الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

محاورة فصلية حول تحليل نص لكانط حول طبيعة الحكم الجمالي




محاورة فصلية حول تحليل النص الفلسفي
 كونية الحكم الجمالي


بقلم: محمد الشبة

يصدر الإنسان، إذ هو كائن واعي ومفكر، أحكاما متعددة تختلف بحسب اختلاف الموضوعات التي ينصب عليها الحكم. فالحكم المنصب على أكلة يختلف عن الحكم المنصب على سلوك أخلاقي، كما يختلف عن الحكم المنصب على فكرة فلسفية أو علمية، وفي نفس الوقت يختلف عن الحكم المتعلق بعمل إبداعي فني. ومن هنا نتحدث عن أحكام مختلفة تصدر عن الإنسان تجاه كل تلك الموضوعات؛ فنتحدث عن حكم حسي، وآخر أخلاقي وآخر معرفي وآخر فني.
وإذا ما وقفنا عند الحكم الجمالي الفني، فيمكننا البحث في طبيعته وأسسه ومعاييره وغاياته. فماهي خصائص الحكم الجمالي؟ هل هو موضوعي أم ذاتي؟ وهل هو عام أم خاص، واحد أم متعدد؟ وما هي الأسس التي يرتكز عليها الإنسان أثناء إصداره لحكم جمالي على عمل فني ما؟ وما الذي يتوخاه من وراء إصداره لذلك الحكم؟ وما الفرق بين الحكم الجمالي المتعلق بالإبداعات الفنية والحكم المنطقي المتعلق بالأفكار؟  
سنقدم لكم تحليلا فصليا لنص الفيلسوف كانط الذي سيقدم لنا إجابات، صريحة أو ضمنية، عن هذه التساؤلات الإشكالية.

النص:
«إن من لديه وعي بالإشباع الناتج عن موضوع خال من أية مصلحة، لن يكون بمقدوره سوى اعتبار هذا الموضوع محتويا بالضرورة على مبدإ عام لدى الجميع يسمح بذلك الإشباع.
وبالفعل فبما أن الإشباع لا يقوم على أي ميل للذات (أو أية مصلحة مفكر فيها)، بل بالعكس من ذلك، فمن يصدر الحكم يحس بأنه حر في علاقته بالإشباع المرتبط بالموضوع، فهو بذلك لن يستنبط أي شرط شخصي باعتباره مبدأ للإشباع يكون مؤسسا على شيء ما يفترضه موجودا لدى الآخر.
ونتيجة لذلك، يلزمه أن يؤمن بأن من حقه أن يعتبر كل واحد يتوفر على إشباع مشابه. فهو سيتحدث عن الجميل كما لو أن الجمال بنية للشيء، وكما لو أن الحكم منطقي (...) وهنا بالضبط يتشابه الحكم الجمالي مع الحكم المنطقي الذي يعتبر صالحا لدى الجميع.
غير أن هذه الكونية ليست نابعة من المفاهيم: فلا يوجد جسر للمرور من المفاهيم إلى الإحساس باللذة أو الألم.. لذا فالسعي نحو تملك قيمة جماعية، يلزم أن يرتبط بحكم الذوق مع الوعي بأن يكون خاليا من أية مصلحة، وبدون أن يكون ذلك السعي خاضعا لكونية مؤسسة موضوعيا.» 
مصدر النص:
·         Kant, Critique de la faculté de juger, éd. Vrin, 1968. PP.55-56.
·        عن: مقرر "منار الفلسفة"، السنة الأولى بكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة  2007، ص: 138.
مؤلف النص:



إيمانويل كانط (1724-1804)، فيلسوف ألماني رائد الفلسفة النقدية، من مؤلفاته: "نقد العقل الخالص"، و"نقد العقل العملي"، و"نقد ملكة الحكم".


تحليل النص

بعد أن ذكرت التلاميذ بأننا سنحلل هذا النص في إطار الإجابة عن الإشكال المتعلقة بطبيعة الحكم الجمالي، وما إذا كان حكما ذاتيا ومتعددا أم أنه حكم عام وكوني، قمنا بقراءة النص لمرتين متتاليتين، وفي المرة الثالثة بدأنا الاشتغال على النص.
وهكذا، قرأ أحد التلاميذ المقطع الأول من النص، والذي ورد فيه ما يلي:
«إن من لديه وعي بالإشباع الناتج عن موضوع خال من أية مصلحة، لن يكون بمقدوره سوى اعتبار هذا الموضوع محتويا بالضرورة على مبدإ عام لدى الجميع يسمح بذلك الإشباع.»
وبعد انتهائه من القراءة، تساءلت مع التلاميذ:
- يتحدث كانط عن وعي بالإشباع حاصل لدى شخص ما، فما نوع هذا الإشباع؟ هل هو إشباع جسدي؟
- لا. إنه إشباع روحي.
- حسن جدا. ولماذا هو إشباع روحي؟
- لأنه يتعلق بالأعمال الفنية.
- جيد. فالعمل الفني كاللوحة الفنية أو القطعة الموسيقية تمتعنا وجدانيا، وتحقق لنا إشباعا روحيا. وليس كالخبز الذي يشبعنا جسديا.
فابتسم التلاميذ لطرافة الفكرة الأخيرة. وقال أحدهم:
- بالفعل أستاذ؛ فالإشباع الروحي يختلف عن الإشباع الجسدي.
- كما يختلف أيضا عن الإشباع العقلي. فالأكلة تشبعنا جسديا، أما القطعة الموسيقية فتشبعنا روحيا، في حين أن الكتاب الفلسفي يشبعنا عقليا ومعرفيا.
- هذا صحيح.
- ولاحظوا معي في النص أن كانط يتحدث عن إشباع يتعلق بموضوع خال من أية مصلحة. فلماذا هو خال من أية مصلحة؟
- لأنه يتعلق بالإحساس فقط.
- بالفعل فنحن نستمتع بالموضوعات الفنية روحيا ووجدانيا. وحينما تعجبني أغنية  أو لوحة فنية، فإن إعجابي بها لا يتعلق بأية مصلحة أريد تحقيقها، بل الأمر يتعلق فقط بنوع من الإعجاب النفسي الحر.
وإذا كان الإشباع الفني خال من أية مصلحة، فماذا يترتب عن ذلك حسب كانط؟
- يترتب عن ذلك أن جميع الناس يشعرون بنفس الإشباع.
- هذا صحيح. ولكن لماذا يشعر الجميع بنفس الإشباع أمام هذا الموضوع الفني حسب النص؟
- لأن هذا الموضوع يتضمن بالضرورة مبدأ عاما لدى الجميع يسمح بذلك الإشباع.
- نعم هذا ما قاله كانط. وما معنى الضرورة هنا؟
- معناها أن الجميع ملزم بإبداء إعجابه بالموضوع الفني.
- وبطبيعة الحال، فليس أي موضوع فني سيحوز إعجاب الجميع، بل فقط العمل الفني الجميل. وهذا يعني أن الجميل في الفن حسب كانط هو جميل بشكل مطلق وعام، وأن الجميع يصدر نحوه نفس الحكم، مما يعني أن الحكم الجمالي هو حكم كوني وعام، وأن مصدر هذا الحكم هو ما يتركه العمل الفني من أثر في النفس والوجدان.
- وهل يعني هذا أن أغنية أعجبتني ستعجب جميع الناس؟
- بالنسبة لكانط، إذا كانت الأغنية جميلة فعلا، فإن جمالها هذا ينبغي أن يكون عاما وكونيا ويثير إعجاب جميع الناس بالضرورة. وبطبيعة الحال هذا رأي يخصه وسنناقشه فيما بعد.
وينبغي أن تلاحظوا معي أن كانط استخدم في هذه الجملة نوعا من الاستدلال المنطقي. فمن يكشف عنه؟
بدأ التلاميذ يتأملون في الجملة الأولى من النص التي قرأها زميلهم، ويبحثون عن الاستدلال الموجود فيها. وقد ساعدتهم بأن قلت لهم:
- تتكون هذه الجملة من عبارتين بينهما فاصلة. وفي بداية كل عبارة يوجد رابط لغوي، فمن يستخرج لي الرابطين اللغويين؟
فأجابت إحدى التلميذات:
- الرابط الأول هو "إن.."، والرابط الثاني هو "لن يكون..".
- نعم حسن. ومضمون الرابط الأول هو مقدمة، أما مضمون الرابط الثاني فهو نتيجة تستخلص من تلك المقدمة. ويمكن أن نعبر عن ذلك كما يلي: إذا حقق لي موضوع ما إشباع، وكان ذلك الموضوع خال من أية مصلحة، فيلزم عن ذلك أن ذلك الموضوع سيحقق إشباعا لدى جميع الناس.
وبعد هذا،  طالبت التلميذ بمواصلة قراءة النص. فقرأ ما يلي:
« وبالفعل فبما أن الإشباع لا يقوم على أي ميل للذات (أو أية مصلحة مفكر فيها)، بل بالعكس من ذلك، فمن يصدر الحكم يحس بأنه حر في علاقته بالإشباع المرتبط بالموضوع، فهو بذلك لن يستنبط أي شرط شخصي باعتباره مبدأ للإشباع يكون مؤسسا على شيء ما يفترضه موجودا لدى الآخر.»
وبعد انتهائه من القراءة، قلت للتلاميذ:
- لاحظوا أن كانط لا يزال يتحدث عن الإشباع.
- نعم إنه لا يزال يتحدث عنه.
وبماذا يصفه؟
- يقول أنه إشباع لا يقوم على أي ميل أو مصلحة ذاتية.
- صحيح. وهذا يعني أنه ميل خالص ناتج فقط عن الإعجاب الروحي، ولا يتعلق بأية منفعة أخرى. وبماذا وصف كانط الحكم المتعلق بهذا الميل؟
- قال عنه أنه حكم حر.
- وما معنى أنه حر؟
- أي أنه غير خاضع لأية ضغوطات.
- ومعنى ذلك أيضا أنه نابع من إعجاب روحي صادر عن الذات، دون أن يكون مرتبطا بأي إكراهات خارجية. فحينما تعجبني أغنية مثلا، فأنا أحكم عليها بمحض إرادتي أنها جميلة، ولا يلزمني بذلك أي أحد أو جهة ما.
- إن الحكم الجمالي عند كانط إذن هو حكم حر ومنزه عن أية منفعة شخصية.
- نعم هذا صحيح؛ فهو حكم تتحكم فيه دوافع روحية خالصة. لكن لاحظوا معي أن كانط استخدم هنا أيضا أسلوبا استدلاليا حيث انطلق من مقدمة أو فكرة واستنتج منها نتيجة أو فكرة أخرى. فمن يكشف لي عن الرابطين المنطقيين المستخدمين في هذا المقطع من النص؟
فأخذ التلاميذ يبحثون عنهما في هذا المقطع. وفجأة قالت إحدى التلميذات:
- الرابط الأول هو "بما أن.."، والرابط الثاني هو "فهو بذلك..".
- أحسنت. ويمكن القول أن الرابط "فهو بذلك.." يشبه الرابط "فإن..". ولهذا فالبنية المنطقية للجملة هي: "بما أن.. فإن..". فمن منكم يكشف لنا عن المضمون المعرفي لهذه الجملة؟
- بما أن الإشباع المتعلق بالموضوع الفني حر، فإنه لا يتعلق بأي شرط شخصي.
- كما لا يمكن لهذا الشرط الشخصي أن يكون لدى الجميع. ومعنى ذلك أن الحكم الجمالي، وإن كان نابعا من الذات، فهو يتعلق بالجمال الموجود في الموضوع الفني، والذي يخلق المتعة والإعجاب المتشابه لدى جميع الذوات. وهذا ما سيشير إليه كانط في الفقرة الموالية. فمن يتابع قراءة النص؟
رغب العديد من التلاميذ في القراءة، فأشرت إلى أحدهم بقراءة  الفقرة التالية في النص:
 « ونتيجة لذلك، يلزمه أن يؤمن بأن من حقه أن يعتبر كل واحد يتوفر على إشباع مشابه. فهو سيتحدث عن الجميل كما لو أن الجمال بنية للشيء، وكما لو أن الحكم منطقي (...) وهنا بالضبط يتشابه الحكم الجمالي مع الحكم المنطقي الذي يعتبر صالحا لدى الجميع.»
سألت التلاميذ:
- ما هو الاستنتاج الذي ينتهي إليه كانط في بداية هذه الفقرة؟
- يستنتج أن الإشباع متشابه بين الجميع.
- وبطبيعة الحال فالأمر يتعلق بالإشباع الجمالي الحرالمنزه عن أية مصلحة شخصية. ولهذا، ما هي طبيعة الحكم الجمالي عند كانط؟ هل هو حكم كوني وعام أم ذاتي وخاص؟
- إنه حكم كوني وعام.
- وماالذي يدل عليه في النص؟
- قيل أنه ناتج عن إشباع متشابه بين الناس.
- وماذا جاء في آخر هذه الفقرة؟
- جاء فيها أن الحكم الجمالي يتشابه مع الحكم المنطقي الذي يعتبر صالحا لدى الجميع.
- إذن، فالحكم الجمالي، مثله مثل الحكم المنطقي، هو حكم عام ومشترك بين جميع الناس.
- نعم.
- وما الفرق بينهما؟
- الحكم الجمالي يتعلق بالفن، والحكم المنطقي يتعلق بالفكر.
- جيد هذا صحيح. وبماذا نحكم على الأعمال الفنية؟
- بواسطة الإحساس.
- أو لنقل الذوق الفني ذا البعد الوجداني والروحي. وبماذا نحكم على الأفكار؟
- بواسطة العقل.
- وهذا العقل هو عقل منطقي، ومعاييره هي معايير كونية، لأن ما هو منطقي ومتماسك عقليا تقبل به جميع العقول. ولهذا يمكن القول بأن كونية الحكم المنطقي هي كونية عقلية ومنطقية. فهل كونية الحكم الجمالي هي من نفس الطبيعة؟
- لا.
- فما هي طبيعتها إذا لم تكن طبيعة عقلية؟
- إنها طبيعة وجدانية وروحية.
- إذن، فالحكم الجمالي حسب كانط هوحكم كوني ومشترك بين الجميع، وهنا يتشابه مع الحكم المنطقي، لكنه يختلف عنه من حيث أنه حكم نابع من معايير ذاتية وروحية وليس من معايير عقلية ومنطقية.
ولم يبق لنا في هذه الفقرة إلا أن ننظر في دلالة قول كانط بأن "الجمال بنية للشيء". فما ذا يقصد كانط بذلك؟ وعن أي شيء يتحدث؟
- إنه يتحدث عن العمل الفني.
- صحيح، لأن الجمال المقصودهو جمال الوضوع الفني كاللوحة أو القصيدة أو غير ذلك. لك ما معنى أن الجمال بنية للعمل الفني؟
- معنى ذلك أن العمل الفني هو عمل جميل.
- نعم هو عمل جميل. لكن من أين يستمد جماله؟ هل يستمده من ذاته أم من الشخص الذي يحكم عليه أنه جميل؟
- يبدو أنه يستمده من ذاته.
- وهذا هو معنى أن الجمال يشكل بنية داخلية له. فمفهوم البنية يحيل إلى تناسق العناصر وانتظامها، وهو ما ينطبق على الموضوع الفني الجميل. فالجمال كامن في بنيته الداخلية، مما يجعله يفرض جماله الفني هذا على الجميع ويحوز إعجابهم.
وبعدهذا انتقلنا إلى قراءة الفقرة الأخيرة من النص:
«غير أن هذه الكونية ليست نابعة من المفاهيم: فلا يوجد جسر للمرور من المفاهيم إلى الإحساس باللذة أو الألم.. لذا فالسعي نحو تملك قيمة جماعية، يلزم أن يرتبط بحكم الذوق مع الوعي بأن يكون خاليا من أية مصلحة، وبدون أن يكون ذلك السعي خاضعا لكونية مؤسسة موضوعيا.»
وبعد أن انتهت إحدى التلميذات من قراءة هذه الفقرة، قلت للتلاميذ:
- يتحدث كانط عن كونية نابعة من المفاهيم، فماذا يقصد بها؟
- هي كونية عقلية.
- وهل تتعلق بالحكم الجمالي أم الحكم المنطقي؟
- تتعلق بالحكم المنطقي.
- جيد؛ لأن المفاهيم ذات طابع عقلي، فهي كلمات يشحنها المفكر او الفيلسوف بدلالات عقلية محددة. وإذا كانت كونية الحكم المنطقي نابعة منالعقل والمفاهيم العقلية المنطقية، فمن أين تنبع كونية الحكم الجمالي؟
- تنبع من الإحساس أو الشعور.
- حسن. ولنقل أيضا أنها تنبع من الذوق الوجداني. ولذلك ذهب كانط إلى أنه لا يوجد جسر للمرور من المفاهيم إلى الإحساس، وذلك من أجل التمييز بين كونية الحكم المنطقي التي ترتكز على المفاهيم العقلية، وكونية الحكم الجمالي التي ترتكز على الذوق الوجداني أو الإحساس الفني.
وما معنى حديث كانط عن قيمة جماعية خاصة بالحكم الجمالي؟
- أي أن للعمل الفني قيمة جمالية لدى الجميع.
- فهو إذن جميل بالنسبة للجميع. وهذا ما يجعل الحكم المرتبط به ذا طابع كوني وعام. وهل يرتبط هذا الحكم بأية مصلحة؟
- لا إنه منزه عن أية مصلحة حسب كانط.
- ومعنى ذلك أنه مرتبط بالإعجاب الحر الذي يحققه في نفوس الجميع.
- نعم.
- وإذا لاحظتم معي، فإن كانط يتحدث في آخر النص عن كونية مؤسسة موضوعيا. فهل هي كونية تتعلق بالحكم المنطقي أم الحكم الجمالي؟
- إنها تتعلق بالحكم المنطقي.
- لماذا؟
- لأنها كونية موضوعية.
- وما معنى موضوعية؟
- أي لا دخل للذات فيها.
- جيد. ومعنى ذلك أن ما هو منطقي يفرض نفسه على كل ذات، انطلاقا من تماسكه المنطقي الداخلي الذي يجعله حقيقيا ومتفق عليه من طرف الجميع. وإذا كان الحكم المنطقي موضوعيا، فهل الحكم الجمالي أيضا موضوعي؟
- لا.
- بالفعل؛ فقد قال كانط بأن سعي حكم الذوق أو الحكم الجمالي إلى تملك قيمة جماعية أو كونية هو سعي غير خاضع لكونية مؤسسة موضوعيا. ونحن نعلم أن مفهوم موضوعي يأتي في مقابل مفهوم ذاتي. وهذا ما يسمح لنا بالقول بأن الحكم الجمالي عند كانط هو حكم ذاتي وليس موضوعيا.
- نعم هذا صحيح.
- لكن ما معنى أن الحكم الجمالي هو حكم ذاتي؟
- معنى ذلك أنه يختلف من ذات إلى أخرى.
- لا ليس هذا هو المقصود؛ فإذا كان يختلف من ذات إلى أخرى، فهو حكم متعدد، في حين أن كانط يعتبر الحكم الجمالي حكما كونيا.
- ولكن ما معنى أنه ذاتي؟
- هذا سؤال وجيه. وأعتقد أنه إذا لم يكن معناه أنه متعدد ويختلف من ذات إلى أخرى، فإن معناه هو أنه نابع من الذات، أو أنه يتعلق بالإحساس أو الذوق النابع من الذوات المتلقية للعمل الفني. وفي النص إشارة إلى ذلك حينما يقول كانط: «فالسعي نحو تملك قيمة جماعية، يلزم أن يرتبط بحكم الذوق.» والذوق المقصود هنا هو ذلك الإحساس النابع من الذات. إذن فالحكم الجمالي هو حكم كوني وفي نفس الوقت حكم نابع من الذات والإحساس؛ ومعنى ذلك أنه يصدر عن جميع الذوات نفس الإعجاب تجاه العمل الفني الجميل. ومن هنا يمكن الحديث عن كونية ذاتية تتعلق بالحكم الجمالي وكونية موضوعية تتعلق بالحكم المنطقي؛ لأن الأول يتعلق بالإحساس والثاني يتعلق بالعقل.
وإذا عدنا الآن إلى البنية الحجاجية المميزة لهذه الفقرة الأخيرة من النص، فما هي الأساليب الحجاجية المستخدمة فيها؟
- أسلوب الاستدراك.
- ما هوالمؤشر الدال عليه؟
- "غير أن..".
- وماذا يستدرك؟
- - يستدرك قائلا بأن كونية الحكم الجمالي غير نابعة  من المفاهيم.
- بالفعل. ومعنى ذلك أن الحكم الفني الجمالي وإن كان كونيا إلا أن كونيته ليست عقلية ومفاهيمية مثل الحكم المنطقي، بل إنها كونية وجدانية أو  ذوقية.
وهل من أساليب حجاجية أخرى في هذه الفقرة؟
- أسلوب النفي.
- ما هو المؤشر الدال عليه؟
- "لا يوجد.."
- وماذا ينفي؟
- ينفي أن يكون هناك جسر يجعلنا نمر من المفاهيم إلى الإحساس.
- بالفعل هذا  صحيح. وهو يقصد التمييز بين الحكم المنطقي المرتكز على العقل والمفاهيم، والحكم الجمالي المرتكز على الإحساس والوجدان.
وقال تلميذ آخر:
- هناك أسلوب الاستنتاج.
- وما الذي يدل عليه؟
- "لذا فالسعي..."
- وماذا يستنتج؟
- يستنتج أن القيمة الجماعية للحكم الجمالي ترتبط بالذوق.
- جيد. ومعنى ذلك أن الحكم الجمالي هو حكم كوني وفي نفس الوقت ذوقي أو وجداني.
وهل من أسلوب حجاجي آخر؟
- هناك نوعمنالنفي في الجملة الأخيرة.
- أين يتمثل؟
- "وبدون أن يكون..."
- نعم إنه ينفي أن تكون كونية الحكم الجمالي موضوعية، ومعنى ذلك أنها ذاتية بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقا.
وهنا انتهينا من تحليل النص. وقد سجلنا في الدفاتر النتائج التي تمخض عنها النقاش المتعلق بالتحليل كما يلي:
* البنية المفاهيمية:
- وعي بالإشباع: إدراك لما يحصل من ارتياح ومتعة وجدانية وجمالية يخلفها العمل الفني في الذات المتلقية.
- خال من أية مصلحة: أي أنه إشباع يرتبط فقط بالمتعة الروحية، ولا يستهدف أية منفعة مادية أو غيرها.
- مبدأ عام: أساس روحي ووجداني مشترك بين جميع الناس.
- الحكم: المقصود هنا هو الحكم الجمالي الذي هو إصدار رأي نابع من الذات ومتجه نحو العمل الفني لتحديد درجة جماليته.
- الجمال بنية للشيء: أي أن الجمال كامن في الموضوع الفني ويشكل أساسا ومرتكزا له.
- العلاقة بين الحكم الجمالي والحكم المنطقي: يتشابهان في خاصية العمومية والكونية، غيرأنهما يختلفان في كون الحكم الجمالي يتعلق بالموضوعات الفنية ويرتبط بالذوق الوجداني والجمالي، في حين أن الحكم المنطقي يتعلق بالموضوعات المعرفية والفكرية (المنطق والرياضيات مثلا)، ويتأسس على المبادئ والقواعد والمفاهيم العقلية.
- المفاهيم: هي كلمات ذات دلالات عقلية ومعرفية، قد تكون فلسفية أو علمية، وتستخدم لإنتاج الأفكار أو النظريات.
- قيمة جماعية: أي أن جميع الناس يتفقون حول جمالية الموضوع الفني. مما يجعل الحكم الجمالي هنا حكما كونيا.
- كونية مؤسسة موضوعيا: أي أنها كونية عقلية ومنطقية. وهذا الأمر لا ينطبق على الحكم الجمالي الفني حسب كانط، لأنه حكم نابع من الذات ويتأسس على الذوق وليس على العقل والمفاهيم. ومن هنا فكونية الحكم الجمالي هي كونية ذاتية، لكن بمعنى أنها نابعة من الذات وليس بمعنى أنها تختلف من ذات لأخرى، مادامت كونية وليست متعددة.
* الأفكار الأساسية:
- إذا حصل إشباع وجداني خلو من أية مصلحة شخصية لدى فرد ما بصدد موضوع ما، فهذا يسمح بالقول بأن هناك مبدأ عام مشترك بين جميع الناس يجعلهم يحسون بنفس الإشباع أمام ذلك الموضوع. وهذا يدل على أن الموضوع الفني يحتوي على خصائص توجد في ذاته هي التي تجعله جميلا، وتجعل جماله هذا كونيا يحوز إعجاب الجميع.
- الإشباع الجمالي المتعلق بالموضوع الفني هو إشباع حر وعام، وخال من أية مصلحة ذاتية.
- إن الحكم الجمال الصادر عن الإعجاب الحر بالموضوع الفني هو حكم كوني ومشترك بين جميع الناس. وهنا نجده يشبه الحكم المنطقي مادام أن هذا الأخير هو أيضا حكم عام وكوني، ويفرض نفسه على الجميع.
- يتأسس الحكم الجمالي على الذوق والإحساس الوجداني وليس على العقل والمفاهيم، كما أنه لا يرتبط بأية منفعة خاصة. ومن هنا فبالرغم من الطابع الكوني الذي يميز الحكم الجمالي، إلا أنه حكم يتأسس على الوجدان والذوق الصادر عن الذاتية. وهذا ما يسمح بالحديث مع كانط عن "كونية ذاتية" تميز الحكم الجمالي، في مقابل كونية موضوعية تميز الحكم المنطقي.
* الأساليب الحجاجية:
- أسلوب التأكيد (إن من لديه..):
← يؤكد صاحب النص على أن الذي يتحقق له وعي بإشباع وجداني نحو موضوع ما غير مرتبط بأية مصلحة ذاتية، فهو يدرك على أن الجميع يحسون تجاهه بنفس الإشباع، وأن هذا الأخير ذو طبيعة عامة.
- أسلوب الاستدلال المنطقي (فبما أن الإشباع.. فهو بذلك لن..):
← إذا كان الإشباع الروحي المرتبط بالموضوع الفني إشباعا حرا وغير مقيد بأية مصلحة ذاتية، فإنه لن يؤدي إلى افتراض وجود أي  شرط ذاتي هو أساس هذا الإشباع الحاصل. وهذا يعني أنه يوجد شرط موضوعي كامن في العمل الفني نفسه، ويسمح له بأن يكون حائزا على جمالية موضوعية وعامة.
- أسلوب الاستنتاج (ونتيجة لذلك..):
← يستنتج صاحب النص بأن من يتحقق لديه إشباع جمالي حر ومنزه عن أية مصلحة ذاتية، فهو يفتضر أن الآخرين أيضا يتحقق لديهم نفس الإشباع، مما يجعل الموضوع الفني في هذه الحالة حائزا على خاصية الجمال في ذاته، ومشابها للحكم المنطقي.
- أسلوب الاستدراك (غيرأن..):
← يستدرك صاحب النص بأن تكون كونية الحكم الجمالي مؤسسة على المفاهيم العقلية، مثلما الأمر بالنسبة للحكم المنطقي، لأنه لا يمكن المرور من العقل والمفاهيم إلى الإحساس الوجداني والذوق الجمالي.
- أسلوب الاستنتاج (لذا فالسعي..):
يستنتج صاحب النص بأن كونية الحكم الجمالي هي كونية ذاتية (بمعنى نابعة من الذات) ترتبط بالذوق وغير مؤسسة موضوعيا، كما أنها منزهة عن أية منفعة.
وبعد اشتغالنا على مفاهيم النص ومنطقه الحجاجي واستخراجنا لأفكاره الأساسية، سهل علينا بعد ذلك تحديد أطروحته وصياغة إشكاله.
ومن أجل تحديد أطروحة النص، توجهت إلى التلاميذ بالسؤال:
- بماذا يتميز الحكم الجمالي حسب كانط؟
- هو حكم كوني وعام.
- ومن أين ينبع؟
- من الإحساس والوجدان.
- إذن فهو حكم وجداني ونابع من الذات.
- نعم.
- وما هي أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بين الحكم الجمالي والحكم المنطقي؟
- إنهما يتفقان في خاصية الكونية، إلا أن كونية الحكم المنطقي مفاهيمية وعقلية، بينما كونية الحكم الجمالي وجدانية وذوقية.
- ويمكن القول أيضا أن كونية الحكم المنطقي موضوعية وكونية الحكم الجمالي ذاتية.
وانطلاقا من هنا، صغنا أطروحة النص على النحو التالي:
*  أطروحة النص:   
الحكم الجمالي هو حكم كوني ومشترك بين الجميع، إلا أن كونيته ليست منطقية بل وجدانية لأنه يتأسس على الإعجاب الحر الخالي من أية منفعة والصادر عن الذوق الجمالي والوجداني، ولا يتأسس على العقل والمفاهيم كما هو الحال بالنسبة للحكم المنطقي.
وبعد هذا، قلت لتلامذتي:
- ما هي الأسئلة الأساسية التي يسعى النص إلى الإجابة عنها؟
فقدم بعض التلاميذ اقتراحات من قبيل:
- ما هي خصائص الحكم الجمالي؟
- ما الفرق بين الحكم الجمالي والحكم المنطقي؟
- هل الحكم الجمالي عام أم خاص؟
- هل الحكم الجمالي كوني أم متعدد؟
- على ماذا يتأسس الحكم الجمالي؟
وانطلاقا من كل تلك الأسئلة المتداخلة والمترابطة صغنا الإشكال في السبورة كما يلي:
*  إشكال النص:
ما طبيعة الحكم الجمالي؟ هل هو حكم كوني ومشترك أم أنه يختلف من ذات إلى أخرى؟ وما هي أوجه التشابه والاختلاف بين الحكم الجمالي والحكم المنطقي؟
وفي الأخير قمنا بمناقشة النص، وذلك عن طريق تحفيزالتلاميذ لإبداء رأيهم في النص، إمابتثمين بعض أفكاره أوبنقدبعضها الآخر. وقد أسفرت مناقشتنا للنص، والتي تمت بشكل حواري وتفاعلي، على ما يلي:
*  مناقشة النص:
- مستوى التثمين:
نوافق كانط حول الفكرة المتمثلة في كون الحكم الجمالي يتأسس على الذوق وليس على العقل والمفاهيم العقلية، لأنه حكم نابع من الوجدان والإحساس العاطفي الذي يخلفه الأثر الفني في الذات. فمصدر الحكم هنا هو الذوق الوجداني وليس العقل المعرفي أو المنطقي.
- مستوى النقد:
غيرأننا لا نتفق مع كانط تماما حول الطابع الكوني الذي يفترض أنه يميز الحكم الجمالي، لأنه إن حصل في بعض الحالات المتعلقة بالأعمال الفنية العظيمة والعبقرية، فإنه لا يحصل فيما يخص باقي الأعمال الفنية الأخرى، بحيث يختلف الحكم الجمالي المتعلق بها من ذات متلقية إلى أخرى، وذلك باختلاف الأذواق والمرجعيات الثقافية والاجتماعية. مما يجعل الحكم الجمالي مختلفا ومتعددا بدل أن يكون كونيا وعاما.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.