محاورة فصلية حول تحليل نص لشبنغلر
1
بقلم: محمد الشبة
تتعلق هذه المحاورة الفصلية بتحليل نص للفيلسوف
الألماني أوزوولد شبنغلر، يحاول أن يرصد فيه دلالة التقنية عند الإنسان مقارنة مع
تلك التي توجد عن الحيوان.
وقبل أن
نقدم مختلف أشكال الحوارات التي جرت بين جماعة الفصل أثناء تحليل هذا النص، نقدم
لكم أولا النص موضوع التحليل والمناقشة؛
« إذا
أردنا فهم ما هو أساسي في التقنية، فعلينا ألا ننطلق من تقنية العصر الآلي، ولا من
المفهوم الخاطئ الذي يكون هدف التقنية بمقتضاه هو صناعة الأدوات والآلات. إن
التقنية ترجع، في الواقع، إلى أزمنة غابرة، علاوة على أن منشأها التاريخي غير
معروف، بل هي خاصية عامة تتعدى الإنسانية وتصل إلى قلب الحياة الحيوانية... إن نمط
حياة الحيوان، يتميز عن نمط حياة النبات، بكون الأول يستطيع التحرك في المجال، فهو
يمتلك نوعا ما، وبهذا القدر أو ذاك، استقلالا إزاء الطبيعة. إنه يدافع عن نفسه
ويحميها، فيضيف شيئا أو مضمونا لوجوده الطبيعي.
وإذا أردنا
أن نصل إلى دلالة التقنية، فعلينا الانطلاق من الروح أو النفس ومنها وحدها.
فالوجود الحر للحيوان هو صراع وليس شيئا آخرا غير الصراع: إنه خطته الحيوية... أما
التقنية، في دلالتها الإنسانية، فهي خطة للحياة (...) وهنا يظهر لنا الخطأ الثاني
الذي ينبغي تفاديه. لا نفهم التقنية من خلال وظيفة الأداة. إن ما يهم ليس هو شكل
الأشياء، ولا كيف نصفها، ولكن ما نفعله بها، وكيف نستخدمها. فما يهم، ليس السلاح
بل الحرب.
إن الحرب
الحديثة، التي تعتبر الاستراتيجية عنصرها الرئيسي تظهر لنا حقيقة أكبر، وهي أن
التقنية هي مسألة سلوك مهتم وهادف، وليست أبدا أشياء وموضوعات، وهذا بالضبط ما يتم
نسيانه...
إن كل آلة
تستخدم سيرورة معينة وتخدمها وتدين بوجودها إلى التأملات والاستباقات الخاصة التي
تحرك هذه السيرورة. فكل وسائل نقلنا ولدت وتم تطويرها انطلاقا من فكرة السياقة،
والتجديف، والإبحار والطيران، ولا انطلاقا من تمثلات للعربة أو للمركب.»
مصدر النص:
- أوسوولد شبنغلر،
الإنسان والتقنية، غاليمار، 1958، ص: 40-46.
- عن: المقرر الدراسي
"في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، مسلك الآداب والعلوم
الإنسانية ... طبعة 2006، ص: 80.
مؤلف النص:
O.Spengler
أوسوولد شبنغلر (1880-1936) فيلسوف ألماني
اهتم بدراسة الحضارة في إطار فلسفة التاريخ. من كتبه: "انحطاط الغرب"
و"الإنسان والتقنية".
يندرج هذا النص ضمن محور يتعلق بالتقنية
كخاصية إنسانية، حيث سعينا من خلال هذا النص إلى الإجابة عن إشكال يمكن صياغته كما
يلي: كيف يمكن تحديد مفهوم التقنية؟ وما الذي يجعلها خاصية إنسانية؟
بعد أن عملت على صياغة إشكال المحور مع
التلاميذ، طالبتهم بتقديم إجاباتهم الخاصة عن الإشكال المطروح في هذا المحور، فاعتبر
بعضهم أن التقنية عند الإنسان متطورة بينما عند الحيوان ثابتة، واعتبر البعض الآخر
أن التقنية عند الإنسان ترتبط بالفكر
والعقل بينما ترتبط عند الحيوان بالغريزة. وقادنا النقاش إلى اعتبار التقنية
بالمعنى الدقيق خاصية إنسانية، فهي قديمة قدم الإنسان، وتطورت مع مرور الزمن، ولها
تأثير كبير على مختلف حياته، وبقدر ما أن لها إيجابيات فإن لها سلبيات أيضا سواء على الإنسان أو الطبيعة.
بعد أن
قدم التلاميذ مختلف مقترحاتهم من أجل الجواب عن الإشكال، انتقلنا إلى قراءة نص الفيلسوف شبنغلر من أجل تحليله
وفق خطوات منهجية محددة تعود عليها التلاميذ، تتمثل أساسا في الاشتغال على مفاهيم
النص وأساليبه الحجاجية، مما يؤدي إلى استخراج أفكاره الجزئية وتحديد أطروحته
وإشكاله، وبعد ذلك مناقشته انطلاقا من مستويين أساسيين أحدهما هو مستوى التثمين
والآخر هو مستوى المناقشة.
قمت في البداية بقراءة النص، بعد أن ألححت
على التلاميذ من أجل الإصغاء والمتابعة. وبعد ذلك قلت لهم:
- من يقرأ النص؟
رفع العديد من التلاميذ والتلميذات أصابعهم
مبدين رغبتهم في القراءة، فأشرت إلى أحدهم بقراءة الفقرة الأولى من النص، وبعد
انتهائه من القراءة أشرت إلى آخر بقراءة الفقرة الثانية، وهكذا تمت قراءة النص من
طرف أربعة عناصر من التلاميذ، علما بأن النص كان مقسما بصريا إلى أربع فقرات. كما
تمت قراءة النص للمرة الثانية من طرف أربعة تلاميذ آخرين (ذكور وإناث). أما
القراءة الثالثة فقد خصصناها للاشتغال على النص.
تساءلت مع التلاميذ في البداية:
- إذا أردنا تقسيم النص إلى فقرات، فكم من
فقرة يتكون منها؟
فاختلفت أجوبة التلاميذ؛ إذ منهم من قسم النص
إلى فقرتين ومنهم من قسمه إلى ثلاث ومنهم من قسمه إلى أربع. وهذا ما جعلني أطالب
كل واحد منهم بتقديم المبررات أو المؤشرات التي سمحت له باعتماد هذا التقسيم أو
ذاك. فأما الذين قسموا النص إلى أربع فقرات فقد اعتمدوا في الغالب على التقسيم
الظاهري الموجود أصلا في النص، والذي ندركه أثناء نظرنا البصري في النص للوهلة
الأولى دون أي ننظر إلى محتواه الفكري بعقولنا. وهذا ما جعلني أنبه التلاميذ إلى
أنه يتعين علينا تقسيم النص حسب تمفصلاته المعرفية؛ أي بحسب انتقال الفيلسوف من
فكرة إلى فكرة أخرى مغايرة لها أو متجاوزة لها أو متكاملة معها.
وهكذا بعد نقاش دار بيننا حول مضامين النص،
استقر رأي الأغلبية على الاكتفاء بتقسيم النص إلى فقرتين فقط؛ إحداهما تمتد من
بداية النص إلى عبارة «...فيضيف
شيئا أو مضمونا لوجوده الطبيعي.»، حيث يقارن فيها الفيلسوف بين نمط حياة النبات
ونمط حياة الحيوان، والأخرى تبدأ بعبارة « وإذا أردنا أن نصل إلى دلالة
التقنية...» وتنتهي بانتهاء النص، وفيها يقارن صاحب النص بين التقنية عند الحيوان والتقنية عند الإنسان،
سعيا وراء إبراز خصائص التقنية الإنسانية وتميزها.
بعد تقسيم
النص إلى فقرتين أساسيتين، اتفقت مع المتعلمين على أن نبدأ تحليل النص انطلاقا من
الاشتغال على المفاهيم واستخراج الأفكار، وبعد ذلك نمر إلى الخطوات الأخرى. وهكذا،
بدأ أحد التلاميذ بقراءة الفقرة الأولى من النص. وحينما انتهى من قراءة الجملة
الأولى التي جاء فيها: « إذا أردنا فهم ما هو أساسي في التقنية، فعلينا ألا
ننطلق من تقنية العصر الآلي، ولا من المفهوم الخاطئ الذي يكون هدف التقنية بمقتضاه
هو صناعة الأدوات والآلات.»
سألت
التلاميذ:
- ما الهدف
الذي أعلن عنه صاحب النص؟
فأجابت
تلميذة:
- يريد
الفيلسوف أن يفهم ما هو أساسي في التقنية.
- ما معنى
ما هو أساسي؟
- ما هو جوهري.
- وإذا كان
جوهر الشيء يشير إلى ما هو حقيقي فيه، فمعنى ذلك أن شبنغلر يريد أن يفهم معنى
التقنية ويقف عند دلالتها الحقيقية.
- هذا
صحيح.
- وحينما
أراد فهم حقيقة التقنية، نفى أن يكون ذلك بالانطلاق من تقنية العصر الآلي. لماذا
نفى ذلك؟
ساد صمت
لهنيهة من الزمن، كسرته بالتساؤل:
- ما
المقصود بالعصر الآلي؟
فأجاب
تلميذ:
- العصر
الآلي هو العصر الحديث الذي تطورت فيه التقنية، وظهرت العديد من الآلات والاختراعات
التقنية.
- حسنا.
وإذا كان الفيلسوف ينفي أن يتم فهم الدلالة الحقيقية للتقنية انطلاقا من العصر
الحديث، فانطلاقا من أي عصر يمكن أن نفهم دلالتها
الأساسية؟
- انطلاقا
من العصر القديم.
- جيد.
ولماذا؟
- لأن
التقنية قديمة قدم الإنسان.
- جميل.
هذا بالضبط ما يبدو أن شبنغلر يقصده؛ لأننا رأينا أثناء دراستنا لأسطورة بروميثيوس
أن الآلهة زودت الإنسان منذ البداية بالقدرة على الصنع والابتكار، مما جعله منذ
البدأ يصنع بعض الأدوات لتلبية مختلف حاجياته اليومية. ولذلك يبدو أن الإنسان ينزع
بالفطرة إلى ابتكار التقنية، وأن أمر وجودها وفهم حقيقتها لا يرتبط بالعصر الآلي
الحديث، بل يتعين فهم دلالاتها في حياة الإنسان بالرجوع إلى الأزمنة الغابرة.
ولذلك نجد شبنغلر يؤكد في بداية الجملة الثانية من النص على أن «التقنية ترجع، في
الواقع، إلى أزمنة غابرة..»
وبعد هذا
التوضيح، تساءلت مع التلاميذ:
- يتحدث
شبنغلر في هذه الجملة الأولى من النص عن مفهوم خاطئ للتقنية، ما هو؟
أجابت
تلميذة:
- المفهوم
الخاطئ للتقنية هو الذي يجعل هدفها هو صناعة الأدوات والآلات.
- صحيح.
ولكن إذا لم يكن هدف التقنية هو صناعة الأدوات والآلات، فما هو هدفها يا ترى؟
لم يقدم أي
واحد من التلاميذ إجابة عن السؤال، مما جعلني أستطرد قائلا:
- قبل
الإجابة عن هذا السؤال، ما الفرق الممكن بين الأدوات والآلات؟
أجاب
تلميذ:
- الأدوات
كانت في القديم والآلات ظهرت في العصر الحديث.
- ممكن!
فالأدوات بسيطة وهي تابعة لعضلات الجسد، لاسيما اليدين، ومكملة لها، بينما الآلات
معقدة نسبيا وتمتلك آليات خاصة للاشتغال، بحيث يكتفي الإنسان بتشغيلها وتوجيهها
وتركها تشتغل بالكيفية التي صنعت عليها. فالآلات إذن هي نتيجة للتطور الهائل الذي
عرفته التقنية ابتداء من العصر الحديث.
لكن لنعد
إلى السؤال المتعلق بالهدف من التقنية، فقد نفى صاحب النص أن يكون هذا الهدف
متمثلا فقط في صناعة الأدوات والآلات. وهذا يجعلنا نتساءل: ما الهدف الحقيقي من
التقنية؟
أجاب أحد
التلاميذ:
- خدمة
الإنسان.
وأجاب آخر:
- تلبية
حاجاته ورغباته المختلفة.
فقلت:
- جيد. وإذن
فإن الهدف الحقيقي من التقنية لا يكمن في الأدوات والآلات في حد ذاتها بل فيما
نصنعه منها. فالهدف هنا لا يكمن فيما هو مادي، بل فيما هو معنوي. فالهدف مثلا من
صنع التلفاز ليس هو شكله أو محتوياته أو المواد التي صنع منها، بل الغايات
المتوخاة من صنعه، وهي غايات فكرية ودينية وفنية وتربوية وثقافية وغيرها. ومن هنا،
فالتقنية عند الإنسان ترتبط بالأهداف التي يرسمها لها الفكر والعقل.
وبعد أن
سجلنا المعطيات المفاهيمية والفكرية المتعلقة بهذه الجملة الأولى من النص في
السبورة وفي الدفتر، أومأت إلى التلميذ
بأن يواصل قراءة النص. وحينما انتهى من قراءة الجملة الثانية التي جاء فيها: «إن
التقنية ترجع، في الواقع، إلى أزمنة غابرة، علاوة على أن منشأها التاريخي غير
معروف، بل هي خاصية عامة تتعدى الإنسانية وتصل إلى قلب الحياة الحيوانية..»، قلت
للتلاميذ:
- أشار
شبغلر في بداية هذه الجملة إلى فكرة سبق أن أشرنا إليها، وهي أن التقنية قديمة قدم
الإنسان وأنها وجدت منذ أزمان غابرة. لكن لماذا اعتبر أن منشأها التاريخي غير
معروف؟
- معنى ذلك
أننا لا ندري متى ظهرت التقنية.
- أليس
لبعض الآلات التقنية بداية معروفة في الزمن، مثل آلة الطباعة أو الآلة البخارية أو
الطائرة مثلا؟
- نعم لها
بداية زمنية معروفة ومحددة.
- إذن، فهل
يعني ذلك أن للتقنية بداية معروفة في التاريخ؟
- نعم!!
- فمتى
ظهرت التقنية؟
صعب على
التلاميذ الإجابة، مما جعلني أتدخل بالقول:
- الواقع
أن علينا التمييز بين الأدوات أو الآلات التقنية من جهة، والتقنية من جهة أخرى.
وهذا التمييز هو الذي يسمح لنا بالقول إن للآلات والاختراعات التقنية منشأ تاريخي
معين، لكن ليس للتقنية عامة منشأ تاريخي محدد، لأنها بكل بساطة وجدت مع وجود
الإنسان. فهذا الأخير هو كائن صانع بطبعه، ومنذ أن وجد على وجه البسيطة وهو يميل
إلى ابتكار الأدوات من أجل استخدامها لتلبية أغراضه المختلفة. فلا يمكن، والحالة
هاته، تصور وجود للإنسان بدون تقنية، مهما صغر حجمها.
وقد تمت
الإشارة في هذه الجملة إلى أن التقنية خاصية عامة تتعدى الإنسانية وتصل إلى قلب
الحياة الحيوانية، ما معنى هذا القول؟
فأجاب أحد
التلاميذ:
- معناه أن
للحيوانات أيضا تقنية.
- صحيح؛
فالتقنية إذن من منظور صاحب النص مشتركة بين الإنسان والحيوان. لكن أين تتجلى
التقنية عند الحيوان؟ هل يمكن أن تقدموا لي أمثلة عن بعض التقنيات التي يقوم بها
الحيوان؟
فقدم بعض
التلاميذ أمثلة عن التقنية عند الحيوان:
- أعشاش
العصافير.
- خلايا
النحل.
- بيت
العنكبوت، الجحور...
- إذن فالتقنية بمعنى صنع أشياء محددة لا تقتصر
على الإنسان، بل نجدها أيضا عند الحيوان. لكن مع ذلك فالتقنية الحيوانية تختلف عن
التقنية الإنسانية، وهذا ما سيوضحه النص لاحقا.إكتشفوا المزيد من المحاورات الفصلية المتعلقة بتحليل النص الفلسفي في كتابنا التالي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.