السبت، 29 أكتوبر 2016

حدس الفيلسوف

في تميز الفيلسوف بحدس أصيل ومتفرد

بقلم: محمد الشبة





إذا كان الاختلاف هو سمة تميز التفكير الفلسفي، فإنه لعمري اختلاف تكامل وإغناء وليس اختلاف تناحر وإقصاء؛ ذلك أن تعدد المقاربات الفلسفية لنفس المسألة هو إقرار بنسبية الفكر، ووعي بحدود الفهم، ورغبة جامحة في تقليب الأمور على أوجهها المتعددة من أجل استكشاف خباياها واستنطاق مجاهلها، خصوصا أن المسائل الفلسفية عويصة، وادعاء استنفاذ البحث فيها هو محض افتراء.

إن حقل الثقافة الفلسفية إذن هو حقل المساءلة والنقد والدهشة وخلخلة البديهيات، والكشف عن الأوهام التي تتأسس عليها الكثير من القطعيات واليقينيات عبر التاريخ. ولذك كان الفيلسوف يتموقف دائما من الماضي، فلسفيا كان أو غير ذلك، وكانت تحذوه الرغبة دائما لإضافة لبنات جديدة إلى ما شيده الآخرون، لكن ذلك كان يتم انطلاقا من هندسة جديدة تنم عن إبداع فكري ذاتي وأصيل. ولهذا السبب لا تجد فيلسوفا يقلد آخرا أو ينسج على منواله، فقد يكون المبتغى واحدا متمثلا في إدراك الحقيقة إلا أن سبل الوصول إليه وعرة وغير متماثلة. والفيلسوف يعبر دائما عن تواضعه في اقتراح خرائط للطريق إلى الحقيقة، لأنه يدرك بوعيه الفلسفي أن اقتراحه ذلك هو ممكن من بين ممكنات متعددة.

وإذا عدنا للبداية الأولى مع طاليس، أمكننا الإشارة إلى أن مفترق الطرق تميز مع هذا الفيلسوف الملطي وتلامذته من الأيونيين، في اقتراح تفسير جديد للكون والظواهر يرتكز على العقل وليس على الخيال من جهة، ويرتكز على حدس فلسفي يتمثل في القول بأن الكل واحد؛ هذه الفكرة الأخيرة لم تكن نتاج تفكير خيالي كما أنها لم تكن ناتجة عن تجريب علمي، وإنما كانت متولدة عن حدس فلسفي خالص جعل طاليس أول الفلاسفة. ولذلك فصدور مثل هذه الحدوس العقلية في تفسير مظاهر الوجود والحياة، هو ما ميز الممارسة الفلسفية منذ اليونان إلى الآن؛ فلكل فيلسوف حدسه الأساسي الذي تنبني عليه كل أفكاره الأخرى وتتمحور حوله كل نظرياته المختلفة. وحينما نقول بمقهوم الحدس لتفسير الممارسة الفلسفية، فإننا لا نعني أن الفكرة ترد على الفيلسوف فجأة وبنوع من الإلهام الصوفي، بل إن الحدس الفلسفي المقصود هنا هو محصلة جهود متوالية للفيلسوف من جهة، كما أنه حدس مؤسس له ومبرهن عليه عقليا وحجاجيا. وفي هذا السياق يمكن اعتبار القول بوحدة الوجود وثباته حدسا بارمنيديا، والقول بالصيرورة والتغير حدسا هيراقليطيا، والقول بالمثل حدسا أفلاطونيا، والقول بالكوجيطو حدسا ديكارتيا، والقول بالجوهر الواحد حدسا سبينوزيا، والقول بإرادة القوة حدسا نيتشويا، والقول بالروح المطلق حدسا هيجيليا … وهكذا دواليك. وكل هذه الحدوس الفلسفية وغيرها هي حدوس مبرهن عليها داخل نسق الفيلسوف أو فكره، كما أنها نتاج إبداع لقريحته الفلسفية. والقارئ الذي يدرك بدقة حدس فيلسوف ما، ويفهم جيدا الأسس التي انبنى عليها، يتمكن ولا شك من فهم باقي أفكاره ونظرياته المتعلقة بمسائل شتى خاض غمار البحث والتنقيب فيها.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.