الاثنين، 24 أكتوبر 2016

ملاحظاتي على إنشاء فلسفي 4 (هوية الشخص)



ملاحظاتي على الموضوع الإنشائي الفلسفي الفائز بالمرتبة الأولى
في مسابقة منتدى حجاج الفلسفية لسنة 2009






·       نص الموضوع:

"لاشيء في الحالات السوية أكثر استقرارا وثبوتا فينا من شعورنا بأنفسنا، وبأنانا الخاص. ويظهر لنا هذا الأنا مستقلا، واحدا متمايزا أشد التمايز عن كل ما عداه (...) وإذا ما نظرنا إليه من الخارج على الأقل سيبدو وكأنه يشتمل على حدود واضحة دقيقة. [ولكن] ثمة حالة واحدة – لا يمكن نعتها بأنها مَرَضية وإن تكن إستثنائية- قمينة بمراجعة هذا الاعتقاد: ففي ذروة حالة العشق والوله يغدو الخط الفاصل بين الأنا والموضوع مهددا بالتلاشي.إذ وخلافا لجميع شهادات الحواس، يزعم العاشق أن الأنا والأنت شيء واحد ! بل وتجده مستعدا للتصرف على أساس أن الواقع هو كذلك فعلا (...) ويطلعنا علم الأمراض على عدد وفير من الحالات التي يصبح فيها الخط بين الأنا والعالم الخارجي غير واضح وغير دقيق فعلا. ففي بعض الأحوال تبدو أجزاء من بدننا، بل عناصر من حياتنا النفسية، من إدراكات وأفكار ومشاعر، وكأنها غريبة وأجنبية ولا تؤلف جزءا من الأنا؛ و في أحوال أخرى نعزو إلى العالم الخارجي ما رأى النور بلا مراء في الأنا. هكذا نرى أن الشعور بالأنا عرضة هو نفسه للتحريف والتشويه، وأن حدوده ليست ثابتة."

حلل النص وناقشه

·       الموضوع الإنشائي للتلميذة:
  
رغم اختلاف و تباين المواقف التي نتعرض لها كل يوم، إلا أننا نظل نشير إلى أنفسنا بضمير الأنا نظرا لكوننا نشعر بهذا الأنا و نشعر باستقراره و ثباته، ولكن غالبا ما تتخلل حوارات العشاق العبارات التالية:"الحب أعمى" "المعشوق يشكل النصف الآخر"، و بتأملنا لهذه المقولات تتبادر إلى أذهاننا تساؤلات عدة منها: كيف للعاشق أن يشكل النصف الآخر؟ وهل يمكن للحب أن يكون أعمى لدرجة أنه يفقد العاشق هويته الشخصية و تفرده؟ أم أنه بإمكاننا أن نجزم في ثبات الشعور بالأنا في جميع الأحوال؟ و إلى أي حد يمكن للغير أن يشكل خطرا على ثبات و استقرار الشعور بالأنا لدى كل فرد؟

انطلق صاحب النص من عرض لاعتقاد سائد نتكلم عنه في جميع الحالات السوية، و مفاد هذا الاعتقاد هو أن الشعور بالأنا هو الشيء الوحيد الذي يضمن الثبات و الاستقرار بالنسبة لكل شخص، كما يتميز هذا الأنا باستقلالية و انفراد واضحين، فالأنا ليس هو الأنت بل هما أناتين متمايزتين و منفصلتين بشكل ملحوظ. وطبيعي أن تكون لكل أنا سمات تجعلها منفردة و مختلفة عن باقي الأنوات مما يجعل بين الأنا و الأنت مسافة أو جدارا عازلا يضمن هذا التمايز و الاستقلالية.

ويظهر لنا هذا التمايز بين الأنوات بشكل أوضح خلال النظرة الخارجية، فعندما ننظر إلى شخص ما تظهر لنا أناه كوحدة ترتسم حدودها أمام ناظرينا من خلال ما يبديه من ردود أفعال و تصرفات و أفكار... تضفي عليه ميزات خاصة و تجعله متفردا و فريدا و تؤطر أناه هاته بإطار واضح و دقيق.

و باستعمال أسلوب الاعتراض، ضرب صاحب النص في الاعتقاد الذي عرضه في البداية لكونه لا يتماشى مع جميع الحالات و لا يمكن اعتباره صحيحا في كل الأحوال. و ليزكي اعتراضه هذا قدم لنا حالة استثنائية و هي حالة العشق و الوله، و العشق هو عاطفة إنسانية و شكل مفرط من أشكال المحبة، و قال عنها:"لا يمكن نعتها بأنها مرضية و إن تكن استثنائية"، و هو بقوله هذا يعارض كلا من ابن سينا و الرازي و غيرهم ممن اعتبروا العشق حالة مرضية أو "مرضا وسواسيا" كما قال عنه ابن سينا.

وقصد التفسير أكثر، قال صاحب النص بأنه في حالة العشق و الوله تصبح الصورة حول حدود الأنا ضبابية و يصير التمايز السابق ذكره مهددا بالزوال بعد أن يتلاشى الخط الفاصل بين الأنا و الموضوع تدريجيا، و بهذا تصبح العلاقة بالغير أكثر من مجرد علاقة تشييئية.

صحيح بأن الحواس تطلعنا على أنه هناك انفصال ملحوظ بين الأنا و الأنت و هذا الانفصال هو امبريقي بالدرجة الأولى، لكن يتبدى للعاشق عكس ما تقول الحواس تماما، فهو يرى بأن الأنا و الأنت شيء واحد و بأن العاشقين يؤلفان وحدة و كلية مطلقة لا يمكن فيها تمييز أحدهما عن الآخر لكون الأنا الخاصة بكل منهما قد انسجمتا. و أحيانا تجد العاشق مؤمنا بشكل كلي بهذه الفكرة و على أتم الاستعداد للعمل بها بظن منه أنها واقعية و أنه صحيح فعلا بأنه في حالة العشق يصبح للعاشقين ما يشبه الأنا الواحد و المشترك.

ومتسلحا بأسلوب العرض من جديد، يقدم لنا صاحب النص حجة مستمدة من علم الأمراض تسند موقفه، حيث يقول هذا العلم بوجود عدد مهم من الحالات التي يتلاشى فيها الخط الفاصل بين الأنا و الموضوع و يبدوان في حالة تماهي شديد و كأن أحدهما يذوب في الآخر و يصبح فصلهما شيئا صعبا لكون الحدود بينهما قد اندثرت و أصبحا متمازجين.

وفي التالي يضرب لنا صاحب النص مثالا يدعم ما جاء به علم الأمراض، فأحيانا تبدو لنا أجزاء من بدننا و بعض الأفكار و الإدراكات و المشاعر التي تنتابنا دخيلة عنا و لا تمت لأنانا بصلة، بل إن أبسط سلوكات العاشق قد تتغير بشكل مفاجئ من قبيل طريقة اللباس أو الكلام أو حتى اختيار الأصدقاء...، و أحيانا أخرى يبدو لنا ما كان أصليا في أنانا و كأنه مستمد من العالم الخارجي، يعني نصبح تائهين عن أنفسنا، لا نعرف ما يخصنا و لا ما أكسبنا إياه العالم الخارجي.

بعد الدراسة التحليلية التي أجراها صاحب النص و التي فند من خلالها الاعتقاد القائل بثبات الأنا على الدوام، و باستعمال أسلوب الاستنتاج، خلص إلى أن الأنا لا يوجد دائما مستقرا و ثابتا لأن الشعور الذي يضمن هذا الثبات هو بدوره عرضة للتحريف و التشويه، مما يجعل حدود الأنا غير واضحة و متغيرة بحسب وضع الشعور بالأنا.

بعد هذا التحليل يتضح أن النص في مجمله دفاعا عن أطروحة مفادها أن الشعور بالأنا لا يكون دائما ثابتا، فهو عرضة للتشويه و التحريف كما هو الحال عند العشاق، كما أن الغير(المعشوق هنا) يشكل المهدد الأول لثبات و استقرار الشعور بالأنا.

لحدود الآن نظرنا إلى الإشكال الذي يطرحه النص من زاوية صاحبه، لكن ماذا لو نظرنا إليه من زاوية مغايرة؟

بهذا السؤال سننفتح على تصور فلسفي وازن مع أحد عمالقة المدرسة العقلانية ألا وهو رونيه ديكارت، فديكارت هو الآخر اهتم بشكل كبير بدراسة الأنا و ثباته، خصوصا في كتابه التأملات، و بالتحديد في التأمل الثاني حيث تساءل "أي شيء أنا الآن إذن؟"، مما يحيلنا على أنه هناك غموض و حيرة انتابته آنذاك، و هذا ما جعله يشك في كل شيء و يقوم بما يسمى مسح الطاولة، إلا أنه توصل إلى وجود شيء واحد لا يطاله الشك، و هو الشك نفسه، و هو في حد ذاته تفكير. و هكذا خلص أبو الفلسفة الحديثة إلى أنه يمكنه اختزال أناه في الشيء المفكر الذي يتمتع بخاصيتي الثبات و الاستقرار على الدوام.

وإذا كان الأنا غير ثابت بالنسبة لصاحب النص ، فهذا راجع في نظره إلى كون الدخول في علاقة مع الغير يسلب الشخص هذا الثبات و الاستقرار و يجعل حدود الأنا غير واضحة، و لكن هذا يبقى صالحا فقط إذا كانت معرفة الغير ممكنة، فماذا لو كانت هذه المعرفة غير ممكنة أصلا، فما مصير هذه العلاقة، علاقة الأنا بالغير؟ و هل سيؤثر وجود الغير في ثبات الأنا في هذه الحالة؟ هنا يجيب جان بول سارتر قائلا بأن ما يربط الأنا بالغير هي مجرد علاقة تشييئية انفصالية و عدمية، باعتبار أن كلا منهما ينظر إلى الآخر باعتباره موضوعا أو شيئا لا علاقة له به. فالعلاقة بين الأنا و الغير هنا، شبيهة بالعلاقة المكانية التي تربط بين الأشياء. هكذا خلص سارتر إلى أن وجود الغير أو غيابه لا يؤثر في وجود الأنا و كينونتها، نظرا لكون علاقتها به علاقة خارجية و انفصالية ينعدم فيها التواصل، و بالتالي فالغير هنا لن يستطيع المس بثبات و استقرار الشعور بالأنا و ستبقى حدود هذا الأخير واضحة و دقيقة مع تغير الزمان و المكان.

وتجدر الإشارة إلى أن النص الذي نحن بصدد دراسته لا ينكر وجود الأنا غير أنه يسحب عن الشعور به صفتي الثبات و الاستقرار، و لكن ماذا لو كان هذا الأنا أصلا غير موجود على أرض الواقع، أي أنه مجرد فكرة خيالية، فهل سيكون هناك شيء آخر يضمن الثبات داخل الشخص؟ أم أننا سنسقط مجددا في انعدام الثبات و الاستقرار؟

بهذا السؤال سننفتح على أطروحة دافيد هيوم الذي تجاوز صاحب النص بقوله أن الأنا مجرد فكرة خيالية لا وجود لها على أرض الواقع لأنها لا تخضع لمبدأ المحاكمة الحسية التي لا تقر لشيء بصفة الواقعية ما لم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس، و الواقع أن الأنا ليس انطباعا حسيا قائما بذاته، بل هو مجرد إضافة تلحق الانطباعات الحسية، كما أنه ليس هنالك انطباع حسي مولد لفكرة الأنا لسبب بسيط و هو أنه لا يوجد انطباع حسي يتميز بنفس مميزات الأنا و هي الثبات و الاستقرار. و بهذا ذهب دافيد هيوم بدوره إلى عدم وجود استقرار و ثبات داخل الشخص و الذي يعزى إلى غياب شيء يضمن هذا الاستقرار.

إن حالة العشق التي يعرضها صاحب النص و التي بنى عليه تصوره بأن الشعور بالأنا ليس ثابتا ، تجعل من الغير السبب الرئيسي في هذا التشويه و التحريف الذي اعترى هذا الشعور(الشعور بالأنا). لكن صاحب النص لم يكن الوحيد الذي ذهب في هذا السياق، فهايدغر هو الآخر يرى بأن وجود الغير هو ضرورة وجودية و معرفية، فالأنا لا يوجد أبدا معزولا في العالم. غير أن هذا الوجود المشترك يتسبب في تلاشي التمايزات و الاختلافات بين الأنا و الغير، و يصبح الناس ذواتا متشابهة، فالتواجد مع الغير في حياة مشتركة يفرغ الذات من إمكاناتها و يسلبها تفردها و بذلك تفقد هويتها و يصبح الشخص شبيها بجميع الناس و كأنه لا أحد.

هكذا يمكننا أن نستنتج في الأخير أن إشكالية ثبات الشعور بالأنا و مدى تهديد الغير لاستقرار هذا الشعورتتسم بالتعقيد و تناولها عدد من الفلاسفة كل من زاويته وكانت من أهم مواضيع تيارات فلسفية عدة.فالفلسفة الحديثة مع ديكارت ذهبت إلى حد القول بأن الأنا ثابت و هذا أمر لا يقبل الشك في نظرها أما دافيد هيوم فرغم أنه لا يؤمن بوجود الأنا إلا أنه يرفض فكرة ثبات الأنا قائلا بأنه لا وجود لشيء ثابت في الشخص.أما سارتر فقد نفى إمكانية أن يهدد الآخر ثبات الأنا بسبب انعدام التواصل بينهما بينما هايدغر يرى بأن الغير يشكل خطرا يهدد استقرار الشعور بالأنا. و لكن يبقى السؤال المطروح، إذا اعتبرنا بأن الدخول مع الغير يهدد ثبات الأنا، فما هي الشروط التي تجعل من شخص-دائما في إطار حالة العشق و الوله- المهدد و من شخص آخر الضحية التي اختل توازن أناها؟

·       ملاحظاتي على موضوع التلميذة:


تحية للجميع

أهنئ في البداية المترشحة سميرة قدسي على فوزها بالمرتبة الأولى في المسابقة الوطنية للإنشاء الفلسفي، وبالضبط في صيغة النص المرفق بمطلبي التحليل والمناقشة.
لقد تمكنت المترشحة فعلا من كتابة موضوع إنشائي بالمواصفات المطلوبة التي نطمح إلى أن ينجز التلاميذ مواضيعا شبيهة بها أو أحسن. وقد منحتها كمصحح النقطة الأولى، وهي 16/20، ليس فقط في صيغة النص، بل المرتبة الأولى من بين المواضيع التي صححتها في جميع الصيغ.
وأعتقد أن جميع المصححين منحوها هذه الرتبة، وهو ما يعني أنها كتبت موضوعا إنشائيا تتوفر فيه أغلب المواصفات المطلوبة.
هذا سيدفعني إلى أن أطرح التساؤل التالي: ما هي الجوانب الأساسية التي ينبغي أن يرتكز عليها التصحيح فيما يخص المواضيع الإنشائية الفلسفية ؟
أعتقد أن إجابتي عن مثل هذا التساؤل ستتبين من خلالها فلسفتي الخاصة في تصحيح اللإنشاء الفلسفي، بما في ذلك طبعا موضوع المترشحة سميرة الذي نحن بصدد عرض ملاحظاتنا كمصححين بصدده.
الواقع أنني أركز في تقويمي للكتابة الإنشائية للتلميذ على ثلاثة جوانب رئسية، وهي الجوانب: الأسلوبية والمنهجية والمعرفية.
- فيما يخص الجانب الأول؛ لا بد لكي تكون الكتابة الإنشائية الفلسفية للتلميذ في المستوى المطلوب من أن تتوفر فيها سلاسة الأسلوب وخلوه من الأخطاء النحوية والتركيبية، فضلا عن استخدام أدوات الوقف من نقط وفواصل وعلامات استفهام وغيرها. وأحسب أن موضوع سميرة توفرت فيه هذه المواصفات إلى حد كبير، اللهم إلا بعض الصيغ التعبيرية التي كان من الأحسن أن تستبدل بصيغ غيرها تكون أكثر دقة وجمالية، وقد أشار الصديق أبو حيان إلى بعض تلك التعابير التي أقصدها بكلامي الآن.
وهذا الجانب هو الذي تسمه المذكرة الوزارية، المحدد لعملية التقويم في مادة الفلسفة، بالجوانب الشكلية. ويمكن أن نضيف إليها أيضا وضوح الخط وجمالية ورقة التحرير.  
وانطلاقا من هذه الاعتبارات فقد منحت لموضوع المترشحة 2.5/3 فيما يخص الجوانب الشكلية.

- أما فيما يخص الجانب المنهجي؛ فغني عن البيان أن الكتابة الإنشائية الفلسفية الخاصة بالنص تخضع لضوابط عامة لا بد للتلميذ من احترامها. وتتمثل في توفر هذه الكتابة على مقدمة تتضمن تمهيدا وطرحا إشكاليا، ثم عرضا يتضمن تحليلا للنص ومناقشته، وأخيرا خلاصة تركيبية تعكس النتائج المتوصل إليها مع انفتاح الموضوع على آفاق جديدة من خلال طرح سؤال أو أسئلة مفتوحة.
وبطبيعة الحال فكل خطوة من هذه الخطوات تتطلب مهارات وقدرات في الإنجاز، كلما تفوق التلميذ في صياغتها وأبدع في ذلك كلما حاز على استحسان المصحح وحصل بالتالي على نقطة أحسن.
وإذا رجعنا إلى الموضوع الإنشائي للأخت سميرة، سنجده بالفعل يتوفر على كل الخطوات المنهجية الضرورية التي أشرت إليها؛ فقد كتبت تمهيدا مستوحى من النص، وهذا ما أحبذه شخصيا، بخلاف مواضيع أغلب التلاميذ التي تبتدئ بتمهيدات جاهزة و تحشر في المواضيع حشرا بشكل يغيب معه عنصر الإبداع المطلوب في الكتابة الفلسفية.
إن الوظيفة الأساسية للتمهيد هو إعطاء مبررات كافية لصياغة تساؤلات الطرح الإشكالي، كما يشترط أن يكون منطلق التمهيد هو النص نفسه وليس أي شيء آخر، مما يؤشر على أن التلميذ يرتبط بالنص قيد التحليل والمناقشة منذ البداية.
وأنا أحسب أن التمهيد الذي ذبجته سميرة لموضوعها يستوفي هذا الشرط الأساسي الذي أشرت إليه، كما أن العلاقة قوية بينه وبين التساؤلات الإشكالية التي طرحتها، والتي كانت مستوحاة من النص في عمومها. حتى ولو أن إقحام عنصر الغير كمهدد لوعي الأنا في التساؤل الأخير جاء كنتيجة لفهم خاص من المترشحة للنص، وإن كنت أختلف معها قليلا حول أن إشكال النص الأساسي يتعلق بثبات هوية الشخص أو تغيرها بغض النظر عن مسألة علاقة هذه الهوية بالغير. ولكن هذا تأويل يحسب لها مادام أن المطلوب من التلميذ هو إبراز قدراته في فهم وسبر أغوار النصوص الفلسفية التي تبقى فيها دائما هوامش من بقية الفهم.
هكذا فقد منحت لجانب الفهم في موضوع المترشحة،و الذي تضمن هذه المعطيات، 3/4.
اما فيما يخص تحليل النص فقد ركزت المترشحة على كل عباراته وجوانبه الرئيسية، وقامت بتتبع كل معطيات النص والتعبير عنها بأسلوبها الخاص. كما أنها لم تكتفي في التحليل بسرد المضامين معزولة عن الأساليب الحجاجية، كانت تقدم الفكرة مشفوعة بالأسلوب الحجاجي المرتبط بها. وهذه طريقة ذكية في تحليل النصوص، وهي أحسن بكثير من الطريقة التي يلجأ إليها الكثير من التلاميذ حينما يتحدثون عن أفكار النص ومضامينه ثم ينتقلون بعد ذلك للحديث عن الأساليب الحجاجية معزولة وكان لا علاقة تربطها بتلك الأفكار.
هكذا نجد في لحظة التحليل في موضوع المترشحة هذا الاقتران بين عرض الأفكار وعرض الأساليب الحجاجية، والذي تدل عليه مثل هذه التعابير:

و باستعمال أسلوب الاعتراض، ضرب صاحب النص في الاعتقاد الذي عرضه ...

أو

وقصد التفسير أكثر، قال صاحب النص ...

أو

ومتسلحا بأسلوب العرض من جديد، يقدم لنا صاحب النص حجة مستمدة من علم الأمراض ...

أو

وفي التالي يضرب لنا صاحب النص مثالا يدعم ما جاء به علم الأمراض، ...


غير أن الجانب المتعلق بتحليل البنية المفاهيمية لم يحظ باهتمام التلميذة، بمثل ما حظي به الجانب الحجاجي. وقد كان من شأن الوقوف عند تحليل دلالات بعض المفاهيم الأساسية في النص وتحديد العلاقات بينها أن يمنح للموضوع قيمة مضافة وتميزا أكثر. وأقصد بهذه المفاهيم تلك المؤثثة لفضاء النص مثل: الأنا، العشق، الموضوع، الشعور، التحريف ...الخ.
كما أشير إلى أنه كان بإمكان المترشحة أن تقدم أمثلة أخرى من تجاربها الشخصية وواقعها المعيش لتوضيح أطروحة النص، غير حالة العشق التي ركز عليها، وإهمالها لهذا الجانب فوت عليها فرصة تطعيم تحليل النص بمعطيات أخرى تغنيه وتقويه.
غير أنني أحسب أن مثل هذه الهفوة جاءت نتيجة ارتباط المترشحة ارتباطا حرفيا بمحتويات النص دون فتحها على حالات أخرى توضحها أكثر.
ومع ذلك فقد خضعت فقرة التحليل لروابط لغوية ومنطقية منحتها السلاسة والتدرج الضروري أثناء الانتقال من فكرة إلى أخرى، وهو الأمر الضروري في الكتابة الفلسفية والذي يمنح لها الانسجام والترابط العضوي المطلوب بين أجزاء الفقرات.

انطلاقا من كل هذا فقد منحت لجانب التحليل في موضوع المترشحة 4/5.

أما لحظة المناقشة؛ فأسجل أولا أن الانتقال إليها كان من الممكن أن يكون أفضلا من هذا التساؤل:
لحدود الآن نظرنا إلى الإشكال الذي يطرحه النص من زاوية صاحبه، لكن ماذا لو نظرنا إليه من زاوية مغايرة؟

أولا لأن مثل هذا التعبير متداول ومستهلك من قبل العديد من التلاميذ.
ثانيا أن التساؤل كان من الأولى أن ينصب على محتوى فكرة صاحب النص في حد ذاتها، عوض الإشارة إليها بمجرد تعبير "زاوية صاحبه". كما أنه كان من الأحسن التعبير ولو بالمجمل عن هذه "الزاوية المغايرة" عوض عن التعبير عنها بمثل هذا التعبير الفضفاض الذي يقول كل شيء ولا يقول شيئا. 
بعد هذا أسجل أن التلميذة تمكنت من ربط مواقف الفلاسفة في المناقشة بأفكار النص؛ بحيث كان استدعاؤها لمواقف فلاسفة مثل ديكارت وسارتر وهيدغر ... في إطار الارتباط بالنص وإدخال هؤلاء الفلاسفة في حوار مباشر معه.
غير أنني لا حظت مع ذلك أن المترشحة ركزت على الحوار الموفق الذي أجرته بين الفلاسفة والنص، وأغفلت الحوار الذي كان من الممكن إجراؤه بين هؤلاء الفلاسفة أنفسهم في ارتباط طبعا بما أثاره صاحب النص من أفكار وقضايا. 
انطلاقا من كل هذه الاعتبارات فقد منحت لجانب المناقشة في الموضوع 4/5 .

أما لحظة الخاتمة فقد تضمنت خلاصة تركيبية تعكس بالفعل نتائج ما تم عرضه في التحليل والمناقشة، وهذا هو المطلوب بالفعل.
كما انفتحت بالموضوع على تساؤل حول الشروط التي تتحكم في علاقة العشق بين العاشق والمعشوق،و التي يكون من نتائجها التأثير على ثبات واستقرار الوعي بالذات.
وقد منحت لهذا الجانب المتعلق بالتركيب 2.5/3.

- أما فيما يخص الجانب المعرفي، فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بالجانب المنهجي غذ يمكن اعتبار هذا الأخير وعاءا أو قالبا للأول. فلا يمكن عرض المعارف الفلسفية إلا في سياقها المناسب وفي ارتباطها بمكونات النص. وبالفعل فقد أشرنا في لحظة المناقشة إلى أن المترشحة تمكنت من استدعاء معارف ومواقف فلسفية متنوعة من هنا وهناك، وفي إطار حوار حقيقي ومباشر مع الأفكار والمعطيات التي تضمنها النص. ولعل استدعاء مواقف فلاسفة أمثال ديكارت وسارتر وهيدغر ... هو خير دليل على ذلك. غير أنه كان بالإمكان استدعاء مواقف فلسفية أخرى لإغناء مناقشتنا للنص على أنحاء أخرى. غير أن المواقف الموظفة من قبل التلميذة كافية في نظري في المناقشة، خصوصا أنها منسجمة مع الأفكار الواردة في النص والتي أدت إلى استدعائها. وأنا أحسب أن شرط الانسجام هذا هو أهم شرط مطلوب في عملية استثمار المعارف الفلسفية أثناء المناقشة.
أما فيما يخص المعارف والأفكار الواردة في التحليل، فقد جاءت منسجمة ومعبرة عن محتويات عبارات النص، وإن كان استدعاء أمثلة ومعلومات أخرى إضافية كان سيمنح لتحليل النص غنى ودسامة أكثر.


أجدد تهاني الحارة للمترشحة على تألقها وحصولها على البطولة الفلسفية.  وهي لعمري أحسن بطولة يمكن أن يتوج بها الكائن البشري، مادامت تعكس قدرات ومواهب أفضل وأشرف جانب فيه وهو الجانب العقلي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.