إجابة مقترحة عن قولة فلسفية
بقلم: محمد الشبة
* القولة:
« ليست السعادة في الحرية، بل في القيام
بالواجب.»
اشرح مضمون القولة،
وبين أبعاها.
* الموضوع
الإنشائي:
تعتبر السعادة
غاية يتشوق لها كل إنسان؛ فما من شخص إلا ويسلك ويتصرف بهدف تحقيق الراحة الجسدية
والنفسية والعقلية التي من شأنها أن تجعله سعيدا. لكننا نلاحظ أن الناس يسلكون
طرقا مختلفة لبلوغ حالة السعادة، فمنهم من يتوهمها في تحقيق رغباته الحسية
والغريزية، وآخرون ينشدونها في كل ما من شأنه أن يمتع نفوسهم من عبادة أو رياضة أو
فن أو غير ذلك، ومنهم من يجدها في تغذية العقل بالقراءة والمعرفة والبحث العلمي.
وقد تجد من يجمع بين هاته الطرق جميعا، أو يقتصر على بعضها دون البعض الآخر. ولكن
مهما يكن الأمر، فإن بحث الفرد عن السعادة يصطدم بمجموعة من القوانين والقواعد
التي هي بمثابة واجبات عليه أن يقوم بها تجاه أسرته أو في عمله أو تجاه وطنه. وقد
يجد الفرد أحيانا أن هذه الواجبات مساعدة له على بلوغ لحظة السعادة، كما قد يجدها
أحيانا بمثابة عوائق تمنعه من تحقيق السعادة، مما قد يسمح للبعض بالقول أن السعادة
تكمن في التحرر من الواجبات، وتحقيق ما تصبو إليه الذات من رغبات خاصة حتى ولو
كانت تتعارض مع الواجب المفروض عليها من قبل المجتمع. وكل هذا يدفعنا إلى أن
نتساءل: هل تكمن السعادة في التصرف وفقا للواجب أم في التصرف بشكل حر؟ وهل القيام
بالواجب يتعارض مع الحرية؟ ومتى يمكن للواجب
أن يجعلنا سعداء؟ ثم هل يمكن أن نكون سعداء دون أن نكون أحرارا؟
يتعلق موضوع هذه
القولة بمشكلة فلسفية غاية في الأهمية هي مشكلة السعادة،وهي بطبيعة الحال قضية تهم
جميع الناس سواء كانوا فلاسفة أو غيرهم؛ فما من أحد إلا ويسعى في هذه الحياة لكي
يكون سعيدا. ويربط صاحب القولة بين مفهوم السعادة ومفهومين آخرين هما الحرية
والواجب. وهو ينفي أن تكون السعادة كامنة في الحرية، ويؤكد على أنها ترتبط بقيام
الإنسان بالواجب. وهذا ما يستدعي منا توضيح هذه الأطروحة، والبحث عن حجج ومبررات
ممكنة للدفاع عنها، وبعد ذلك العمل على تبيان حدودها عن طريق الكشف عما قد يوجد
فيها من ثغرات، وتقديم حجج أخرى مضادة لها.
وإذا كان موضوع
القولة يتمحور حول مفهوم أساسي هو مفهوم السعادة، فيحق لنا التساؤل أولا عن معنى
هذا المفهوم، وما قد يحمله من معاني ودلالات. فما السعادة؟ وهل يمكن تقديم تعريف
نهائي لها؟ إذا ما تمعنا في القولة يمكن أن نعثر فيها على الجواب التالي: السعادة
هي القيام بالواجب. ومن هنا يربط صاحبها ربطا قويا بين السعادة والواجب، ويمنح
للسعادة طابعا أخلاقيا وقانونيا، مادام أن الواجب هو التصرف وفقا لقواعد وضوبط
وقوانين نشرعها لأنفسنا من أجل تنظيم علاقات الأفراد داخل المجتمع، وضمان تمتعهم
بحقوقهم العادلة والمشروعة. وقد تكون قوانين الواجب عرفية أو سياسية أو أخلاقية.
وفي جميع هذه الأحوال، وانطلاقا من منظور صاحب القولة، فالقيام بالواجب هو ما قد
يجعل الفرد سعيدا. فكيف يمكن للواجب أن يحقق للإنسان السعادة؟ وهل يمكن تصور سعادة
خارج إطار الواجب؟ وإذا كانت السعادة تتمثل في القيام بالواجب وليس في الحرية، فهل
يعني ذلك أن الواجب يتعارض مع الحرية؟ أليست حريتنا تكمن في القيام بواجباتنا؟ وما
هي طبيعة هذه الحرية التي قد تجلب للإنسان الشقاء وتبعده عن السعادة؟
هنا يمكن القول أن
عالم الإنسان هو عالم القيام بالواجب. فإذا كانت الحيوانات تسلك وفقا لدوافعها
الغريزية، فإن الإنسان على العكس من ذلك سعى بعقله وما أنشأه من مؤسسات، كالأسرة
والإدارة والجيش والدولة، إلى أن يشرع لنفسه قوانين تحدد له واجباته وحقوقه في
إطار علاقته بالغير. فكما هو معروف فالواجب والحق هما وجهان لعملة واحدة؛ إذ أن
واجباتي هي حقوق الغير نحوي، وواجبات الغير هي حقوقي نحوه. وهكذا لا يمكن للناس أن
يتمتعوا بحقوقهم المشروعة من حرية وأمن وحياة وملكية وغير ذلك، إلا إذا قام كل
واحد منهم بالواجبات المتعاقد عليها بين الناس داخل المجتمع. ويبدو أنه لا يمكن
للأفراد أن يتمتعوا بالسعادة، كحالة راحة وإرضاء تام للذات، إلا إذا تمتعوا
بحقوقهم المشروعة كالأمن والحرية والملكية مثلا، إذ كيف سنتصور إنسانا سعيدا وهو
يعيش حالة من الخوف والاضطراب، أو يعيش تحت القهر والاستعباد؟ هنا يظهر أن قيام
الناس بواجباتهم وتمتعهم بحقوقهم هو طريق لا بد من أن يسلكوه لكي يكونوا سعداء.
مما يجعل الحديث عن سعادة خارج إطار الواجب هو حديث لا معنى له، لأنه سيعني أن
السعادة تكمن في أن يتصرف كل واحد حسب أهوائه وانطلاقا من حريته الذاتية والمطلقة،
مما قد ينعكس سلبا على حياة الناس، ويؤدي إلى حالة من الخوف والظلم والفوضى وحرب
الكل ضد الكل. ونحن نعلم أن الإنسان لا يمكنه أن ينعم بالراحة والسعادة في حالة
كهاته، مما قد يعني أن السعادة لا تكمن في الحرية المطلقة، بل في حرية نسبية
تنظمها القوانين والواجبات التي تجعل حرية كل فرد تنسجم مع حرية الآخرين. ومن هنا
قد تكون حرية الإنسان متمثلة في التزامه بالواجب، ولي في اتباعه للغرائز، مما يجعل
الحرية القانونية والأخلاقية شرطا لبلوغ السعادة، في حين أن الحرية الفوضوية
والغريزية من شأنها أن تجلب للإنسان التعاسة والشقاء.
وهكذا يتبين أن
قيمة أطروحة القولة، تكمن في تأكيدها على ضرورة القوانين والواجبات من أجل تحقيق
سعادة الفرد داخل المجتمع. فإذا كان الإنسان كائنا اجتماعيا بطبعه كما يقال، فإنه
لا يمكنه أن يكون سعيدا خارج إطار علاقته بالغير والمجتمع. وهذه العلاقة تحكمها
مجموعة من الضوابط والقواعد والمبادئ، والتي نطلق عليها اسم الواجب، مما يعني أن
لا سعادة حقيقية وممكنة إلا في إطار العيش في إطار قوانين إدارية وسياسية
وأخلاقية، إذا ما خرقناها وتجاوزنا حدودها فإننا ولا نشك سنلحق الضرر بأنفسنا أو
بغيرنا أو بالمجتمع الذي نعيش فيه. فالذي يمارس القمار أو يسرق أو يكذب أو يزني أو
يغش في عمله مثلا، فهو يلحق الضرر ولا شك بنفسه وبمجتمعه، وذلك عن طريق عدم
التزامه بالواجبات التي تمنعه من القيام بتلك الأفعال. ومادام أن الخروج عن الواجب
يؤدي إلى أضرار وعواقب وخيمة على الفرد والجماعة، فإنه يؤدي إلى شقاء الإنسان
وتعاسته. مما يجعلنا نؤكد مع صاحب القولة على أهمية القيام بالواجب من أجل بلوغ السعادة التي
ننشدها.
وإذا كانت السعادة ترتبط بالواجب، فإنها ولا
شك ترتبط بمدى امتثالنا للأوامر والنواهي الصادرة عن عقلنا أو ضميرنا الأخلاقي.
ولذلك رأى أرسطو أن السعادة ترتبط بالفضيلة وبالأفعال المطابقة للمبادئ الأخلاقية
العليا، فالحياة السعيدة في نظره هي التي يحياها المرء وفقا للفضيلة. وإذا كانت الغرائز
هي مما يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، فإنه وجب البحث عن السعادة في الجانب الذي
يخص الإنسان وحده، وهو المتمثل في العقل والفكر. وبذلك فالسعادة تكمن في ما هو حق
وخير وجميل، أي في القيام بالواجبات والتحلي بالفضائل الأخلاقية التي يسنها العقل
الأخلاقي. وفي نفس السياق نجد الفلسفة الرواقية تعتبر في شخص الفيلسوف سينيكا أن السعادة تتمثل في
التحرر من سيطرة الرغبات والأحاسيس الغريزية الحيوانية، وذلك عن طريق الاستعمال
السليم للعقل الذي من شأنه أن يمكننا من معرفة حقيقة الذات الإنسانية، ويجعلنا
نصدر قرارات عقلية صحيحة حول الأشياء يكون مصدرها هو العقل السليم. كما تتمثل
السعادة أيضا في الاستقامة ونهج السلوك الأخلاقي الفاضل، وعدم المبالغة في التفكير
في المستقبل، والقناعة بما تحقق في الحاضر. من هنا فالسعادة هي تعقل للرغبات،
وتحرر من سيطرتها وسلطتها عن طريق الاستعمال السليم للعقل.
وهكذا يتبين أن تصور السعادة من
منظور كل من أرسطو وسينيكا ينسجم إلى حد كبير مع ما ذهب إليه صاحب القولة؛ إذ جميعهم
يربطون السعادة بالقيام بما يأمرنا به العقل من واجبات أخلاقية، وينفون أن تكون
السعادة كامنة في التصرف بحرية وفقا للأهواء والرغبات الغريزية. ولعل التجارب التي
نعيشها في الحياة تؤكد إلى حد كبير أن التصرف وفقا للواجب الأخلاقي يجلب لصاحبه
الكثير من الراحة والمنفعة، ويجنبه التعاسة والمضرة. فالشخص الذي يقوم بواجباته
تجاه أسرته أو في عمله، يساهم ولا شك في خلق السعادة لأبنائه وزوجته أو إخوته، كما
يساهم في إسعاد الآخرين حينما يقدم لهم خدمات من خلال التزامه بواجباته المهنية.
وعلى العكس من ذلك، فإن تحرره من الواجبات العائلية والمهنية واتباعه لأهوائه، على
اعتبار أنها في نظره حرية، سيجعله يلحق الأذى ويجلب الشقاء لنفسه ولعائلته
ولمجتمعه. وهذا ما يؤكد أهمية ربط السعادة بالواجب، والتأكيد على العلاقة الوطيدة
والحميمية الموجودة بينهما.
وإذا كان بعض الفلاسفة قد ربطوا
السعادة بالواجب، فإنه يمكن القول أن الناس يريدون أن يكونوا محبوبين بشكل تلقائي،
وليس عن طريق الإجبار والإكراه الذي يمثله الواجب. ولذلك اعتبر الفيلسوف راسل أن
الإحساس بالواجب يكون مفيدا في العمل، ولكنه يكون عدائيا في العلاقات الإنسانية.
فالإحساس بالسعادة يكون ممكنا من خلال الاهتمام التلقائي والودي بالناس، ولا يكون
نابعا من خلال التعامل معهم فقط انطلاقا من الإكراه الصادر عن الواجب.
وإذا كنا لا نمانع في أن الحرية
ترتبط بالواجب، فإنه يجب علينا أن ندقق قليلا في طبيعة هذا الواجب. ذلك أن ما يسمى
بالواجب لا يكون دائما صادرا عن إرادة خيرة أو نية طيبة؛ فقد يكون الواجب عبارة عن
قوانين صادرة عن دولة مستبدة أو طاغية، أو قد يكون عبارة عن قيم أخلاقية بالية، أو
قواعد عرفية متخلفة تقيد الفرد ولا تمكنه من تحقيق ذاته والتمتع بحقوقه المشروعة،
وفي مقدمتها طبعا حق الحرية. وهكذا يكون الخضوع للواجب في هذه الحالة منافيا
لكرامة الإنسان وحريته ومتعارضا مع حقوقه المشروعة، فكيف يمكن للمرء أن يكون سعيدا
وهو يرزح تحت ثقل واجبات ظالمة ومستبدة؟ هنا يمكن أن نعتبر مع شيشرون أن القوانين
المستبدة لا يمكنها أن تكون عادلة، ولا يمكن بالتالي أن تكون الواجبات الصادرة
عنها قادرة على أن تجعلنا سعداء وأحرارا. وربما أن التحرر من تلك الواجبات والثورة
عليها هو الذي من شأنه أن يجعلنا نبلغ الحياة الكريمة والسعيدة.
وإذا اعتبرنا مع نيتشه مثلا أن الواجبات ذات
منشإ تاريخي وتجاري، إذ هي عبارة عن عقوبات صادرة عن الأقوياء ضد الضعفاء، فإن
الواجب في هذه الحالة سوف لن يسعد سوى الذي يأمر به وهو القوي، أما الضعيف فإنه
سيعيش تحت ضغوطاته وإكراهاته، مما سيجلب له التعاسة والشقاء. من هنا وجب الحذر من
الوقوع تحت سيطرة الواجبات المفروضة بالقهر والتسلط، إذ لا يمكنها أن تحقق لنا
السعادة التي ننشدها. ولهذا لا بد من أن يكون الواجب متضمنا لفكرة الحرية، لكي
يكون قادرا على إسعادنا. ولهذا، إذا كانت الحرية الغريزية والبهيمية تتعارض فعلا،
كما أشار صاحب القولة، مع السعادة، فإن الحرية المقننة وفقا لقوانين وقواعد
ديمقراطية وعادلة وأخلاقية من شأنها أن تجلب للإنسان السعادة. وهذا يجعلنا نستنتج
أن السعادة لا تتعارض مع الحرية بمعناها الصحيح، كما يجعلنا نستنتج أن الحرية لا
تتعارض بالضرورة مع فكرة الواجب، إذ أن الحرية بمعناها الإنساني الحقيقي تتمثل في قيامنا
بواجبات نشرعها لأنفسنا، وتكمن في قوانين نضعها بشكل ديمقراطي لكي نجعل حريات
الأفراد منسجمة فيما بينها. وهذا الانسجام المرتبط بالقوانين والواجبات هو الذي
يعبر عن حريتنا، ويضمن لنا التمتع بحقوقنا وبالسعادة التي ننشدها. وهكذا يمكن
للسعادة، انطلاقا من هذا المنظور الأخير، أن تكمن في الجمع بين الحرية والواجب
معا، مادام أن القيام بالواجب لا يتنافى دائما مع حرية الإنسان، ومادام أن السعادة
غير ممكنة خارج عالم الواجبات التي نسنها لأنفسنا انطلاقا من اختيارنا الحر، ومن
أجل بلوغ الغايات الإنسانية التي ننشدها.
وفي الأخير يمكننا أن ننتهي إلى
أن التمتع بالسعادة لا يمكنه أن يتم خارج إطار الالتزام بالواجب، كما لا يمكنه أن
يكون ممكنا دون التمتع بحرياتنا المشروعة. ولهذا علينا أن نجعل الواجب يعبر عن
حريتنا في الامتثال لما هو صالح لنا، وما شرعناه لأنفسنا بشكل حر وديمقراطي. وهذا
ما من شأنه أن يجعلنا نحقق سعادة غير متعارضة مع الحرية، وغير متنافية مع الواجب
في الآن ذاته. لكن ألا يمكن القول بأننا لا ندرك سوى سعادة نسبية، وأن درجتها
تختلف بحسب درجة تمتعنا بحرياتنا من جهة، وبحسب طبيعة الواجبات التي نشرعها
لأنفسنا من جهة أخرى؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.