رصد لبعض القضايا ومظاهر العيش في المجتمع القبلي
لمغرب ما بعد الاستقلال
من خلال رواية "بدايات وما لا نهاية" لحميد
السباعي الفحصي
بقلم: محمد الشبة
يعتبر الفيلسوف الفرنسي أندري لالاند في معجمه
الفلسفي أن "الفن هو كل إنتاج للجمال بواسطة أعمال ينجزها كائن واع". وهذا
ما يجعل الأعمال الفنية، سواء كانت شعرا أو رواية أو مسرحا أو رسما أو نحتا أو غير
ذلك، تجسيد وتمظهر للوعي البشري؛ ذلك أن هذا الوعي يتخذ عدة أشكال ميز فيها هيجل
بين وعي نظري وآخر عملي.
وفي معرض مقارنته بين الفلسفة والفن، اعتبر أرسطو
أن الأولى تعبر عن حقيقة الواقع بواسطة التأمل العقلي بينما وظيفة الفن الأساسية
هي محاكاة الواقع، سواء كان طبيعيا أو اجتماعيا، وذلك باستخدام وسائل متنوعة تختلف
من لون فني إلى آخر، مثل الإيقاع والوزن والحركة واللغة.
وعموما، فالفنان مضطر للتعامل مع جانب من جوانب
الواقع، لكي يمتح منه مادته الفنية التي سيشتغل عليها. وفي إطار علاقة الفنان
بالواقع، يمكن التمييز بين وظيفتين أساسيتين يمكن للفنان أن يضطلع بهما؛ الأولى هي
الوظيفة الجمالية إذ عليه أن يكشف لنا عن الجمال الموجود في الواقع لكي نستمتع به
وجدانيا، وفي هذا السياق ذهب شوبنهاور إلى أن "الفنان يمنحنا عيونه لكي نرى
العالم". أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة النقدية التي تجعل الفنان يضطلع
بمهمة تعرية المشاكل الموجودة في الواقع الإنساني، والتعبير عنها بطريقته الفنية
الخاصة. وهنا يتجاوز الفن وظيفته الجمالية ليقوم بوظيفة أخرى نقدية، يصبح معها
للعمل الفني رسالة اجتماعية تجعل صاحبه يساهم في تحقيق التغيير المنشود في المجتمع
انطلاقا من موقعه الخاص.
وانطلاقا من تركيزنا على الوظيفة الثانية، سنعمل
على تتبع ورصد بعض مظاهر العيش لدى المجتمع القبلي المغربي لعهد ما بعد الاستقلال،
وكذا الوقوف عند بعض القضايا الاجتماعية أو التراثية أو التربوية أو السياسية التي
قد نجدها مبثوثة في صفحات رواية "بدايات وما لانهاية" للأستاذ حميد
السباعي الفحصي.
يطالعنا الروائي حميد السباعي منذ الصفحة الأولى
بقضية وطنية أساسية، هي قضية الاستقلال التي يرصدها من خلال حديث الناس عن
الانتقال من عهد الظلم والقهر والذل والاستبداد إلى عهد جديد، هو عهد التحرر
والعزة والكرامة، خصوصا وقد تزامن الأمر مع أيام الربيع الدالة على التفتح
والانشراح والسرور. وهكذا نجد أنفسنا هنا بإزاء تماثل بين فضاء نفسي ووجداني يعكس
فعل التحرر والاستقلال، وبين فضاء طبيعي تؤثثه بساتين الزهور والورود وتملأ
فضاءاته أغاني الطيور وحركات النحل والفراشات.
وبعد انتقاله للحديث عن الحياة الخاصة ل
"محمد بن ادريس"، نجد الراوي يرصد بعض مظاهر الاعتقادات السائدة لدى
شرائح واسعة من المغاربة، خصوصا لدى القبائل البدوية، والمتمثلة في "زيارة
الأولياء وطلاسم الفقهاء وتراكيب العجائز" التي لجأ إليها محمد بن ادريس من
أجل الإنجاب دون أن تكون مجدية بالنسبة إليه. ومثل هذه السلوكات المعبرة عن
الثقافة الشعبية الغربية، هي ناتجة عن الإحساس باليأس من جهة، وعاكسة لخضوع الفرد
لمجموعة من العادات والأفكار المتوارثة عبر الأجيال من جهة ثانية. ورصدها من قبل
الروائي هو خطوة من أجل تفهمها ومعرفتها أولا، ثم من أجل التفكير بعد ذلك في طرق
وحلول من أجل تجاوزها.
وفي إطار وصفه لأحد المظاهر المؤثثة لبيت محمد بن
ادريس نجد الراوي يرصد جوانب ثلاثة رئيسية؛ يتعلق أحدها بالحس الوطني المتمثل في
ارتباط الأسرة المغربية عموما بملك البلاد، ويتبين ذلك من خلال الصورة المعلقة
لعاهل البلاد وولي عهده وهما بالزي العسكري. أما الجانب الثاني فيتمثل في الثقافة
الدينية للبيت المغربي، والمعبر عنها رمزيا هنا بالصورتين المعلقتين الحاملتين
لاسم الله وبعض الآيات القرآنية. في حين يشير الجانب الثالث إلى الصناعة التقليدية
التي هي مظهر من مظاهر الثقافة المغربية، والتي تدل عليها في بيت محمد بن ادريس
تلك "الحسكات" والأباريق النحاسية والصينيتين الفضيتين، هذا فضلا عن
القطع السكرية المغلفة باللون الأزرق والتي تحرسها نمور حمراء محنطة، ونحن نعلم ما
للسكر من أهمية ودلالة في الحياة المغربية قبل وبعيد الاستقلال.
وإذا مضينا مع إيقاع الحكي داخل الرواية، نجد
تصويرا مقرونا بهاجس نقدي يتعلق بثقافة الزواج وكيفية اختيار الشريك، بحيث مثلا أن
"عادات أولاد حيان لا تسمح للعريس أن يختار عروسه حسب أهوائه وأذواقه، وبحيف
أكبر لا تعطي للفتاة أي حظ في اختيار الزوج" (ص4). فالتقاليد والعادات
القبلية تضيق الخناق على العلاقات العاطفية بين الجنسين، وتضرب عليها حصارا قويا
مما يضطر المحبين والعاشقين إلى اللجوء إلى الكثير من الحيل لخلق التواصل الوجداني
المنشود.
وفي جانب آخر تقدم لنا الرواية بعض مظاهر العيش
القبلي في المجتمع المغربي؛ حيث أن قائد القبيلة يحكم قبضته على أهلها، ويحكم بين
الناس ويتصرف على هواه دون مراعاة لأي قوانين مكتوبة سواء كانت سماوية أو وضعية.
وما يتيح له ذلك هي ثروته وامتلاكه لمساحات شاسعة من الأراضي، تجعله يستخدم الكثير
من الأفراد كخماسين أو أجراء بمبالغ زهيدة، بل إن نفوذه يسمح له حتى بإصدار بعض
الأحكام المتعلقة بالجلد أو السجن مثلا؟
هكذا يمنحنا المشهد الروائي، منذ البدايات
الأولى، صورة عن مظاهر وأنماط من العيش في قبائل المجتمع المغربي من جهة، كما يرصد
لنا من جهة أخرى بعض مظاهر التفكير والاعتقاد التي تسيطر على العلاقات بين الأفراد
وتقف وراء تدبيرهم لسلوكهم اليومي.
تشير الرواية أيضا إلى الوضعية الدونية للمرأة
داخل القبائل المغربية بعيد الاستقلال، حيث كانت العلاقة تسلطية في الحياة الزوجية
بين الرجل والمرأة، لاسيما حينما يتعلق الأمر بأحد الملاكين والأعيان الكبار مثل
محمد بن ادريس، بحيث لم يكن يقحم زوجته في القضايا الكبرى والمصيرية المتعلقة
بالأسرة أو الوطن، وكان ينهرها كلما حاولت حشر أنفها فيها. بالإضافة إلى هذا فقد
كانت المرأة تقبل العيش في كنف زوجها مع زوجات أخريات له قد يكن مثنى أو ثلاث، كما
لم يكن الزواج أو الطلاق ليتم وفقا لعقود كتابية بل يتم ذلك بكيفية شفهية، خصوصا
وقد كانت الأمية متفشية بين الناس داخل القبيلة، بحيث يمن القول أن فقيه المسجد
كان أقل الأفراد أمية.
وتصور لنا الرواية أيضا طبيعة العلاقة التي كانت
قائمة بين البدو وبعض المدن المجاورة لهم؛ بحيث كانوا يؤمونها لاقتناء الكثير من
الأغراض والحاجيات الضرورية من ملابس ومواد غذائية وغير ذلك. وكانوا يعتمدون في
ذلك على وسائل مواصلات بسيطة وتقليدية مثل البغال والحمير، أو حتى اعتمادا على
الأرجل. وينطبق هذا مثلا على علاقة قبيلة أولاد حيان بمدينة دانوس. (ص5).
أما داخل البادية، فالأهالي يعتمدون كثيرا على
قطعان الأبقار والخرفان كمصدر عيش، فضلا عن ممارسة الزراعة، مع الإشارة القوية إلى
مكانة الفرس عند أهالي القبيلة بحيث "قلما تجد منزلا خاليا منه بل وقد يترك
رب الأسرة أبناءه بدون طلبات أساسية موثرا في ذلك الفرس". (ص6-7) وقد كان هذا
هو حال محمد مع الفرس حجر الوادي، الذي كان ينسيه متاعب ومشاكل الحياة اليومية.
تحكي
الرواية أيضا عن مجالس الحديث والسمر داخل أسر القبيلة، والتي كانت تشكل فضاء
أساسيا لتناقل الأخبار وتبادل القصص والحكايات، وترسيخ المعتقدات وتوارثها، فضلا
عن دورها الكبير في تمتين الروابط الأسرية.
وحينما يأتي موسم الحصاد، فإن المجال يفتح واسعا
أمام معتقدات تنافس القيم الإسلامية، من قبيل إراقة دماء بعض الحيوانات أو التبرك
والاستعانة ببعض أولياء الله الصالحين، مثل سيدي بن عباس، هي مخلفات لثقافة وثنية
موروثة عن الماضي.
ولا يمكن هنا إلا أن أنوه بقدرة الروائي حميد
السباعي الكبيرة على سرد التفاصيل ووصف الجزئيات الصغيرة المرتبطة بمشهد الحصاد،
بل وبمشاهد أخرى في الرواية سواء تعلق الأمر بوصف الأماكن أو الأشخاص، وهو يدل ولا
شك على الذاكرة القوية التي يتمتع بها هذا الروائي مما ساعده فعلا على تأثيث
المشاهد السردية بالكثير من الصور الجمالية التي أضفت عليها رونقا وبهاء.
وهذا الوصف المسهب للتفاصيل ينطبق أيضا على
تقديمه للآليات والطرق المعتمد في الدرس وجمع المحاصيل الزراعية، من قبل أفراد
قبيلة أولاد حيان. ويتضمن هذا الوصف، من جملة ما يتضمن، الطقوس والأدوار والوسائل
المستخدمة أثناء جني المحاصيل، وما يرافق ذلك من أحاسيس يعيشها الفلاحون في أجواء
الاحتفال بموسم الحصاد. يضاف إلى ذلك استخدام النساء للرحى الحجرية من أجل طحن
الحبوب، وهو ما يتطلب سواعد قوية واشتغال لساعات طويلة بل وأيام كذلك. ولا تجد
النسوة سوى أرواح الشهداء والموتى من الأقارب من أجل التخفيف من معاناتهن أثناء
عملية الطحن.
ونجد في الرواية وصفا مطولا للطقوس التي ترافق
أيام إجراء العرس أو حفل الزواج في قبيلة أولاد حيان، وما يرافق ذلك من سلوكات
ترتبط بعادات وقيم القبيلة مثل الولائم والتبوريدة والهيت وضروب تزيين العروس
وطقوس الشرف وصيانة التقاليد والقيم المتوارثة.
وبعد سفر غيثة إلى دانوس مضطرة مع أمها مريم
وابنها حمادة وبنتها حورية، نجد وصفا لقلة فرص عمل المرأة في لمدينة المغربية في
ذلك الوقت، اللهم إلا كخادمة في البيوت أو كغازلة للصوف أو كصانعة لعقد القفاطين
وحبك السفائس. كما نجد وصفا لطرق ألعاب الأطفال، واختلاف طرقه سواء بين الجنسين أو
بين البادية والمدينة؛ ففي البادية كان الأطفال يلعبون "بالطين المبلل
والتزحلق فوقه خلال الفترات الممطرة وبالحجارة وإصابة هدف بها وسيقان النباتات ..
والمسابقة بالحيوانات" (ص28)، أما في المدينة فهم يلعبون "لعبة الجنود
والمقاومين ولعبة الشرطة والمجرمين ولعبة السباق واللعب بأوراق اللعب والقمار
وغيرها." أما لعب الفتيات فهو عموما "موجه نحو المطبخ وترتيب المنزل
والاعتناء بالصغار وفي حالة ناذرة نحو رشاقة الجسم وجماله." (نفس الصفحة)
وتصور لنا رواية "بدايات وما لانهاية"
ظاهرة تعايش اليهود المغاربة مع مواطنيهم من المسلمين؛ وذلك من خلال الحديث عن
الرجل المسن شمعون صاحب بعض المحلات التجارية في مدينة طالاس، والذي له علاقات
طيبة مع أهل المدينة بحيث كانوا يستشيرونه في بعض مشاكلهم، كما ربطته مع المهاجر
محمد علاقات ثقة متبادلة، بحيث كان يودع عنده قدرا من الأموال التي كان يحصل عليها
من خلال العمل في البناء وتجارة الخضر أو في حراسة الدكاكين ...الخ.
كما تقدم لنا الرواية وصفا لبعض عادات الشباب في
المدن، والتي وجد محمد نفسه في مواجهتها وهو القادم من قبيلة أولاد حيان، وذلك مثل
شم التبغ المسحوق وشرب الخمر ومعاشرة نساء الهوى، وكذلك اكتساب بعض السلوكات الجاري
بها العمل في المدينة كالمحاباة والنفاق والتماطل والكذب من أجل المصلحة.
وفي نطاق آخر يؤرخ السرد الروائي لبداية اهتمام
المجتمع المغربي بالتربية النظامية، ودورها في محاربة الأمية وتقدم الشعوب. ويظهر
ذلك من خلال الذهاب بحمادة إلى الكتاب من طرف أبيه محمد الذي عاد إلى أسرته بدانوس
بعد غيبة طويلة قضاها بمدينة طالاس. وتقدم لنا الرواية وصفا دقيقا لآليات عمل
الكتاب، وعلاقة الفقيه بالتلاميذ والوسائل التقليدية المعتمدة في التلقين من قبيل
الكرسي الخشبي الذي يجلس فوقه الفقيه، والحصائر التي يجلس فوقها التلاميذ القرفصاء
في وضعية مسكنة وخضوع وكراهية للفقيه الذي يسلط عليهم سياطه بقدر غير قليل من
القسوة والعنف. وإذا كان الطفل حمادة قد عانى الويلات مع أشكال العنف التي كانت
تمارس عليه من قبل الفقيه، وإذا كان هذا هو حال التعليم في هذه الفترة، فإن الإناث
لم يكن لهن نصيب الذكور منه؛ فحورية أخت حمادة لم يمكنها المجتمع من أخذ نصيبها من
التعلم، وهذا هو حال كل البنات الأخريات.
وبجانب الكتاتيب القرآنية، نجد في الرواية إشارة
إلى أشكال من التعليم الأكثر عصرية، والتي كانت تتم في قاعات خاصة بها مقاعد خشبية
وسبورة، وتلقن فيها دروس تتعلق بتعلم الحروف والحساب بجانب تحفيظ القرآن طبعا.
وإذا كان هذا هو حال التعليم التمهيدي، فقد كانت
هناك مدارس عمومية قليلة تشرف عليها الدولة يسجل فيها التلاميذ في المرحلة
الابتدائية. وقد كان يسجل الكثير منهم دون توفرهم على أية شهادات ميلاد، نظرا لأن
الزواج كان يتم في أغلبه دون وثائق مكتوبة. كما تمت الإشارة إلى الاكتظاظ الذي
كانت تعرفه الفصول الدراسية، بحيث كان عدد التلاميذ يتجاوز الخمسة والأربعين.
هذا فيما يخص المدن، أما فيما يخص البوادي والقرى
فقد واجهت الدولة عدة مشاكل لبناء المدارس في المناطق البدوية النائية؛ منها ما
يتعلق بانعدام الأمن حيث تذكر الرواية مهاجمة مجرمين لمدرسة تتكون من قسم واحد
وذهب ضحيتها أحد المعلمين، ومنها ما يتعلق بصعوبة التضاريس والطرق غير المعبدة،
ناهيك عن ثقافة البدو التي لا تشجع الأبناء على التمدرس.
كما تحكي الرواية عن الصعوبات التي كان يعانيها
تلاميذ البوادي أثناء تمدرسهم، وعلى رأسها تحملهم لمشاق طول مسافة الطريق المؤدية
إلى المدرسة، والتي تزداد صعوبة مع أيام الأمطار والأوحال والظلام، وأيضا اضطرارهم
إلى تناول "غذاء بسيط يتكون من كسرة خبز وقارورة شاي بارد محلى وفي أحسن الأحوال،
وإذا كانت الأمطار سخية، يمكن للتلاميذ جمع الفطر وشوائه فوق النار أو اقتناء علبة
سردين..". (ص38)
أما عن شهادة الابتدائي، فقد كانت تتطلب تحضير
ملف إداري خاص ومعقد كان يمنع الكثير من التلاميذ من اجتيازها ومواصلة مسيرتهم
الدراسية. وقد ساعدت علاقات جد حمادة مع الأعيان والسلطات من تكوين مثل هذا الملف،
واضطر حمادة إلى السفر إلى مدينة خملاش البعيدة لاجتاز امتحان الشهادة الابتدائية،
وقد حالفه الحظ مع تلميذين آخرين في تحقيق النجاح، بينما لم يتمكن التلميذ المتفوق
الساهلي من اجتياز الامتحان نظرا للأوضاع الفقيرة لأسرته التي لم تساعده على تكوين
الملف الضروري لاجتياز الامتحان.
ومن زاوية أخرى ترصد الرواية ظاهرة الأسواق
الأسبوعية في القرى والبوادي، وما لها من قيمة اجتماعية واقتصادية لدى الأهالي.
وقد قدم لنا الراوي وصفا لمختلف المظاهر وأنواع السلوك والطقوس التي تتم دخل هذه الأسواق؛
من قبيل نصب الخيام (القياطين) وبيع الأبقار والأغنام وحركات الحدادين مع قطع
الحديد من أجل تليينها، وعملية تصفيح البغال والخيول، ومنظر الحمير المنتشرة في كل
أرجاء السوق، وقياطين الحجامة وبائعي المبيدات الحشرية وغير ذلك.
تؤرخ الرواية إذن لفترة تاريخية لم يكن أهل
القبيلة يعرفون فيها التلفاز، مما كان يتيح لهم إمكانيات كبيرة للحديث وتمتين
أواصر الروابط الأسرية والاجتماعية. أما الساعات اليدوية فمثلها مثل المذياع لم
تكن تتواجد سوى عند الأعيان وبعض شيوخ القبائل.
ويطال التأريخ أيضا علاقة المخزن المغربي بالقبيلة،
حيث تشير الرواية إلى أن كلمته كانت مسموعة بين الأهالي، كما أن قواته تمكنت من
القضاء على الكثير من أشكال التمرد والعصيان التي تمت في الماضي. وعلي بن القائد
لا زال يتذكر فقدانه "لجده العربي خلال مرحلة عصيان لا زالت منقوشة في ذاكرة
كل أفراد العائلة" (ص41)
وبالعودة إلى مجال التعليم، نجد الرواية تحكي عن
الظروف الصعبة التي عاشها الطفل حمادة وأصدقاؤه من تلاميذ البوادي والدواوير الذين
يتابعون دراستهم الثانوية في مدينة خملاش؛ فقد كانوا يعانون من قلة المؤونة التي
تأتيهم من ذويهم، فضلا عن اكترائهم لبيوت بسومة كرائية تتراوح بين ثلاثة عشر وخمسة
عشرا درهما للشهر الواحد، لا يتوفر فيها كهرباء ومراحيض مما يضطر التلاميذ إلى
قضاء حاجتهم بعيدا عن المدينة وسط النباتات والأشواك. كما كان الخبز يطرح مشاكل
كبيرة بالنسبة للتلاميذ، إذ كانت ربة البيت تتكفل بعجن الطحين وعلى أحد التلاميذ
أن يذهب به إلى الفرن، وبعد ذلك ينتظر طابور المصطفين من أجل الرجوع به إلى
المنزل.
وباختصار، فالتمدرس في السلك الثانوي كان يتطلب
جهادا حقيقيا من طرف التلاميذ النازحين من البوادي، وكان التفوق فيه يقتضي مجابهة
عدة تحديات لا يتمكن من التغلب عليها إلا كل ذي حظ عظيم.
وقد زاد من صعوبة الدراسة أن جل المواد تدرس
باللغة الفرنسية، وأن تعريب بعضها بدأ تدريجيا ومع توالي السنين.
وقد تمت الإشارة إلى الإضرابات التي كانت تعرفها
من حين لآخر الثانويات، وما كان يصاحب ذلك من تخريب وكسر للطاولات والنوافذ ومختلف
المحتويات، ناهيك عن رفع الهتافات الحماسية والشعارات النضالية، مما يضطر العساكر
للتدخل السريع من أجل مقاومة الشغب. لقد كانت الإضرابات تتم انطلاق من فكر ثوري
يستمد مرجعيته من مبادئ الفلسفة اليسارية والماركسية التي تدعو إلى العنف الثوري
من أجل التحرر وتغيير الأوضاع لصالح الطبقات الكادحة، من فلاحين وعمال وطلبة.
وبالعودة إلى أنماط العيش والعلاقات القائمة بين
الأهالي داخل القبائل، نجد في الرواية تصويرا لدور "الشريف" –الذي يعتقد
أنه ينحدر من سلالة النبي- داخل القبيلة، وهو دور يتمثل في أمرين رئيسيين؛ المر
الأول يتمثل في دوره العلاجي للكثير من الأمراض باستخدام طريقة الكي اعتمادا على
منجل يضعه في نار مشتعلة حتى يحمر ثم يمرره على لسانه وينفث الريق في ماء عذب يشرب
منه المريض. ولم يكن يتحدد ثمن العلاج سوى بما يستطيع المريض أن يقدمه من بيض أو
دجاج أو بعض السنتيمات المعدودة. أما الأمر الثاني فيتمثل في دور
"الشريف" في فض النزاعات والخلافات بين الناس، بحيث كانت تحسم داخل
القبيلة ولا يصل أغلبها إلى المخزن خصوصا إذا علمنا بعد الدرك الملكي والمحاكم من
جهة، وصعوبة التضاريس وقلة المواصلات من جهة أخرى.
هناك إشارة في الرواية أيضا إلى سنوات الجفاف
التي كانت تعرفها القبائل من حين لآخر، وكان الأهالي يتعاملون معها بعادات وطقوس
خاصة مثل طقس "تاغونجة" ورفع الصغار والكبار لقصبات تحمل بعض الأنواع من
النبات، وهم يرددون هتافات موزونة طلبا للغيث. هذا فضلا عن الاستعانة بطوطم فطينة
العجوز التي كانت قابلة للنساء.
كما أن هناك إشارة أيضا إلى بعض الأمراض والأوبئة
التي كانت تعصف بالحيوانات، بحيث لا يملك الأهالي أمامها أية حيلة نظرا لغياب أي
إمكانيات علاجية لمواجهتها، فيستعيضون عن ذلك بالنوادر والنكث ويعتبرون ذلك مصيرا
لا يمكن رده.
وفي
الأخير، أود أن أختم هذه المقالة بتقديم لبعض الأقوال المأخوذة من الرواية، والتي
تحمل دلالات وأفكار تعبر عن فلسفة صديقنا حميد السباعي تجاه الحياة عموما، وتجاه
بعض القضايا على وجه الخصوص. فالجميل في رواية "بدايات وما لانهاية" أن
صاحبها لا يكتفي بسرد الأحداث فقط، بل يعمد إلى التعليق عليها من حين لآخر من خلال
جمل وعبارات هي أقرب إلى الحكم والمأثوات، ولذلك فهي تحمل دلالات ومعاني تستحق
فعلا النبش فيها.
وإليكم بعض تلك العبارات:
- "لحية
لا تحمل أخرى إلا للقبر". (ص 26)
-
"الأطفال لا يجدون صعوبات في الاندماج
لأن أقنعة الكبار لم تصنع بعد". (ص 27)
-
"محيط الإنسان جزء من ذاته" ( ص37)
-
"المرغوب ناذر وصعب المنال" (ص 43)
-
"ثمن الحرية باهظ بل لا ثمن لها".
(ص 46)
-
"الأغلبية الساحقة تستحيي من حقائقها
رغم إصرارها على معرفة حقائق الآخرين". (ص 48 )
-
"يتصرف الصغار بعفوية، وتترك الأقنعة
للمستقبل". (ص 49)
-
"مدرسة الشارع مفتوحة للعموم وبالمجان،
وفيها تحبك كل المؤامرات ضد الفرد والمجتمع". ( ص 53)
-
"لا نستحم في النهر إلا مرة
واحدة". ( ص 60)
-
"المقابر أهدأ وأأمن مكان فوق الأرض،
والأحكام الصحيحة تأتي في النهاية لا في البداية". ( ص 61)
-
"الفرق بين المجرد والمجسم كالفرق بين
العدم والوجود". (ص63)
-
"الفرق بين النجاح والفشل شعرة". (
ص 63)
-
"الموت مثل الصفر يعدم كل الأرقام ..إنه
أقوى وأكبر من الحياة..وعدد الأموات أكبر من عدد الأحياء". (ص 63)
-
"ليس ثمة من عذاب للضمير أكبر من عذاب
المنطق، فهو يصنع داخلك الآخر ويجابهك به باستمرار". (ص 68)
-
"الكلب يأكل أخاه". (ص72)
-
"عندما تعم المصيبة فإن وقعها يكون
أقل". (ص72)
-
"الشر والخير كلاهما ماكر، إنهما
متعايشان منذ الأبد ولا يفترقان على الدوام، ولا يستبعد أن يكون لهما نفس
الأصل". (ص73)
- للإنسان
جزء أسود غابر يطفو على السطح من حين لآخر، فيحوله إلى غادر تافه ..وقلما نجد ذلك
عند الحيوان حيث العداء واضح لا تغشيه الأفكار الساحرة". (ص73)
-
"الأيام تديرها الأضداد". (ص73)
-
"ليت شعوبنا طورت علوم المعاش بدل علوم
الريادة التي تفنن فيها الجميع". (الغلاف)
-
"أفضل الصداقات وأمتنها تلك التي تتشكل
في سن المراهقة، سن الأحلام والمثل". (ص76)
وفي الأخير، لا يسعني إلا أن أنوه بسمتين
رئيسيتين لمستهما شخصيا في صديقنا حميد السباعي الفحصي من خلال قراءتي لروايته؛
السمة الأولى تتمثل في اتصافه بذاكرة قوية سمحت له بتتبع دقائق الأشياء ووصف
الكثير من الجزئيات الصغيرة المرتبطة بالأحداث أو الأشياء أو الأشخاص، أما السمة
الثانية فتتمثل في الحس الواقعي الذي ميز سرد الأحداث داخل الرواية، وهو ما سمح
لروائينا فعلا تعرية الكثير من المشاكل والكشف عن العديد من القضايا ووصف مظاهر
متنوعة كان يتخبط فيها مغرب ما بعد الاستقلال، وما يزال بعضها فارضا راهنيته إلى
حدود الساعة. ولعل الروائي، مثله في ذلك مثل الفيلسوف أو رجل الدين أو رجل السياسة
أو المؤرخ أو الباحث في العلوم الإنسانية، يساهم بطريقته القصصية الخاصة في طرح
ومعالجة القضايا والمشاكل التي يتخبط فيها المجتمع على كافة المجالات والأصعدة.
ونتمنى أن نكون من خلال هذا المقال قد أثرنا بعض
تلك المظاهر والقضايا، ونبهنا إليها من خلال المسيرة السردية داخل الرواية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.