الخميس، 27 أكتوبر 2016

جدلية المعرفي والمنهجي في الدرس الفلسفي



 تعلم الأفكار أم تعلم التفكير ؟
جدلية المعرفي والمنهجي في الدرس الفلسفي


بقلم: محمد الشبة




إن استعراض الأفكار الفلسفية كما عرفها تاريخ الفلسفة، وقصف عقول التلاميذ الغضة بها، ليس هو ما ينشر عبق التفلسف في أرجاء الفصل الدراسي، بل إن أريج التفلسف لن ينبعث إلا من خلال التفكير الذاتي للمعلم والمتعلمين على السواء، في مختلف القضايا التي فكر فيها الفلاسفة ولكنهم جعلوا إمكانيات التفكير فيها لازالت قائمة ومفتوحة أمام القراء بعد ذلك.
والمعلم والمتعلمون هم قراء للنصوص الفلسفية؛ يغوصون في ثناياها، يستنطقونها، يكشفون عن منطق التفكير فيها، ينتقدونها ويبينون حدودها، ويفكرون فيها من جديد انطلاقا من بيئتهم الثقافية وهموم عصرهم ... هذا ما يجعل رائحة التفلسف تفوح في أرجاء الحجرة الدراسية وليس الخطب العنترية حول تاريخ الفلسفة.  

الأهم هو تعلم التفكير وليس الأفكار

إذا كان العقل لا يشتغل بدون أفكار، وإلا سيشتغل في الفراغ وسوف لن ينتج شيئا، فإننا مع ذلك نذهب إلى أنه في مجال تدريس الفلسفة بالثانوي التأهيلي لا يهم بالدرجة الأولى أن نعلم للتلميذ الأفكار، أي ما يقوله هذا الفيلسوف أو ذاك، بل الأهم من ذلك هو أن نجعل التلميذ يدرك كيف أنتج الفيلسوف تلك الأفكار. ويمكن توضيح ذلك من خلال تقديم المثال التالي:
حينما نكون بصدد الاشتغال مع التلاميذ حول فلسفة ديكارت، لا يكون المهم هو أن نقول لهم إن ديكارت صاغ "كوجيطو" يقول فيه: أنا أفكر إذن أنا موجود، بل الأهم من ذلك هو أن نكشف للتلاميذ كيف توصل ديكارت إلى صياغة الكوجيطو؛ أي أن الأهم هو أن يتعرف التلميذ سيرورة أو مسار التفكير الذي قطعه ديكارت لكي يصل إلى صياغة الكوجيطو.  
إن المهم في الدرس الفلسفي ليس تعليم الأفكار في حد ذاتها، ليس المهم هو الإخبار والإلقاء والتلقين، وحشو عقول التلاميذ الغضة بالمعارف الكثيرة، بل الأهم هو تعلم التفكير؛ أي تعلم التلاميذ أدوات وأساليب التفكير العقلي التي استخدمها الفلاسفة، وهي أساليب متنوعة تختلف باختلاف الفلاسفة أنفسهم، لكي يستخدمها هؤلاء المتعلمين لصالحهم الخاص أثناء التعامل مع وضعيات جديدة.
ولن يكون تعلم أساليب التفكير الفلسفي متاحا إلا من خلال الاشتغال على النصوص. ولذلك فالأهم أثناء تحليل النص، خصوصا في السنة الأولى بكالوريا، ليس هو التعرف على الأطروحات - وإن كنا نتعرف عليها- بل الأهم هو الكشف عن منطق النص، و اكتساب مهارات وقدرات تفكيك النصوص؛ أقصد بصفة خاصة مهارات المفهمة والأشكلة والحجاج. ومع ذلك لا يجب أن يفهم من كلامنا أننا نقصي المضمون أو الأفكار أثناء تدريس الفلسفة، أبدا أبدا، بل إن التعرف على الأفكار يأتي تلقائيا وفي المرتبة الثانية إذ أن المرتبة الأولى تمنح لتعلم التفكير، لاكتساب الآليات والمهارات والقدرات المنهجية.
إن ما نقوله هنا يستهدف بالأساس جعل الدرس الفلسفي يتجاوز طابع الإخبار والإلقاء، الذي هدفه الأساسي هو حشو عقول التلاميذ بالمضمون والأفكار، وجعله درسا تفاعليا يساهم التلميذ بدور أساسي في لحظة بنائه وإنجازه. وهو ما يجعل التلميذ يفكر مع الفلاسفة فيما يفكرون، ويتمرن على طرقهم في التفكير، ويستخدمها للتفكير في قضاياه اليومية الخاصة. وهذا هو معنى ربط الفلسفة بالحياة. 

متى وكيف نقدم للتلاميذ المعارف الفلسفية ؟

وإذا كان لا بد من تزويد التلاميذ بمعارف فلسفية، فيجب أن يتم ذلك في الوقت المناسب وبالكيفية المناسبة، وحسب حاجيات المتعلمين أنفسهم. ولذلك يتعين علينا كمدرسين ألا ننطلق من تاريخ الفلسفة أولا، بل ننطلق من معارف التلميذ وتمثلاته أولا ثم نرتقي بعد ذلك للتوصل إلى أفكار الفلاسفة. إن علينا أن نجعل تعرف التلميذ على الأفكار وليد رغبة ذاتية، لأن ما فكر فيه الفلاسفة هو جزء لا يتجزأ من تفكير التلميذ نفسه.
ولذلك يتعين هنا توخي البساطة والتدرج في تلقين الأفكار، فلا نقدم المعارف للتلميذ إلا بقدر حاجته إليها وإلا جعلناه يصاب بالتخمة، كما يتعين الاعتماد بالأساس على الوضعيات المشكلة التي تمكن من صياغة الإشكالات انطلاقا مما يعرفه التلميذ نفسه، والاعتماد على تحليل النصوص التي تمكنه من اكتساب أدوات التفكير الفلسفي، أما الأفكار فيتم التعرف عليها بشكل تلقائي ونحن نكشف عن منطق اشتغال النص الفلسفي. وهذا ما يجعلنا نقرر أن الفلسفة ليست مجالا لتعلم أفكار عقدية أو إيديولوجية، إذ ليس المهم فيها هو اعتناق المذاهب والأفكار، بل المهم هو أنها مجال لصقل موهبة التفكير، وتعلم طرق المحاججة، وإنتاج الأفكار العقلانية والمتماسكة.  
وهكذا، فالتلميذ ليس في حاجة إلى معارف كثيرة لكي يتعرف على الإشكالات، بل هو يحتاج إلى معطيات من حياته اليومية والاجتماعية من أجل أن نقنعه بضرورة طرح مثل تلك الإشكالات. ولهذا علينا كمدرسين أن ننطلق من ذاته لصياغة تلك الإشكالات، حتى نجعله يدرك أنها إشكالات حقيقية ونابعة من صميم اهتماماته ولصيقة بوجوده الإنساني، وليست مجرد إشكالات خاض فيها بعض الحالمين أو عشاق الترف العقلي والفكري. فما طرحه الفلاسفة من إشكالات، وإن كانت طبعا جاءت في سياق تاريخي معين - هي إشكالات ممتدة في حياة الإنسان بعد ذلك، والتفكير فيها لا ينتهي أبدا نظرا لشموليتها وتجذرها في الوضع البشري، ما دامت تمس وجود الإنسان حيثما حل وارتحل.
فليست وظيفة الفلسفة أن تجعل التلميذ يعرف فحسب، بل وظيفتها أن تجعله يدرك كيف تم إنتاج تلك المعرفة، وأن تجعله يتعلم كيف ينتج معرفة لصالحه الخاص. وإذا زودنا التلميذ بأسلحة/معارف لا يعرف كيف تم صنعها سيظل في المعركة يحملق تائها كالمغفل، ويكون كحمار يحمل أسفارا. فالمهم ليس أن أعطيك السمكة بل أن أعلمك كيف تصطادها. كما أن المهم ليس أن أعطيك السلاح بل أن أجعلك تتمكن من صنع سلاحك الخاص. وإذا كانت الحياة حربا علينا أن ننتصر فيها، فإننا لن نحقق هذا النصر بالمعرفة بل بأدوات إنتاج المعرفة؛ فليست الأفكار هي التي تجعلنا قادرين على التفلسف بل أدوات العقل وأساليب التفكير هي التي تجعلنا كذلك. ولذلك رأى كانط أنه لا يمكن تعلم الفلسفة بل ما يمكن أن نتعلمه هو التفلسف. وحينما نقول التفلسف، فنحن نحيل مباشرة إلى أفعال التفكير وأدوات العقل وطرقه في إنتاج المعرفة. وإذا كانت أفكار الفلاسفة تنتج في سماء المجردات، فهي تنطلق حتما مما يعيشه الناس ويفكرون فيه. ولذلك بدل أن نقطع بين معارف التلميذ والمعارف الفلسفية، علينا على العكس من ذلك أن نربط جسور تواصل بينهما.
ولذلك يتعين على المدرس استثمار ما لقن ورسخ لدى التلميذ في المجتمع، لكي يدخل معه في حوار فلسفي حقيقي وصادق. كما يتعين عليه أن يجعله يتعرف على الزاد المعرفي تلقائيا وهو يشتغل معه على النصوص، ولا يمكن أن يزوده به بدون مبررات معقولة. فتزويد التلميذ بالمعرفة يأتي في الوقت المناسب وبحسب حاجته إليها، إذ ما يجعل ذهن التلميذ يشتغل ليس هو المعارف في حد ذاتها بل تفكيره الذاتي في تلك المعارف، كما أن المهم ليس هو أن يتعرف عليها في حد ذاتها بل أن يدرك كيف أنتجها أصحابها ودافعوا عنها. 

درس الفلسفة يستمد مشروعيته من الحياة قبل أن يستمدها من تاريخ الفلسفة

إننا وإن كنا نفكر مع الفلاسفة فيما فكروا فيه، فنحن نفكر في ذلك لأنه جزء لا يتجزأ من حياتنا الخاصة، ومرتبط ارتباطا وثيقا بوجودنا الإنساني في مختلف مستوياته.  
وهكذا فعندما نفكر في العنف مثلا، يجب أولا أن نربطه بمحيط التلميذ واهتماماته، وأن نقنعه بأهمية تناول وطرح الإشكالات المرتبطة به، ثم بعد ذلك، وفي سياق تحليل النصوص، نقدم له بعض المواقف التي عرفها تاريخ الفلسفة من تلك الإشكالات ونبين له أنها مجرد إمكانات للإجابة عن تلك الإشكالات، إذ توجد إمكانات أخرى للإجابة يمكن أن يقدمها التلميذ نفسه. وهو الأمر الذي يمكننا من أن نجعل التلميذ يفكر مع الفلاسفة فيما فكروا فيه، ويدلي بوجهة نظره بكل جرأة وشجاعة مادامت إمكانات الإجابة والمعالجة تظل دوما مفتوحة انفتاح التفكير الفلسفي نفسه.
إن الكثير من الإشكالات المبثوثة في مقررات الفلسفة، إن لم نقل كلها، تتيح للتلاميذ إمكانيات التفكير فيها من جديد؛ فنحن نجد أن المواقف المقدمة من طرف الفلاسفة لا تعالج الإشكال في كليته ومن جميع جوانبه، مما يضطر التلاميذ إلى التفكير فيها من جديد انطلاقا من واقعهم الراهن. أما تلقين التلميذ للمعارف واستعراض تاريخ الفلسفة أمامه فلا يكرس لديه سوى السلبية والانسحاب والتخلي عن التفكير الذاتي، في حين أن توريطه في الإشكالات والقضايا الفلسفية، من خلال الاشتغال على النصوص خصوصا، يجعله فاعلا وإيجابيا ومنتجا، ويمكن من شحذ قريحته وجعله يتحمل مسؤولية الأفكار التي ينحاز إليها.  
وحينما نعالج إشكال نص ما مثلا، فنحن نعالجه كإشكال طرح في تاريخ الفلسفة من جهة، اعتبارا من أن أطروحة صاحبه هي لبنة من لبنات صرح التاريخ الفلسفي، كما نعالجه كإشكال مطروح علينا نحن أيضا كتلاميذ أو مدرسين. ولذلك فنحن قد نستخدم تاريخ الفلسفة أحيانا لإضاءة النص، ولا نتعامل معه في حد ذاته. فالتفكير مع صاحب النص في الإشكال من جديد، وربط ذلك بذوات المتعلمين، هذا هو الهدف المتوخى من الدرس الذي ننشده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.