تأملات تساؤلية حول مفهوم
"السؤال المسؤول"
عند طه عبد الرحمن
بقلم: محمد
الشبة
للمزيد من المقالات انظر كتابنا أعلاه
1- من أجل شكل ثالث من أشكال السؤال الفلسفي:
إذا كانت الفلسفة تفكيرا تساؤليا،
وإذا كان السؤال هو أداة رئيسية لإنتاج الأفكار داخل الخطاب الفلسفي، حتى اعتبر
فيلسوف معاصر ككارل ياسبرز أن السؤال في الفلسفة أهم من الجواب، وأن كل جواب يصبح
بدوره سؤالا جديدا، فإننا نجد الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن يميز في
تاريخ الفلسفة بين نوعين رئيسيين من السؤال؛ يختص أحدهما بالعصر اليوناني القديم،
وهو سؤال الفحص الذي جسده سقراط والذي كان يروم اختبار أفكار المحاور وإفحامه،
وذلك بالكشف عن التناقض الكامن في أجوبته المختلفة، ويختص الآخر بالعصر الأوروبي
الحديث، وهو سؤال النقد الذي يعتبر إيمانويل كانط خير ممثل له، وقد كان نقدا موجها
ليس فقط إلى المعرفة التي ينتجها العقل بل ينتقد العقل نفسه مستهدفا الوقوف عند
حدوده في إنتاج المعرفة.
وإذ ميز طه عبد الرحمن بين هذين
الشكلين من أشكال السؤال كما مورسا في تاريخ الفلسفة، فإننا نجده بعد ذلك يدعو إلى
تجاوزهما من أجل إحداث شكل ثالث من أشكال السؤال الفلسفي؛ وهو الذي سماه ب"السؤال
المسؤول"، والذي هو عنده «شكلا جديدا من السؤال يناسب ما يلوح في الأفق من
مآلات الحداثة».(1) وما يلاحظ هنا هو أن هذا الفيلسوف المغربي يجتهد في نحت
مفهوم جديد هو مفهوم "السؤال المسؤول"، والذي يجعله –سواء اتفقنا معه
حول ما يحمله هذا المفهوم من معاني ورهانات أو اختلفنا معه في ذلك- رجلا متفلسفا
بحق، إذا ما اعتبرنا أن لا تفلسف بدون ابتكار للمفاهيم ولا قدرة على ممارسة
الفلسفة بدون نحت للمصطلحات كأدوات لبناء الأفكار وتوليدها، حتى اعتبر فيلسوف
معاصر كجيل دولوز ومن ذهب مذهبه أن الفلسفة هي فن ابتكار المفاهيم. وما يلاحظ أيضا
حول هذا المفهوم الطهائي هو أنه يحمل دلالة أخلاقية واضحة، وذلك أن المحمول
"مسؤول" الذي يحمل على الموضوع "سؤال" هو مشتق من
"المسؤولية" التي تمنح لهذا الشكل الجديد من السؤال طابعا أخلاقيا غير
خفي على الناظر، مما يجعل التفلسف بموجب هذا المنظور الطهائي مرتبطا بالتخلق؛ إذ
لا معنى لطرح السؤال بدون أن تتحمل الذات مسؤولية الجواب عنه أولا، قبل أن تبحث عن
جواب عنه لدى الآخر ثانيا. وإذا دققنا النظر وجدنا أن طه عبد الرحمن يراهن على هذا
الشكل من السؤال من أجل أن ينظر لحداثة يبدو أنها تلوح له في الأفق الآتي، سواء
القريب أو البعيد، وهي حداثة يريدها أن تكون أخلاقية مثلما أن السؤال المرتبط بها
هو سؤال مسؤول وأخلاقي. وهذا يعني أنه يوجه نقدا للحداثة الأنوارية الأوروبية التي
دشنها الكوجيطو الديكارتي ابتداء من القرن السابع عشر، وتعمقت مع المنجزات الفكرية
والسياسية والعلمية والتقنية التي عرفتها المجتمعات الأوروبية في القرنين الثامن
عشر والتاسع عشر، وظهرت نتائجها بشكل جلي خلال القرن العشرين.
2- هل توجد شروط
تاريخية فعلية لقيام "حداثة أخلاقية" ؟
وإذا كان الأستاذ طه عبد الرحمن
يذهب إلى اعتبار أن "السؤال المسؤول" «يناسب ما يلوح في الأفق من مآلات
الحداثة»، فإنه يبدو أنه سؤال يرتكز على نقد أخلاقي لما آلت إليه الحداثة الغربية،
وما نجم عنها من آثار سلبية ومدمرة للروح البشرية وللعلاقات الإنسانية، كما أنه
يبشر بحداثة مأمولة يريدها هذا الفيلسوف المغربي أن تكون بديلا عن الحداثة
الغربية. لكن في الوقت الذي نجد أن هذه الأخيرة كانت وليدة لمجموعة من الشروط
الموضوعية والواقعية التي أنتجتها، والتي جعلتها قادرة على أن تحدث تغييرا كليا
وجوهريا في حياة المجتمعات الأوروبية ونقلها إلى أطوار حضارية متقدمة، فإننا نجد
أن هذا الطور "الأحدث" من الحداثة الذي يبشر به طه عبد الرحمن يفتقد إلى
مثل هذه الشروط الواقعية والفعلية التي من شأنها أن تجعلها أمرا واقعا وذا آثار
ملموسة على كافة مستويات ومناحي الحياة العامة للناس.
وإذا كانت الحداثة الأنوارية
الغربية قد تطورت مع مرور الزمن وأفرزت نقدا مضادا لها، ومن داخل المنظومة الفكرية
الغربية ذاتها، وهو ما أدى إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة نعتت ب "ما بعد
الحداثة"، فإنه يبدو أن الأستاذ طه عبد الرحمن يأمل في حداثة لا يمكنها أن
تنبت في أرض المجتمعات الغربية، باعتبار أن هذه الأخيرة لم تستطع سوى أن تنتج
تيارات تنتقد سلبيات ومنزلقات وحدود العقل الأنواري والحداثة المرتبطة به، دون أن
تتخلص من الأسس الفلسفية العميقة والمنطلقات العلمية الأساسية التي تحكمت في تشكل
هذا العقل. وهكذا فالحداثة الغربية تنتج دوما، ومن داخل منظومتها المعرفية الخاصة،
تيارات نقدية تتوخى تطويرها وتصحيح مسارها من أجل ارتياد آفاق إنسانية أفضل.
وإذا كانت "الحداثة
المسؤولة"، على غرار "السؤال المسؤول"، لم تنبت في أرض الأمم
الغربية، الأوروبية أو الأمريكية، ولا حتى في غيرها من المجتمعات والشعوب، فهل
يمكن القول أن واقع المجتمعات الإسلامية أو العربية الإسلامية مؤهل لإفراز مثل هذه
"الحداثة الأخلاقية" المأمولة؟ وإذا كانت الحداثة الغربية قد ظهرت نتيجة
شروط تاريخية محددة، فهل تلوح في أفق المجتمعات العربية -على أساس أنها لا تتوفر
فيها الآن- شروط تاريخية تسمح بإفراز حداثة بمواصفات عالية الجودة أخلاقيا وعلميا
وسياسيا واقتصاديا، تكون قادرة على منافسة الحداثة الغربية وتجاوزها؟ وإذا
افترضنا، مع العلم أنه يوجد بون شاسع بين الأمر المفترض والأمر الواقعي، أن هذا
المطمح قابل للتحقق الفعلي داخل الفضاء السوسيوثقافي للمجتمعات العربية الإسلامية،
فهل يمكن بلوغه دون الدخول في حوار وتفاعل وتثاقف مع منتجات الحداثة الغربية، بشكل
يسمح بالاستفادة من أجمل وأفضل ما فيها، أم أن بلوغ مثل هذه الحداثة
"الأخلاقية المسؤولة" لا يمكنه أن يحدث إلا بالقفز على منجزات الحداثة
الغربية ورفض منتوجاتها الفكرية والسياسية والروحية والعلمية؟ وهل هذا الرفض ممكن
في ظل الواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم؟ ومن ناحية أخرى؛ ألا يمكن القول
بأن الحداثة الغربية تتضمن عناصر علمية وفكرية هي نتاج لجهود ساهمت بها مختلف
الأمم والشعوب الإنسانية، بما فيها الأمة العربية الإسلامية؟ وإذا كان الأمر كذلك،
فإنه يبدو أن خلق أي تطور حضاري أو بلوغ أي حداثة في المستقبل لا يمكنه أن يتم سوى
بالارتكاز على عناصر ومكونات توجد داخل الحداثة المسماة "غربية"، دون أن
يعني ذلك عدم التعامل معها بحس نقدي يسمح بتثمين وتطوير محاسنها من جهة، وتجاوز
عيوبها ومساوئها من جهة أخرى.
وهكذا يجد المتأمل والمتفحص أن مثل
هذه الأسئلة تطرح صعوبات وتثير تحديات أمام بلوغ مستوى الحداثة التي تتناسب مع
طبيعة "السؤال المسؤول"، والذي يريد له طه عبد الرحمن أن يكون من بين
الأدوات العقلية الأساسية لإنتاج فكر فلسفي أحدث أو أكثر حداثة.
3- هل فعلا أن السؤال
السقراطي سؤال "غير مسؤول" ؟!
وإذا عدنا إلى سؤال
"الفحص" السقراطي، الذي ظهر إبان الطور اليوناني القديم، فإننا نجده من
المنظور الطهائي سؤالا "غير مسؤول"؛ وآية ذلك أنه في نظر مفكرنا المغربي
سؤال يفحص موضوعه ويتساءل عنه، لكنه لا يفحص وضعه كسؤال ولا يتساءل حول السؤال
ذاته. فالفيلسوف سقراط، من هذا المنظور الطهائي، يعتقد في السؤال ولا يضعه موضع
سؤال؛ فهو فيلسوف يسأل ولا يتوقف عن طرح السؤال، كما أنه يقذف بالسؤال في وجه
الآخر المحاور، منتظرا منه إجابات محددة لا تلبث أن تتحول هي بدورها إلى أسئلة
تكاد تكون لامتناهية. وبهذا المعنى فالسؤال السقراطي، حسب طه عبد الرحمن، يجعل
صاحبه غير مسؤول عن تقديم أجوبة عن الأسئلة التي يطرحها! «فيكون وحده السائل
والمجيب غيره»،(2) وهذا ما يستدعي تجاوز سؤال "الفحص" إلى سؤال
آخر هو "السؤال المسؤول" الذي يكون بموجبه الفيلسوف مسؤولا عن كل
أفعاله، بما في ذلك تلك الأسئلة الفلسفية التي يطرحها. وهذا ما يجعله مطالبا
بالإجابة عن الأسئلة التي يطرحها قبل أن يطالب غيره بالإجابة عنها. كما أنه مطالب
بإدراك الأسباب التي تجعله يطرح الأسئلة، ومعرفة الغايات المتوخاة من طرحها. ومن
ناحية أخرى، فالفيلسوف السائل هنا، وبحكم مسؤوليته عن الأسئلة التي يطرحها، فإن
عليه أن لا يطرح كل الأسئلة التي تخطر له في الذهن، بل إن عليه أن لا يسأل إلا عما
يكون ملزما بالإجابة عنه من أسئلة؛ فإذا كان يتمتع بحق السؤال، فإن على عاتقه أيضا
واجب الجواب.
ومن هنا نجد أن طه عبد الرحمن
يستنتج أن «الأصل في الفلسفة ليس –كما اشتهر- "السؤالية"، وإنما
"المسؤولية".»(3) وهذا ما يلزم الفيلسوف بالجواب عن الأسئلة التي
تحيط بوجوده، أو يلقي بها الغير إليه، وهو إلزام أخلاقي يجعل "السؤال
المسؤول" ذا بعد أخلاقي، ويجعل التفلسف تخلقا.
لكن إذا رجعنا إلى الممارسة
الفلسفية السقراطية، كما تجسدت في المحاورات الأفلاطونية، فإننا نجد أن سقراط لا
يطرح الأسئلة من أجل الأسئلة نفسها، أي من أجل طرحها في حد ذاتها، بل إننا نجده
يبذل جهودا مضنية وسيزيفية من أجل الإجابة عنها. وإذا كنا نجد سقراط يلقي بالأسئلة
على الآخر المحاور، فإنه في الواقع يطرحها على نفسه أولا قبل أن يلقي بها في وجه
الآخر، وبالتالي فالتفلسف السقراطي هو نوع من التساؤل المونولوجي الذي يحدث بداخل
الذات أولا، ويتمظهر من خلال التحاور مع الآخر ثانيا. فنموذج التفلسف السقراطي لا
يجعل صاحبه سائلا فحسب، بل إنه يجعله "مسؤولا" أيضا عن البحث عن كل
السبل الممكنة للظفر بالجواب. وإذا كان الفيلسوف لا يظفر في كل الأحوال بالجواب
الحاسم والنهائي عن كل الأسئلة التي يطرحها، فإن ذلك يخرج عن إطار
"مسؤولية" الفيلسوف، ويصبح متعلقا بطبيعة السؤال نفسه؛ إذ لا يستطيع
العقل البشري أن يجيب عن كل الأسئلة التي يطرحها، لكنه مع ذلك –وبحكم طبيعته لا
يمكنه أن يتغاضى عنها أو يمنع نفسه من طرحها. وإذا كان سقراط يتوجه بالسؤال إلى
الآخر المحاور، فإنه يبتغي من وراء ذلك التعاون معه على الجواب عن الأسئلة التي
يطرحها الوجود الإنساني على جميع الناس، وإن كان الفيلسوف هو أكثر من غيره إحساسا
بها وانتباها إليها.
وهذا ما يجعلنا نستنتج أن سؤال
الفحص السقراطي ليس سؤالا غير مسؤول معرفيا وأخلاقيا، كما أنه ليس سؤالا يعتقد
السؤال في حد ذاته، بل إنه يتوخى من جهة فحص درجة صحة المعرفة لدى الآخر، كما أنه
يسعى من جهة أخرى إلى الحصول على المعرفة اليقينية بصدد المشكلات الأساسية التي
تكتنف وجود الذات، كما تكتنف وجود الآخر. وبهذا المعنى، فالممارسة التفكيرية
السقراطية، وإن كانت قد اشتهرت ب "السؤالية"، فإنه لا ينبغي أن ننفي
عنها اتصافها أيضا ب "المسؤولية"؛ مادام أن سقراط لا يكتفي بطرح الأسئلة
على الآخرين فقط، بل إنه يطرحها على نفسه قبل أن يطرحها عليهم، كما أنه يساعدهم
على الإجابة عنها، ويبدو أكثر حرصا منهم على الظفر بجواب محدد عنها.
وإذا كنا نجد أن الحوارات
السقراطية لا تنتهي، في الغالب، بالحصول على مثل هذا الجواب المأمول، فإن هذا لا
يعود إلى نقص في "المسؤولية" التي يتوخى أن يتصف بها الفيلسوف، بل إن
ذلك يرجع إلى صعوبة تلك الأسئلة وتشعبها، بحيث لا يصل الفيلسوف في الغالب إلى جواب
واحد جامع مانع عنها. غير أن عدم العثور على جواب نهائي لا يعني السقوط في نوع من
العدمية السؤالية، بل إن مداومة الأسئلة وتتاليها تتخلله لحظات يتم فيها الوقوف
عند أجوبة جزئية أو مؤقتة أو محتملة، تجعل الذهن منفتحا ومتيقظا وحذرا من الوقوع
في الأوهام والأخطاء والأباطيل.
4- هل النقد الكانطي يعتقد في نقده وغير مسؤول عنه؟!
وإذا عدنا إلى "سؤال
النقد" الذي تعتبر فلسفة كانط خير مثال عليه، فإننا نجد طه عبد الرحمن يعتبره
هو الآخر نقدا "غير مسؤول"، لأن كانط في نظره وإن كان قد وجه نقده إلى
العقل، فإنه لم ينتقد هذا النقد ذاته للعقل، ولذلك فهو «نقد يعتقد نقده ولا ينتقده.»(4)
ومن هنا ينفي مفكرنا المغربي عن النقد الكانطي صفة "المسؤولية"،
وبالتالي صفة "الأخلاقية"، لأنه يتخذ النقد كمعتقد، بينما "النقد
المسؤول هو الذي لا يركن إلى الاعتقاد في نفسه، فضلا عن عدم الركون إلى الاعتقاد
في وسيلته التي هي العقل، وإنما يمارس النقد على نفسه كما يمارسه على منقوده وعلى
وسيلته العقلية، فهو إذن ليس بنقد معقود يخشى انعطافه بالضرر كما هو شأن السؤال
بلا مسؤولية، وإنما هو نقد منقود يؤمن جانبه، بل يرجى نفعه.»(5) لكننا
نتساءل من جانبنا؛ هل فعلا أن الفيلسوف كانط يعتقد في مطلق النقد؟ وهل صحيح أن هذا
الفيلسوف الألماني كان يمارس النقد من أجل النقد، وبدون أية "مسؤولية"؟!
الواقع أن ما نعرفه بشكل أكيد عن
كانط هو أنه قام بعمل نقدي أساسي وهام في تاريخ الفلسفة، تمثل في نقده للعقل
الفلسفي الميتافيزيقي كما تجسد في تاريخ الفلسفة الأوروبية، بحيث أنه كان نقدا
نابعا من "مسؤولية تاريخية" حتمت على فيلسوف ككانط النظر في الكيفية
التي كان يشتغل بها العقل الفلسفي السابق، وذلك من أجل الكشف عن طريقته في إنتاج
المعرفة من جهة، وتبيان حدوده في إنتاجها من جهة أخرى. فكانط، والحالة هاته، لم
يكن يمارس النقد من أجل النقد، كما أنه لم يتخذ النقد كمعتقد، بل كان يتخذه كوسيلة
لبلوغ أهداف محددة تمليها عليه "مسؤوليته" التاريخية والفكرية كمثقف
وكفيلسوف. وبهذا المعنى فالنقد لم يكن عند كانط مذهبا أو "عقيدة"، بل
كان أداة لتجاوز الطريقة التي كان يعمل بها العقل الفلسفي السابق، وبالتالي
التأسيس لطريقة أخرى أكثر فائدة وإيجابية. ويتجلى هذا مثلا في إظهار كانط أن تفكير
العقل في الموضوعات الميتافيزيقية، كوجود الله وبداية العالم وخلود النفس، هو
تفكير لا طائل منه مادام أن العقل لا يصل بصدد هذه الموضوعات والقضايا
الميتافيزيقية إلى أجوبة حاسمة، بل إنه يظل يتخبط بصددها في مجموعة من المتناقضات
التي لا حل لها من الناحية العقلية والمنطقية. ولهذا نجد كانط يقرر أن
الميتافيزيقا هي موضوع اعتقاد أخلاقي أو ديني أو قلبي، وليست موضوع بحث عقلي أو
علمي أو معرفي؛ فبإمكاني أن أقول انطلاقا من الإيمان الخلقي : "إنني واثق
أخلاقيا من أن ثمة إلها"، لكنني لا أستطيع أن أقول منطقيا أو علميا: "إن
الله موجود". ومن هنا فقد جعل كانط العقل النظري سبيلا إلى العلم، بينما جعل
العقل الأخلاقي العملي سبيلا إلى الإيمان.
لقد كان كانط إذن يدرك جيدا أهمية
القيام بنقد داخلي للعقل الفلسفي، ولذلك فهو لم يكن هائما في وادي النقد، لا يلوي
على شيء، كما يوهمنا المنظور الطهائي، بل كان بحكم حسه الفلسفي والأخلاقي مطلعا
بمسؤولية فرضتها عليه الظرفية التاريخية لعصر الأنوار، الذي هو كما نعلم عصر النقد
بامتياز؛ بحيث راح فيه الفلاسفة والمفكرون يراجعون أفكار وأساليب التفكير
الماضوية، وذلك من أجل تجاوزها نحو تأسيس أفق فكري أرحب وخلق فضاء مجتمعي أفضل.
ولهذا فقد كان "سؤال النقد" الكانطي سؤالا مسؤولا يرجى نفعه، بحيث وضع
حدودا فاصلة بين العقل النظري والعقل العملي أو بين العلم والإيمان، وجعل لكل
منهما مكانته ومجال اشتغاله، وأبرز ضرورتهما وأهميتهما معا داخل حياة الكائن
البشري.
5- كيف يمكن للفيلسوف
العربي "الجديد" أن يكون في مستوى مسؤولية سقراط وكانط ؟
وإذا تبين لنا أن كلا من سقراط،
فيلسوف الطور اليوناني القديم، وكانط، فيلسوف الطور الأوروبي الحديث، قد تفلسفا
بشكل مسؤول، وقد كان لتفلسفهما أثرا إيجابيا في تاريخ الفكري الفلسفي لا يخفى على
أي ناظر متفحص، فإن الرهان الذي ينبغي التفكير فيه الآن هو؛ كيف بإمكان
"الفيلسوف العربي الجديد"، وهو تعبير يستخدمه طه عبد الرحمن، أن يكون في مستوى المسؤولية التاريخية المنوطة
به، وكيف بإمكانه أن يقدم نموذجا لتفلسف عربي أصيل ومسؤول ومرتبط بقضايا الراهن
العربي؟ وإذا كان سقراط قد تفلسف من منطلق مسؤوليته كفيلسوف أراد تخليص الفكر
اليوناني من الأساطير والمعتقدات الباطلة،
وإذا كان كانط قد اطلع بمسؤولية نقد العقل الفلسفي بغية تصحيح طريقته في التفكير
وجعلها أكثر جدوى وفعالية، وهو ما جعل هذين الفيلسوفين في مستوى ما هو مأمول منهما
تاريخيا، فهل سيكون "الفيلسوف العربي الجديد" في مستوى طرح الأسئلة
التاريخية الحقيقية النابعة من الظرفية الاجتماعية التي تعيشها المجتمعات العربية
اليوم؟ وإذا كان سقراط وكانط، وغيرهما من الفلاسفة الأوروبيين، قد طرحوا بحرية
الأسئلة التي يلزم طرحها ويلزم الجواب عنها، أي تلك التي فرضتها عليهم الحاجة
التاريخية والاجتماعية، فهل نأمل في بزوغ جيل من "الفلاسفة العرب الجدد"
يكون قادرا على التفلسف الصحيح والمبدع، وذلك بامتلاكهم القدرة على الانتباه إلى
الأسئلة الحقيقية لمجتمعاتهم وتجسيدها في أشكال مختلفة من التفلسف؟ وهل ممارسة
الإبداع الفلسفي من خلال الارتباط بقضايا مجتمعاتنا، لا يكون بالضرورة إلا من خلال
القطع النهائي مع أساليب التفكير الفلسفي الغربي؟ ألا يمكن استثمار مفاهيم ومناهج
الفلسفة والعلوم الغربية، باعتبارها إرثا إنسانيا، والعمل على تبيئتها والاستئناس
بها من أجل التفكير في قضايانا الفكرية والسياسية والاجتماعية؟
ليس المقام لكي نفصل في الإجابة عن
هذه الإشكالات، ولكن نكتفي بالقول إن الانغلاق على الذات لا يمكن أن يكون هو
السبيل إلى الإبداع الفلسفي، بل شرط هذا الإبداع هو الدخول في حوار مع الآخر
والاستفادة من أجمل ما عنده من جهة، كما يلزم من أجل التخلص من التبعية وتحقيق
طموح الإبداع أن يكون "الفيلسوف العربي الجديد" قادرا على ابتكار مناهج
ونحت مفاهيم خاصة به؛ تتناسب مع ما تتيحه له أساليب اللغة العربية، وتتوافق مع ما
يزخر به الحقل التداولي الفكري والاجتماعي العربي من جهة أخرى.
هوامش :
1- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي
العربي، الطبعة الثانية 2009، ص14.
2- نفسه، ص15.
3- نفس المصدر والصفحة.
4- نفسه، ص14.
5- نفسه، ص16.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.