في العلاقة بين اللغة والفكر
بقلم: محمد
الشبة
اختلف الفلاسفة في
تحديد العلاقة بين اللغة والفكر. فهذا أفلاطون يميز بين وجود عالمين: عالم المثل؛ وهو عالم عقلي مفارق، عالم
المعقولات/الأفكار المثالية والحقائق المطلقة والكاملة. وعالم الحس؛ وهو عالم مادي
حسي، عالم المحسوسات وأشباه الحقائق والظلال. فمستودع الأفكار عند أفلاطون هو عالم
المثل؛ إذ أن الأفكار المطلقة توجد في هذا العالم بدون كلمات، ما دامت اللغة تنتمي
إلى عالم آخر يأتي في مرتبة سفلى هو العالم المادي الحسي.
من هنا فاللغة في نظر أفلاطون ليست سوى أداة للتعبير عن
فكر سابق عليها. وهو ما يعني أن أفلاطون يمنح الأسبقية للفكر على اللغة، فللفكر
أسبقية أنطلوجية على اللغة أي أنه سابق في الوجود عليها، والعلاقة بينهما هي علاقة
انفصال واستقلال.
وفي نفس السياق ذهب ديكارت
إلى أن اللغة والفكر من طبيعيتين مختلفتين؛ فاللغة ذات طابع حسي مادي
أما الفكر فهو ذو طابع روحي، ولذلك فالعلاقة بينهما هي علاقة انفصال واستقلال،
والأسبقية هنا للفكر على اللغة.
وبخلاف هذا الموقف التقليدي نجد
الموقف المعاصر يؤكد على اتصال بل وتماه بين اللغة والفكر، وهو ما يعني صعوبة
التمييز والفصل بينهما.
وفي هذا الإطار يقول عالم اللسانيات دوسوسير:
« لقد وقع إجماع الفلاسفة وعلماء اللسان على أننا نكون
عاجزين بغير الاستعانة باللسان، عن التمييز بين فكرتين أو معنيين بكيفية واضحة
وثابتة، ولو اعتبرنا الفكر ذاته لتبين لنا أنه عبارة عن سديم وعماء ضبابي ليس فيه
بالضرورة شيء محدد، فليس هناك معان وأفكار قد سبق وضعها، ولا وجود لشيء متميز قبل
ظهور اللسان… ويمكن أن نشبه اللسان بوجهي ورقة نقود: فالوجه هو الفكر، والظهر هو
الصوت ولا يمكن أن نحدث قطعا في وجه الورقة دون أن نقطع في نفس الوقت ظهرها، وهكذا
الحال مع اللسان، لا يجوز أن نعزل الصوت فيه عن الفكر ولا الفكر عن الصوت».
وهكذا، فالفكر لا يكون واضحا حسب دوسوسير- إلا من خلال كلمات اللغة التي تجزئه إلى
أفكار يمكن التمييز بينها بدقة وجلاء. فبدون اللغة لا يمكن للفكر أن يتجسد بشكل
كامل وواضح. ويشبه دوسوسير الفكر بكتلة
ضبابية، فلكي يعبر عن ذاته لا بد أن يتجزأ إلى وحدات واضحة، وهو الأمر الذي تقوم
به كلمات اللغة، كمالا يمكن الحديث في نظر دوسوسير عن فكر واضح قبل اتصاله باللغة،
فالعلاقة بينهما هي علاقة اتصال ولا يمكن الحديث عن وجود أحدهما في غياب الآخر.
وقد أدى هذا بدوسوسير
إلى تشبيه اللغة بورقة نقدية وجهها الفكر وظهرها الصوت، بحيث لا يمكن أن نمزق
الوجه دن أن نمزق الظهر، وكذلك الحال في ارتباط الصوت بالفكر.
وقد ذهب الفيلسوف الفرنسي موريس
ميرلوبنتي إلى اعتبار أن الفكر والكلام ليسا موضوعين منفصلين، ذلك أن
كل منهما محتوى في الآخر، فالعلاقة بينهما هي علاقة تماهي بحيث لا يمكن الحديث عن
أسبقية أحدهما عن الآخر، إذ أنهما ينبثقان في آن واحد.
من هنا فالعلاقة بين الفكر والكلام لا تشبه في نظره
العلاقة بين النار والدخان؛ إذ لا يمكن اعتبار الكلام مجرد علامة على وجود الفكر
مثلما الأمر بالنسبة لعلاقة الدخان بالنار، وهو ما نفهم منه رفض ميرلوبنتي للقول
بأسبقية الفكر على الكلام ورفض العلاقة الانفصالية بينهما.
فالعلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تماه وتداخل إذ أن
كلا منهما محتوى في الآخر، يؤخذ الفكر من الكلمات، والكلمات هي المظهر الخارجي
للفكر.
وأثناء عملية التذكر نتذكر الكلمات أسهل مما نتذكر
الأفكار، وهذا أمر له دلالته بحيث أنه لا يمكن تذكر الأفكار معزولة عن الكلمات.
إذن فالكلام ليس مجرد وسيلة للتعبير عن الفكر، بل هو الفكر نفسه وقد تجسد في قالب
لغوي. فالأصوات تحمل في ذاتها المعنى، والكلمات هي ذاتها نص مفهوم، وقوة الكلام
تأتيه مما يحمله من دلالة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الارتباط الوثيق بين
الفكر والكلام.
ويرفض ميرلوبنتي أن
يكون الكلام مجرد إشارة أو لباس للفكر، ويقول على العكس من ذلك إنه جسده وحضوره في العالم المحسوس. فلا وجود لفكر
خارج عالم الكلمات؛ لأن الفكر الصامت هو نفسه ضجيج من الكلمات. بل إن عمليات
التفكير نفسها تتم من خلال استخدام الألفاظ، حتى ولو تم ذلك بشكل خافت.
وقد دفع هذا بميرلوبنتي
إلى التأكيد على عدم وجود أسبقية بين اللغة والفكر، بل ذهب إلى القول بأنهما
يتكونان في آن واحد.
لكن مع ذلك يبدو
أن هناك أحوال يبدو فيها الفكر أوسع نطاق من اللغة، وتبدو هذه الأخيرة عاجزة عن
التعبير عنه. ويمكن أن نذكر منها ما يلي:
1- الحالات الوجدانية العاطفية:
وهنا يميز برجسون بين وجود عالمين
يعيشهما الإنسان:
عالم داخلي: وهو عالم الحالات الفكرية،
والشعورية والوجدانية.
عالم خارجي: وهو عالم الأشياء والموجودات
المادية.
ولقد جاءت اللغة من أجل تلبية حاجة الإنسان/العقل
لاستيعاب العالم المادي والسيطرة عليه، ولما كان العقل لا يحقق هذا الاستيعاب وهذه
السيطرة إلا باللجوء إلى عملية التجزيء والقياس الكمي، فإنه يستعمل نفس الطريقة
حتى وهو يتعامل مع الأشياء غير المادية وخصوصا ظواهر الحياة النفسية الداخلية،
ولما كانت هذه الظواهر لا تقبل التجزيء، فإن العقل ولغته يظلان إما عاجزين عن
التعبير عن هذه الظواهر الوجدانية والشعورية في خصوصيتها وتفردها، وإما يتعسفان
عليها بتحويلها إلى أشياء(التشييء)، وهو ما يضعف من مكوناتها وطاقاتها الكاملة.
2- الحالات الصوفية:
يعيش رجال التصوف تجارب روحية من خلال ما يقومون به من طقوس دينية، وهي تجارب
متفردة ومتميزة لا يدركها إلا المجرب/الصوفي. كما أنه لا يستطيع أن يعبر عنها
بواسطة اللغة لأنها حالات روحية تتجاوز عالم الكلمات، خصوصا وأن اللغة ذات أصل
اجتماعي مما يجعلها لا تواكب العوالم الروحية التي يرتادها الصوفي.
3- حالات الفكر العلمي:
ذلك أن العلماء في مجال الرياضيات مثلا يصلون إلى أفكار لا تستطيع اللغة
الطبيعية التعبير عنها، فيلجؤون إلى وسائل تعبيرية أخرى تتمثل أساسا في اللغة
الصورية الرمزية، وهذا مثال آخر على قصور اللغة وعدم قدرتها على مواكبة الفكر
والإحاطة بكل جوانبه.
4- الحالات الفنية:
ذلك أن لجوء الإنسان إلى بعض الوسائل التعبيرية كالرسم والموسيقى، هو دليل آخر
على عجز اللغة عن التعبير عن جميع المشاعر والأفكار البشرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.