمن في النص الذي أنت مطالبة بتحليله ومناقشته.
فلا يجب أن نقرأ
النص بسرعة ويتبين لنا أنه يعالج هوية الشخص فنمضي إلى الدرس ونطرح الإشكال كما
درسناه وحددناه في الملخص، ثم نستدعي فلاسفة المحور ونقول أننا أجبنا على النص.
هذا المنطق في التعامل مع النص غير سليم.
منطق التعامل
السليم هو أن نقرأ النص بتمعن ولعدة مرات، ثم نسطر على المفاهيم والعبارات
الأساسية فيه، ومنها نستخلص الأسئلة المعبرة عن الإشكال المتضمن فيه. وقد يكون هذا
الإشكال يجمع بين درسين كما هو الحال بالنسبة لهذا النص؛ إذ أنه يعالج هوية الشخص
وتحقق ذاته في علاقته بالغير.
- لقد قلت في
التمهيد ما يلي:
< يتاطر هذا
النص ضمن مجال الوضع البشري ,خصوصا ضمن مفهوم الشخص .حيث يتعلق الامر بمسالة
التفكير في الاشكال المرتبط في تحديد الهوية الشخصية >.
فأنت تلاحظين معي
أنك أطرت النص ضمن مفهوم الشخص وبالضبط هوية الشخص، ولكنك أغفلت مفهوم الغير كمفهوم أساسي في النص.
- أثناء تحليلك
للنص اكتفيت بشرح عبارات النص شرحا لغويا دون العمل على تحليلها والتوسع في توضيح
دلالاتها. كما انك لم تقفي عند المفاهيم الأساسية في النص وتحديد العلاقات
الموجودة بينها، وهذا ما يسمى بالبنية المفاهيمية للنص. كما أنك أيضا لم تشتغلي
على الجانب الحجاجي في النص، فلم توضحي الحجج التي استخدمها صاحب النص لتأكيد
أفكاره. أيضا لم تشيري إلى أطروحة النص ولم تحدديها بدقة.
- أما بخصوص المناقشة؛
فهناك أولا غياب للمناقشة الداخلية التي يفترض أن يبين من خلالها التلميذ مدى
تماسك أو عدم تماسك أفكار النص وحججه. كما أن الفلاسفة الذين تم توظيفهم في
المناقشة الخارجية (شوبنهاور، ديكارت ولاشوليي) لم يعالجوا الإشكال الحقيقي في
النص وهو علاقة هوية الشخص بالغير، بل تحدثوا فقط عن مكونات الهوية الشخصية ومدى
ثباتها أو تغيرها.
لقد ارتكبت خطأ
هنا حينما قلت:
< اما بالنسبة
للفيلسوف شوبنهاور فهو ينطلق من كون ان الذاكرة
والطبع هما المؤسسان للهوية الشخصية ...>
فالمعني بالأمر
هنا هو لاشوليي وليس شوبنهاور عليك بالتركيزجيدا.
إذن لا قيمة
لمواقف فلسفية يوظفها التلميذ ولا تعالج الإشكال الحقيقي والدقيق في النص.
- بالنسبة للخلاصة
تضمنت الحديث عن صعوبة هوية الشخص وتعدد مكوناتها، وهذا منسجم مع ما جاء في
أطروحات الفلاسفة ديكارت وشوبنهاور ولاشوليي، لكنها تضمنت فكرة ضرورة انفتاح الشخص
على الغير والعالم من أجل تحقيق ذاته، وهي الفكرة التي لم يناقشها هؤلاء الفلاسفة.
وهذا غير منطقي؛ إذ يجب أن تعكس الخلاصة النهائية ما
عالجه الفلاسفة في المناقشة، أما ما لم يعالجوه فلا ينبغي أن تتضمنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.