الاثنين، 17 أكتوبر 2016

كتاب "مجزوءة الإنسان للأولى بكالوريا"

صدر كتاب مجزوءة الإنسان للأولى بكالوريا سنة 2012، وأعيد طبعه سنة 2014. وهو يتضمن تجاربي المتعلقة بتحليل النصوص الفلسفية داخل الفصل الدراسي.






مقدمة الكتاب:



إن السنة الأولى بكالوريا هي سنة تحليل النصوص بامتياز؛ فأثناءها يتمرس التلاميذ على تحليل النصوص، فيتم التركيز فيها على تعليم المهارات أكثر من المعارف والمعلومات.
وإذا كانت السنة الأولى هي سنة تحليل النصوص والتمرس على مهارات وقدرات تساعد على هذا التحليل، فنحن نعيش مع تلاميذ السنة الأولى إذن طقوس  تحليل النصوص بامتياز. فكيف تتم العملية؟
هنا لا بد من الإشارة إلى أن تحليل النصوص الموجودة في هذا الكتاب هي خلاصة لتجاربي الفصلية، شئت تقاسمها مع زملائي المدرسين عساهم يستفيدون منها، ويغنوها بملاحظاتهم وانتقاداتهم. ولا يختلف اثنان في أهمية وفائدة تبادل التجارب الفصلية بين المدرسين، بأن يعمل كل واحد على فتح نوافذ حجرته الدراسية لكي نطل على بعض ما يجري داخلها. وهذا ما فعلته شخصيا في هذا الكتاب، إيمانا مني بأن التجارب الفصلية هي أساس كل قول أو تنظير في مجال ديداكتيك الفلسفة.
ولابد من الإشارة أيضا إلى أن هناك فرق بين التحليل الحي الذي يتم داخل الفصل مع التلاميذ، وبين التحليل كما يدونه التلاميذ في دفاترهم وأنقله هنا في هذا الكتاب. هكذا فتحليل النصوص انطلاقا من الخطوات الأربع: مفاهيم، حجاج، أفكار، أطروحة، إشكال، لا يخضع لترتيب قار أثناء الإنجاز الفعلي في الفصل. ولذلك يكون من المفيد أن أقدم لكم تجربتي الفصلية الحقيقية مع تحليل نصوص مقرر السنة الأولى بكالوريا؛
 - أول ما نبدأ به هو قراءة النص طبعا، لمرة أو مرتين، مع العلم أنني أقدم للتلاميذ تمرينا يخص النص وأفترض أنهم قرؤوه وأنجزوا الأسئلة المتعلقة به.
 - بعد ذلك أطالب أحد التلاميذ بإعادة قراءة النص مع التوقف عند انتهاء كل جملة. في هذا الحين نقوم بالاشتغال على الجملة، وأحيانا جملتين إذا كانتا مترابطتين ويصعب الفصل بينهما، فأطالب التلاميذ بتحديد أهم مفاهيم تلك الجملة، ثم نعرفها ونحدد العلاقات بينها وبين باقي المفاهيم المكونة للجملة، ونحن نعتمد في ذلك على التعريف الفلسفي العام للمفهوم وعلى تعريفه الخاص داخل جملة النص، وفي جميع الأحوال فنحن نطرق كل الاحتمالات الممكنة. ويقودنا تعريف المفاهيم وتحديد العلاقات بينها تلقائيا إلى التعرف على مضمون الجملة أو الفكرة الكامنة فيها. بعد ذلك أبحث مع التلاميذ عن الأسلوب الحجاجي المتبع في تقديم هذه الفكرة (مثال، مقارنة، تفسير، تعريف ..الخ).
 هكذا إذن نقارب الجملة الواحدة في النص من كل هذه الزوايا: الزاوية المفاهيمية، زاوية المضمون المعرفي والزاوية الحجاجية. ولا أخفي عليكم أننا نتطرق إلى زاوية أخرى يمكن أن أسميها بزاوية النقد أو التعليق أو المناقشة؛ حيث أعمل مع التلاميذ على الحفر في الجملة الواحدة من كل تلك الزوايا، ونقدم أمثلة واقعية لتوضيحها - في إطار ربط الأفكار الفلسفية بحياة التلميذ وواقعه المعيش- وأترك الفرصة للتلاميذ من أجل إبداء رأيهم في ما يقوله صاحب النص. 
- حينما نمر على كل جمل النص ونشبعها شرحا وتحليلا ومناقشة، بالشكل الذي وضحته، نأتي بعد ذلك إلى عملية التدوين في الدفتر؛  حيث نحدد أهم المفاهيم الموجودة في النص ونشرحها ونحدد العلاقات بينها، بعدها نحدد أهم الأساليب الحجاجية ووظائفها في النص. وأثناء ذلك نستخرج أفكار النص وأطروحته الأساسية، ثم إشكاله. قبل أن ننتقل بعد ذلك إلى مناقشته. كما قد يطرأ أحيانا تغيير من حيث الترتيب في إنجاز تلك الخطوات المذكورة، بل قد نستغني عن بعضها في بعض النصوص؛ وذلك كأن نكتفي في بعض النصوص على تناول الجانب المفاهيمي دون الاهتمام بالجانب الحجاجي أو العكس.
  كما أقوم أحيانا أثناء عملية تحليل النص داخل القسم، بإنجاز كل الخطوات مع التلاميذ دفعة واحدة. فحينما نقرأ جملة أو جملتين في النص، أو أحيانا فقرة قصيرة، نسجل في نفس الوقت مفاهيمها <شرحها وتحديد العلاقات بينها> وأفكارها وأسلوبها أو أساليبها الحجاجية. لماذا في نفس الوقت ؟ لأن هذه العمليات غير منفصلة في تفكير الفيلسوف فهو ينجزها دفعة واحدة في نصوصه؛ إذ يقدم لنا أفكاره من خلال اشتغاله على مفاهيم بعينها ومنحها شحنات دلالية، وفي نفس الوقت يعززها بتقنيات حجاجية ما. وبهذه الكيفية يمكن أن نعود التلاميذ على اكتشاف خطوات تحليل النص في طزاجتها الأولى، أي كما تعبر عنها قريحة الفيلسوف وهو يخوض متعة ومرارة تجربة التفكير الفلسفي ذاتها.
ولهذا يمكن الاعتماد في بعض الأحيان - أثناء تحليل النص داخل الفصل- على جدول من ثلاث خانات؛ الأولى للمفاهيم والثانية للأفكار والثالثة للأساليب الحجاجية. فنقرأ كل جمل النص ونقوم بملء الجدول انطلاقا مما تحتويه تلك الجمل من مفاهيم وأفكار وأساليب حجاجية، وذلك بشكل متساوق. وبعد ذلك يسهل علينا أن نحدد أطروحته وإشكاله. وعلى ذكر الأطروحة والإشكال، فهما آخر ما نكتشفهما؛ إذ يأتيان كنتيجتين لعمل استقرائي لجزئيات النص ومكوناته الأساسية.
بعد هذا يكون بإمكاننا التعليق على النص وتبيان حدوده بجعله ينفتح على أطروحة أخرى مغايرة، تكون متضمنة في نص قادم سنشتغل عليه في الحصص القادمة ...وهكذا دواليك. ولا بد من التنبيه إلى أن مسألة مناقشة النص لا نؤجلها بالضرورة حتى آخر التحليل، بل إن مناقشة أفكار النص والتعليق عليها من طرفي ومن طرف التلاميذ تكون جزءا لا يتجزأ من عملية التحليل نفسها، وهي تكون مصاحبة لهذه العملية في كل أجزائها. وحينما نقوم بالتعليق الأخير على النص، فهو يأتي كتحصيل حاصل لجملة من المناقشات والتعليقات التي تمت سابقا أثناء عملية تحليله.
هكذا يتبين أنه لا يوجد بالضرورة ترتيب نمطي وقار فيما يخص إنجاز الخطوات المتعلقة بتحليل النص؛ فقد يغلب على نص ما الطابع المفاهيمي، مما قد يكون من المفيد في هذه الحالة أن نبدأ بتحليل مفاهيمه وتحديد العلاقات بينها، وذلك في أفق استخلاص الدلالات والأفكار الكامنة في عباراته. وبعد ذلك يمكن أن نقف عند أساليبه الحجاجية، ونحدد وظائفها داخل النص. كما سيمكننا كل ذلك من تحديد أطروحته الأساسية واستنتاج الإشكال انطلاقا منها. أما مناقشة أفكار النص، فيمكن أن تتم أثناء لحظة استخراجها من النص، وبعد ذلك – وحينما ننتهي إلى تحديد أطروحته -  يكون بإمكاننا أن نسجل مناقشتنا العامة لأفكار النص وأطروحته، وذلك بالعمل على تثمينها من جهة وتبيان حدودها من جهة أخرى. وكل ذلك بهدف فتح آفاق التفكير فيها على نطاق واسع.
وقد يكون نص ما حجاجيا بامتياز، مما سيكون من المفيد أن نبدأ عملية تحليله بمقاربته من الناحية الحجاجية، والمرور بعد ذلك إلى باقي الخطوات الأخرى.
ونظرا للتداخل الحاصل داخل نص الفيلسوف نفسه، بين المفاهيم والأفكار والأساليب الحجاجية ... ، فإنه يمكن أن نقترح - كما فعلنا أعلاه – اعتماد جدول يتكون من خانات، بحيث يكون بإمكاننا أن نحلل جمل النص وفقراته، ونعمل أثناء ذلك على التعريف بالمفاهيم في إحدى خانات الجدول، وتسجيل الأفكار المرتبطة بها في خانة أخرى، وفي نفس الوقت حينما نجد أسلوبا حجاجيا نقوم بتثبيته في خانة ثالثة من الجدول مع تحديد وظيفته داخل النص ( أي لماذا استخدمه صاحب النص؟). وقد نضيف خانة رابعة نسجل فيها مناقشتنا الخاصة لكل فكرة في النص على حدة، وخانة خامسة لاستخلاص أطروحة النص الأساسية، وخانة سادسة لتسجيل الإشكال الرئيسي الخاص بالنص. كما يمكن عدم تخصيص خانتين في الجدول لكل من الأطروحة والإشكال، والاكتفاء بتسجيلهما في أسفل الجدول بعد الانتهاء من ملئه... والتصرف في كل ذلك متروك لحرية المدرس (ة)، وكيفية تدبيره وإدارته للحوار الذي يتم بين جماعة الفصل.
وما يمكن التأكيد عليه هنا أيضا، هو أن استخلاص أطروحة النص وتحديد إشكاله الرئيسي لا يتم التوصل إليهما إلا بعد القيام بعملية الاشتغال على النص، من خلال الخطوات السابقة المتعلقة بالمفاهيم والحجج والأفكار. وهذا يعني أن التوصل إلى أطروحة النص يتم على نحو استقرائي، ويكون تحصيل حاصل لكل ما قمنا به من عمل تحليلي سابق. وإذا استخرجنا أطروحة النص، كان من السهل علينا أن نحدد إشكاله؛ مادامت الأطروحة هي جواب عن سؤال أو أسئلة كامنة فيها. ولسنا في حاجة إلى التأكيد على أهمية الأمثلة المستمدة من الواقع أو من مجالات معرفية أخرى أو من التجارب الذاتية للتلاميذ ... في فهم النص وإضاءة مختلف مكوناته، بل وأهميتها أيضا في مناقشة أفكاره الأساسية والوقوف عند جوانب القوة أو الضعف فيها. ومن شأن ربط أفكار النص بالعالم الذاتي للتلميذ ومحيطه الاجتماعي وتجاربه الخاصة، أن يرسخ لديه أهمية قضايا الفلسفة وإشكالاتها في حياته الفردية وفي علاقاته بأفراد المجتمع، وأن يرسخ لديه كذلك ضرورة التفكير الذاتي في التعاطي مع تلك القضايا والإشكالات، سواء أثناء مساهمته في إنجاز الدرس وبنائه أو أثناء تدبيجه لكتابته الإنشائية الفلسفية.
وفي الأخير يمكن التنبيه إلى أن الاستفادة الحقيقية من تحليل أي نص من النصوص التي تضمنها هذا الكتاب، لا يمكن أن تحصل بشكلها المتوخى إلا من خلال أجرأتها الفعلية وتطبيقها داخل الفصل الدراسي، مما سيمكن من إضاءة عناصر التحليل المقدمة وسيغنيها من خلال الأمثلة والنقاشات التي ستتم بين جماعة القسم، وهي نفس النقاشات التي انبثق عنها أصلا كل تحليل مقدم لنص من تلك النصوص. هكذا فتحليل النص هنا لا يقدم في الغالب سوى الخلاصات النهائية، بينما يظل المسار المتعلق بالإنجاز الحي الذي قطعته مع تلامذتي للوصول إلى تلك الخلاصات متخفيا، ويتعين على كل مدرس(ة) أن يكشف عنه من خلال لحظات الاشتغال على النص داخل الفصل الدراسي.
وبالطبع، فمجال الإبداع والتطوير يظل مشرعا على مصراعيه أمام أي مدرس(ة) من أجل إغناء التحليلات المقدمة للنصوص التي تضمنها هذا الكتاب، والبحث عن أساليب إضافية لتحقيق الأهداف والرهانات التي نروم بلوغها من خلالها، على كافة الجوانب والمستويات، لاسيما ما تعلق منها بالجانبين المعرفي والمنهجي. ولن يتم ذلك طبعا إلا في إطار التفاعل مع التلاميذ داخل الفصل الدراسي؛ مما يعني أن تجربة فصلية لا يمكن أن تغنيها إلا تجربة فصلية أخرى مغايرة.
وفي الأخير أود أن أشير إلى أننا اكتفينا أثناء تحليل النصوص بالتعامل مع النص في حد ذاته، وبالتالي استخراج الإشكال الخاص به مع تحديد باقي عناصر التحليل الأخرى . غير أن هذا لا يمنع أننا كنا، أثناء ذلك، نأخذ بعين الاعتبار الإشكل العام للمحور الذي يندرج داخله النص، خصوصا وأن الوشائج تكون قوية في الغالب بين الإشكال الخاص بالنص والإشكال العام للمحور الذي يندرج داخله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.