الجمعة، 28 أكتوبر 2016

الحقيقة عند نيتشه

الحقيقة عند نيتشه


بقلم محمد الشبة 





اعتبر الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه أن الحقيقة هي جملة من الخطابات اللغوية التي تعبر عن علاقات ومصالح وأهداف يسعى الإنسان إلى تحقيقها على أرض الواقع. وتعتمد هذه المنطوقات على لغة استعارية ومجازية لا تنقل أشياء الواقع كما هي في حقيقتها الأصلية، بل تنقلها من منظور محدد. وهذا ما يجعل تلك التصورات حول الحقيقة تعتمد على سلطة الإكراه، المتمثلة في المؤسسات والهياكل السياسية والدينية والاجتماعية التي تضمن التعمير الطويل للحقيقة وترسيخها بين الناس، على أساس أنها دقيقة ومشروعة ولاشك في صحتها .

من هنا فالحقيقة حسب نيتشه هي أوهام منسية. ذلك أن ما اعتبره الناس لأزمان طويلة أنه حقائق مطلقة ومقدسة، ليست في واقع الأمر كذلك. فهي مجرد تصورات نسبية هدفها حفظ الحياة وتحقيق الهدنة الاجتماعية. ويظهر الكشف عن أصل الأفكار أن مصدرها الوهم والخطأ الناتج عن التلاعب باللغة من جهة، و طمس حقائق الأشياء من أجل المصلحة من جهة أخرى.

وإذا كانت الحقيقة عند نيتشه مجرد أوهام واستعارات وتشبيهات، فهذا يعني أنها لا تعبر عن الواقع كما هو، بل عن الواقع كما تراه جهة معينة من الناس. لهذا السبب يجب الإقرار مع نيتشه بنسبية الحقيقة واختلافها باختلاف الخطابات المعبرة عنها، والأهداف التي تتحكم وتقف وراء بلورتها.

ومن جهة أخرى فالحقيقة عند نيتشه ترتبط بالسلطة، ولا يمكن تصورها بمعزل عنها؛ ذلك  أن السلطة هي التي توفر  المؤسسات والهياكل والآليات التي من شأنها أن تفرض الحقائق على العقول، وتثبت وجودها على أرض الواقع.

هكذا يتبين مع نيتشه أن الإنسان لا يريد الحقيقة من أجل ذاتها، بل إنه  يطمع في العواقب الممتعة والنافعة المترتبة عنها، أو أنه على الأقل يتوهم أنها تحقق له تلك الفوائد.

وإذا كانت الحقيقة أوهام نسي الناس لطول العهد أنها كذلك، فالوهم أخطر من الخطأ لأن الخطأ يمكن اكتشافه وتصحيحه بينما الوهم ينتج عن الرغبة. وللوهم في نظر نيتشه مصدرين أساسيين:

 *المصدر الأول: يتمثل في حاجة الإنسان إلى الهدنة والسلم الاجتماعيين من أجل الحفاظ على بقائه، لذلك نجد الإنسان يتحايل مستعملا عقله للإخفاء والكذب والتمويه، ليس من أجل الكشف عن الحقيقة بل من أجل إخفائها وحماية الذات من البطش.

 *المصدر الثاني: يتمثل في اللغة التي هي عبارة عن استعارات وكنايات ومجازات عن الواقع، لذلك فهي تحجب عنا الحقيقة الفعلية للأشياء. وهكذا تلعب اللغة دور إخفاء حقائق الأشياء لا الكشف عنها، وهو الأمر الذي يؤشر على الارتباط القوي الموجود بين الحقيقة والوهم وصعوبة الفصل بينهما، بحيث أن الفرق بينهما هو فرق في الدرجة فقط، ما دام أن هناك درجة من درجات الوهم نعتبرها حقيقية ودرجات أخرى نعتبرها أوهاما.

وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بضدها الذي هو الوهم من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى، وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة في ذاتها بل يطمع في العواقب الحميدة التي تنجم عنها. وعلى العموم فالحقيقة عند نيتشه هي حقيقة نسبية ولا توجد في معزل عن ضدها الذي هو الوهم.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.