تأملات تساؤلية حول قيمة الشخص
عند إيمانويل كانط
بقلم: محمد الشبة
لقد وجد كانط في الخاصية الأخلاقية الأساس أو المعيار الذي يمكن أن
نحدد من خلاله قيمة الشخص. وفي
هذا السياق ميز كانط بين منظورين للإنسان؛ الأول حينما ننظر إلى الإنسان من زاوية
الأشياء أو الزاوية الطبيعية، أي باعتباره كائنا بيولوجيا وحيوانا عاقلا، وهنا لا
تكون لديه سوى قيمة بخسة ويكون قابلا للتقويم بسعر ويمكن التعامل معه كمجرد وسيلة،
والثاني يتمثل في النظر للإنسان كشخص وكذات لعقل أخلاقي عملي؛ وهنا تكون للإنسان
قيمة سامية تجعله يتجاوز كل سعر ويصبح غاية في ذاته ويمتلك كرامة تفرض على الآخرين
احترامه والتعامل معه على قاعدة المساواة.
وإذا كان الشخص يمتلك كرامة، فإن كانط يهمس له بأن يحافظ عليها عن
طريق التزامه بالأوامر المطلقة الصادرة عن عقله الأخلاقي العملي، وبألا يتصرف
بكيفية منحطة. وبطبيعة الحال فحرية الشخص لدى كانط تتمثل في انضباطه لهذه الأوامر
العقلية الأخلاقية ذات الطابع الصوري الصارم، أما اتباع الميولات الغريزية بدون
ضوابط من العقل الأخلاقي فهو الاستعباد بعينه.
وأود أن أشير هنا إلى فكرتين أساسيتين قد لا يتم الانتباه إليهما؛
الفكرة الأولى مفادها أن كانط يرى أننا إذا نظرنا إلى الإنسان ككائن بيولوجي له
جسم وغرائز، فهو لا يتميز عن الحيوانات وأشياء الطبيعة الأخرى، وأن قيمته بذلك
تكون رخيصة وقابلة للبيع والشراء مثلها مثل الحيوانات وباقي منتوجات الأرض. غير أن
كانط لا يكتفي بذلك، وهذا ما نود الإشارة إليه، بل يرى أن قيمة الإنسان تظل بخسة
ويمكن اعتباره كوسيلة وتقويمه بسعر حتى ولو نظرنا إليه كحيوان عاقل.
نعم فحتى ولو نظرنا إلى الإنسان كحيوان عاقل، فهو لا يمتلك بذلك إلا
قيمة رخيصة قد تكون أقل من أشياء الطبيعة الأخرى بما فيها الحيوانات. فهل امتلاك
الإنسان للعقل لا يكفي لكي يمنحه تميزا وقيمة عن باقي الأشياء والحيوانات؟ وما
المقصود بالعقل هنا عند كانط؟ وما هي مميزاته؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، لابد من التمييز في فلسفة كانط بين ما يسمى
بالعقل النظري وما يسمى بالعقل العملي. الأول يتكون من ثلاث ملكات فطرية هي التي
تؤهل الكائن لإنتاج المعرفة النظرية؛ وهي على التوالي الحساسية والفهم والعقل.
فالحساسية تحتوي على صورتي الزمان والمكان كإطارين قبليين ضروريين لأي إدراك حسي،
أما الفهم فيحتوي على مقولات قبلية تقوم بوظيفة تحويل المعطيات الحسية لإنتاج
معرفة كلية وضرورية، في حين يحتوي العقل على مبادئ هي الله والنفس والعالم مسؤولة
على إعادة تحويل معطيات الفهم ومنحها أعلى درجات من المعقولية. أما العقل العملي
فالمقصود به هو العقل الأخلاقي الذي يشرع للسلوك البشري، وهو عقل ينطلق من مسلمات
ضرورية لمنح الأفعال الأخلاقية معنى وغائية معقولة.
وما نود أن نوضحه من خلال هذا التمييز بين عقل نظري وآخر عملي، هو أن
العقل الأول بكل ما يحتوي عليه من أطر ومقولات ومبادئ قبلية غير كاف لكي يمنح
للشخص القيمة التي تجعله يسمو على الحيوانات. وهذا يعني أن قيمة الشخص عند كانط
تتحدد في العقل العملي الأخلاقي وليس في العقل النظري. لكن السؤال الذي يطرح نفسه
هنا هو: لماذا لا يكفي العقل النظري لمنح الإنسان قيمة الشخص التي تجعله يسمو على
الحيوانات وأشياء الطبيعة؟ ألا يكفي أن يستخدم الإنسان عقله النظري وينتج معارف
وأفكار لكي تصبح له قيمة الشخص؟ وما هو نوع هذه المعرفة التي ينتجها هذا العقل
النظري ومع ذلك لا تجعل له قيمة تسمو على قيمة الحيوانات مثلا؟؟
الواقع أن العقل النظري هو عقل معماري مزود بأطر ومقولات قبلية، هي
عبارة عن مواهب طبيعية منحها الإنسان ولم تمنحها الكائنات الأخرى، وهي مواهب قد
يستخدمها الإنسان في التخطيط لأفعاله وتدبير شؤون عيشه ورسم غايات لحياته، كما قد
يستخدمها للتصرف بذكاء يفوق الحيوانات، وأيضا يستخدمها لإنتاج أفكار ومعارف...غير
أن هذا التخطيط والتدبير والذكاء قد تنبثق عنه نتائج وأفكار لا تتطابق مع الإرادة
الخيرة الممثلة للقانون الأخلاقي المطلق. وهكذا قد يتصرف الإنسان بذكاء عقلي، غير
أنه قد يكون ذكاء مسخرا لتحقيق أهداف دنيئة ولا أخلاقية، كما قد يكون ذكاؤه هذا
قابلا للتقويم بسعر؛ كأن يمنح للفرد جوائز أو أرباح مادية كمقابل لاستخدام ذكائه
في إنجاز بعض الأغراض أكثر مما يفعله ذكاء الآخرين، أو العبد الذكي الذي يزيد سعره
عن العبد البليد أو قليل الذكاء.
كما قد يخطط الإنسان بذكائه فيبتكر أنماطا في العيش (ملابس، مساكن، طرق،أدوات ...) تفوق ما هو موجود لدى الحيوانات، لكن ما لم تنطبع هذه الأنماط بخصائص
الإرادة الأخلاقية الخيرة للإنسان فهي لا تمنحه القيمة الأخلاقية كشخص، تلك القيمة
التي لا نجدها لدى الحيوانات.
إن الاختلاف بين الإنسان والحيوانات من حيث الذكاء وقوة العقل النظري،
هو اختلاف طبيعي من جهة؛ أي أن الإنسان لا يسمو بموجبه عن مملكة الطبيعة ما دام أن
العقل والذكاء هنا هما موهبتان فطريتان، كما أنه اختلاف في الدرجة فقط؛ مادام أن
الحيوان أيضا له ذكاء ويدبر حياته على نحو من الأنحاء.
إذن فما يمنح للإنسان قيمة الشخص في نظر كانط، هو عقله الأخلاقي
العملي وليس ذكاؤه وعقله النظري. فالشخص هو بالتعريف ذات لعقل أخلاقي عملي، وهو
تعريف يصبح بموجبه الإنسان متميزا من حيث القيمة عن الحيوانات وأشياء الطبيعة،
وتصبح له كرامة لا تقدر بثمن. فالحيوانات مهما بلغ ذكاؤها من العلو لا يمكنها أن
تكون ذواتا أخلاقية، فهي تعوزها الخاصية الأخلاقية التي بموجبها يمنح كانط للشخص
قيمة.
لكن لابد من التساؤل هنا: هل هذه الخاصية الأخلاقية فطرية لدى الإنسان
أم مكتسبة؟ وإذا كانت فطرية، فلماذا يكون الإنسان من منظور الزاوية الطبيعية
مفتقدا لقيمة الشخص ويصبح مكتسبا لهذه القيمة حينما ينظر إليه كذات أخلاقية؟ وإذا
كانت مكتسبة، فهل يعني ذلك أن الناس الذين يقومون بأفعال غير مطابقة لمبادئ العقل
الأخلاق هم أناس مفتقدون لقيمة الشخص أم أنهم يظلون محتفظين بقيمتهم كأشخاص،
ويظلون جديرين بالاحترام حتى ولو ارتكبوا جرائم وأفعال دنيئة؟
إن هذا سيقودنا إلى التساؤل عن ماهية هذه الخاصية الأخلاقية ذاتها؛
فهل هي كفاءة عقلية أخلاقية فطرية، أي أنها استعداد فطري، أم أنها سلوك عملي يتجسد
على أرض الواقع؟؟
فإذا كانت الخاصية الأخلاقية استعدادا فطريا، ألا يعني ذلك أنها ستكون
موجودة لدى الجميع؟ وبالتالي سيكون كل الناس حائزون على قيمة الشخص حتى ولو نظرنا
إليهم من زاوية الطبيعة والفطرة، وهذا ما يبدو أنه يتعارض مع ما يقوله كانط حينما
يعتبر أن الإنسان لا يمتلك إلا قيمة بخسة حينما ننظر إليه من الزاوية الطبيعية
والحيوانية.
وإذا كانت الخاصية الأخلاقية سلوكا مكتسبا، ألا يعني ذلك أن المجرمين
والأشرار هم أفراد فاقدون للقيمة الأخلاقية للشخص؟ ألا يتعارض هذا مع قول كانط بأن
النذل أو الساقط يمتلك قيمة وكرامة حتى ولو كان سلوكه منافيا للأخلاق؟ هل يعني ذلك
أن قيمة الشخص وكرامته مرتبطة فقط بكونه يمتلك كفاءة أخلاقية حتى ولو كان فعله
منافيا لأوامر عقله الأخلاقي العملي؟
ثم ما المقصود بهذه الكفاءة الأخلاقية؟؟
هل هي قدرة فطرية لدى الكائن البشري للتصرف بطريقة أخلاقية أم أنها
معرفة مكتسبة تعني أن الشخص يكون على علم بالمبادئ الأخلاقية وله القدرة على
التصرف وفقا لها، لكنه مع ذلك لا يتصرف بموجبها، وبالرغم من ذلك يظل محتفظا بقيمة
الشخص؟ ثم إذا افترضنا أنها قدرة فطرية، ألا يكون بذلك كل الناس حائزون على قيمة
الشخص؟؟
وفي الأخير نتساءل: ماذا عن المواليد بدون دماغ؟ والفاقدين للقدرات
العقلية بسبب المرض أو غيره؟ والذين دخلوا حالة الغيبوبة؟ والأطفال الرضع أو حتى
سن معينة؟ والأجنة أو البويضة المخصبة؟ هل يمكن اعتبار هؤلاء حائزين على الكفاءة
الأخلاقية؟ هل هم أشخاص بموجب التصور الكانطي؟ هل أقصاهم كانط من دائرة تصوره؟ إذا
كان الجواب بالإيجاب، فما هي مبررات هذا الإقصاء؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.