تأملات في قيمة الشخص
بقلم:
محمد الشبة
قد يتبادر إلى ذهننا أن نتساءل: من هو الشخص؟ وهل الجنين أو الأحمق أو
المجرم (المخالف للقوانين الاجتماعية) أشخاص؟ وقد يجيب البعض بأن هؤلاء ليسوا
أشخاصا، انطلاقا من تعريفهم للشخص باعتباره كائنا عاقلا وواعيا أو اعتباره كائنا
أخلاقيا ومسؤولا من الناحية القانونية والاجتماعية. ويرى البعض الآخر أنهم أشخاص
ويمتلكون قيمة بشرية تجبرنا على ألا نعاملهم مثل الحيوانات والأشياء؛ وذلك إما
لأنهم أشخاص افتراضيون، مثلما هو الأمر بالنسبة للجنين أو البويضة المخصبة أو المواليد
إلى سن معينة، وإما لأنهم كانوا أشخاصا من قبل ومن المحتمل أن يصبحوا أشخاصا من
بعد، كما هو الشأن بالنسبة للأحمق أو المصاب بعاهة عقلية؛ إذ قد يكون الواحد منا
شخصا عاقلا وواعيا، فيحدث له، لهذا السبب أو ذاك، أن يفقد جزئيا أو كليا امتلاك ما
يسمى بالعقل الأخلاقي أو العقل الاجتماعي، أي لا يعود قادرا على التفكير وفق
القواعد القانونية والاجتماعية السائدة، ثم قد يحدث له أن يشفى من مرضه العقلي
فيصبح من جديد قادرا على التفكير والتصرف بما يناسب تلك القواعد والمبادئ.
وإما لأنهم خالفوا القوانين السائدة، فأصبحوا من منظور الناس مجرمين
وفاقدين للقيمة الاجتماعية والأخلاقية، لكن ذلك لا يجعلهم يفقدون قيمتهم ككائنات
بشرية؛ خصوصا ونحن نجد أن الشخص قد يؤمن بمحض إرادته وقناعته بأفكار وقيم مخالفة
لما يؤمن به مجتمعه، وبالتالي لا يجعله هذا فاقدا لقيمة الشخص إلا من منظور
الأحكام الأخلاقية الصادرة عن الغير، أما من منظور الأخلاق التي يؤمن بها هو كفرد،
فإنه يعتبر نفسه شخصا ممتلكا للقيمة الفكرية والإنسانية والأخلاقية.
ومن ناحية أخرى، فنحن نجد
السجناء الذين خالفوا القوانين الاجتماعية وتعرضوا للعقوبات الجاري بها العمل،
يتمتعون داخل السجون بحقوق عديدة لا يمكن أن تتمتع بها الحيوانات، فهم لا يفقدون
التقدير والاحترام بشكل نهائي، كما أنهم لا يحرمون من التمتع بشتى حقوق الشخص
البشري، خصوصا وأننا نجد من بين هؤلاء السجناء معتقلين سياسيين ومناضلين ومفكرين
أحرارا، ومظلومين ومتمردين على القوانين والقيم الاجتماعية. وهذا ما يجعلنا نستنتج
ربما بأن الفرد منا يظل شخصا، حتى وإن هو لم يؤمن بالقيم الاجتماعية ولم يتصرف
وفقا للقواعد والقوانين السائدة؛ إذ تظل كل هذه القيم والقوانين موضع تجاذب ونقاش
وجدل دائم، كما تتحكم في وضعها إرادات قوة ومراكز سلطة سارية داخل الجسم
الاجتماعي.
لكن مع ذلك، هناك من يتخذ الزاوية الأخلاقية أو الزاوية الاجتماعية
كمنطلق لتحديد قيمة الشخص. وقد يكون المنظور الأخلاقي صوريا وعاما وغير مشروط بأية
ظروف اجتماعية أو تاريخية، كما هو الحال عند الفيلسوف إيمانويل كانط الذي يجعل
قيمة الشخص رهينة بكونه ذاتا لعقل أخلاقي عملي، لكنه عقل كوني ومتعالي يصدر أوامر
صورية وقطعية ومطلقة، تجعل هذا المنظور الأخلاقي الكانطي لقيمة الشخص يطرح العديد
من الصعوبات والإحراجات، من أهمها إقصاؤه لفئة من الكائنات البشرية "غير
العاقلة"، واختلاف المبادئ والقواعد الأخلاقية باختلاف الأمم والشعوب
والبيئات الثقافية والاجتماعية، بل وباختلاف المذاهب والأفراد أيضا داخل المجتمع
الواحد.
كما قد يكون المنظور الأخلاقي
واقعيا ومنطلقا من القواعد والقوانين المتعارف عليها اجتماعيا، أو تلك التي تم
التعاقد حولها بين الأفراد وصيغت في إطار مدونات أو تشريعات أو دساتير. وفي هذه
الحالة، تصبح قيمة الشخص مرتبطة بمدى التزامه واحترامه لتلك القوانين المسطرة
والمتفق عليها. ومادام أنها قوانين وقواعد تختلف من مجتمع إلى آخر، فإن ما يحدد
قيمة الشخص في هذا المجتمع قد لا يحدده في مجتمع آخر؛ وكمثال على ذلك، فالمواهب
الفنية كالرقص أو الرسم أو الموسيقى قد تمنح الفرد قيمة عليا وترفع مكانته بين
الأفراد داخل مجتمع أوروبي أو حداثي، بينما يحصل العكس في مجتمع تقليدي ومحافظ؛ إذ
لا تقبل قيمه بمثل تلك المواهب ولا تعمل على تشجيعها. ولكن هذا لا يمنع، بطبيعة
الحال، أن توجد بعض القيم والقوانين المشترك بين الأمم والشعوب، والتي يمكن
انطلاقا منها أن تكون للشخص قيمة ثابتة تظل حاصلة لديه حيثما حل وارتحل.
ويمكن، في هذا الإطار، أن نتحدث مع الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون
راولز عن كفاءتين يتعين على الشخص امتلاكهما لكي يكتسب قيمته الاجتماعية، إحداهما
هي الكفاءة العقلية التي تتمثل في امتلاكه لمهارات عقلية ومهنية تمكنه من أن يكون
مفيدا لمجتمعه ومساهما بشكل إيجابي في التنمية الاجتماعية، ذلك أن الفرد الذي
يمارس عملا أو مهنة أو وظيفة ما يقدم من خلالها خدمات للآخرين هو ولا شك يعلو من حيث
المكانة والقيمة عن شخص عاطل لا يمارس أية وظيفة مفيدة للمجتمع، والأخرى هي
الكفاءة الأخلاقية التي تجعل الشخص مواطنا صالحا ينسج علاقات إنسانية رفيعة مع
الآخرين، وهو بالتالي يفيدهم بتصرفاته الأخلاقية السامية تلك، مادام أنه لا يمكن
أن ينتج عن السلوك الأخلاقي الحسن سوى الخير والنفع، بينما ينتج عن السلوك القبيح
الشر والضرر. وقد يحدث أن يكون الشخص ممتلكا لكفاءات عقلية ومهنية أو تقنية، بحيث
أنه ماهر مثلا في ممارسة بعض الصناعات أو أداء بعض الوظائف في الحياة العامة،
ولكنه بالمقابل قد يكون مفتقدا بهذه الدرجة أو تلك للكفاءة الأخلاقية، بحيث أنه
يكذب أو لا يفي بالعهود أو يمارس الزنا والقمار مثلا، ففي هذه الحالة يمكن القول
أن قيمة مثل هذا الشخص لا تزول بشكل نهائي، بل تنقص وتضعف، وذلك بحصول نقص في إحدى
الكفاءتين العقلية أو الأخلاقية ، مما يعني أن الشخص يستمد قيمته من اتحادهما
وتواجدهما معا في أفعاله وتصرفاته.
ويبدو على العموم، أنه قد تتضافر عدة محددات تساهم في منح الشخص قيمة
تعلو على كل الأشياء والحيوانات الأخرى؛ فهناك من جهة المحدد البيولوجي الذي يجعل
الإنسان يتميز قبليا وأوليا عن باقي أشياء الطبيعة، من حيث أنه كائن مزود بمعطيات
فطرية تميزه عنها ومن أهمها طبعا المكون العقلي، والمتمثل في ذلك العقل الفطري
الذي قال عنه الفيلسوف ديكارت أنه أعدل قسمة بين الناس، في حين أن باقي الحيوانات
لم تزود فطريا بأي نصيب منه. ولهذا، فبمجرد ما إن نتحدث عن الإنسان ككائن بشري
فإننا نكون ملزمين باحترام آدميته البشرية، وذلك بغض النظر عن أي أحكام اجتماعية
أو أخلاقية أو مذهبية. وبالتالي لا يجوز التعامل مع الكائن البشري، كيفما كان فكره
أو سلوكه، كمجرد وسيلة مثلما نفعل مع أشياء الطبيعة الأخرى، بل ينبغي احترامه
بموجب كرامته البشرية الأصلية والفطرية. وقد يرى البعض أن المعطى البيولوجي،
والمتمثل في امتلاك العقل والطبيعة البشرية الفطرية، لا يكفي وحده لكي يجعل الكائن
البشري شخصا، ذلك أن الخصائص التي تجعل منه كذلك لا يكتسبها إلا لاحقا، وبفضل
احتكاكه بالمجتمع والناس. وقد يكون هذا صحيحا فعلا، لكن مع ذلك فهناك من يتحدث عن
الشخص الافتراضي؛ أي ذلك الكائن المؤهل لكي يصبح شخصا في ما بعد، كما هو الأمر
بالنسبة للجنين أو المولود الصغير مثلا، وهو ما يلزمنا باحترامه وتقدير قيمته
كإنسان وكشخص افتراضي، إذ لا يعقل أن نتعامل معه كمجرد وسيلة مثله مثل الحيوانات
وباقي الأشياء. وربما يجعلنا هذا نتحدث عن قيمة أصيلة ومطلقة يتمتع بها الإنسان،
خارج إطار أية أحكام يمكن أن يصدرها الغير تجاهه.
ولكن من جهة أخرى، يبدو أن قيمة الأشخاص البشريين تتمايز ويفضل بعضها
على البعض الآخر بحسب محددات أخرى، تجعل قيمة بعضهم تعلو على قيمة الآخرين. ومن
أهم تلك المحددات نجد تفاوت الأشخاص في القدرات العقلية وما يترتب عنها من أعمال
ووظائف اجتماعية مناسبة لها؛ إذ بقدر ما يطور الشخص مواهبه وقدراته العقلية ويساهم
انطلاقا منها في خدمة مجتمعه وإفادة الآخرين، عن طريق مزاولة عمل مفيد ما، إلا ويصبح
مكتسبا لقيمة مميزة داخل المجتمع. وبقدر ما تتفاوت أهمية الأعمال ويتميز بعضها عن
البعض الآخر، تتفاوت وتتميز معها أيضا قيمة الأشخاص من الناحية الاجتماعية.
ولكن مهما امتلك الشخص من مؤهلات عقلية وفكرية، ومهما كان حاذقا وحاد
الذكاء، فإن تصرفه بشكل مخالف للمبادئ والقيم الأخلاقية المتداولة والمتعارف عليها
يجعل قيمته، ولا شك، تنقص وتضعف. وهذا يعني أن المحدد الأخلاقي يلعب هو الآخر دورا
مهما في منح الشخص قيمة بين الناس، ذلك أنه لا يكفي لكي تكون للشخص قيمة أن يكون
ممتلكا لعقل ذكي وقوي، بل لا بد أن يكون هذا العقل أخلاقيا.
ومن ناحية أخرى، وبالإضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن الإشارة فقط إلى أن
هناك خصائص أخرى تلعب أيضا دورا مهما في اكتساب الشخص لقيمة معينة داخل المجتمع؛
نذكر من ذلك امتلاكه لمواهب فنية أو رياضية أو تقنية أو علمية، من شأنها أن تجعل
الآخرين يقدرونه ويحترمونه ويثنون عليه، بل ويتلقى منهم الجوائز والأوسمة أحيانا.
وكذلك يمكن لثروة المرء أو شطارته التجارية أو موقعه الاجتماعي أن تساهم هي الأخرى
في منحه قيمة مميزة من منظور باقي أفراد المجتمع. ولكن مهما أقررنا لكل هذه
الجوانب والخصائص والمحددات من دور فعال في تحديد قيمة الشخص والرفع من شأنها،
فإنه ما لم تقترن بحسن الأخلاق وبالتحلي بالقيم الفاضلة، فإنها لن تتمكن من منح
الشخص البشري تلك القيمة السامية التي يستحقها. وهذا يعني أن غياب العنصر الأخلاقي
لا يلغي نهائيا عن الشخص تمتعه بأية قيمة بشرية، ولكنه مع ذلك يعتبر من أسمى وأقوى
العناصر تحديدا لتلك القيمة وإبرازا لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.