الفيلسوف ألان مدرسا للفلسفة
قراءة في شهادة لأحد متعلميه
بقلم: محمد الشبة
Philosophe
Alain (Emile Chartier)
يقول أحد
متعلمي الفيلسوف المدرس ألان ALAIN (إميل شارتيي
1868-1951):
« وسط الجدار، كانت
هناك سبورة سوداء… كان التلاميذ يسجلون عليها عادة، قبل الدرس، بعض الأفكار التي
وجدوها في الكتاب الذي قرؤوه، أفكار ظهرت لهم جميلة، لهذا السبب كانوا يتمنون سماع
تعليق "ألان"[الذي كان] يعجب بها غالبا، ولكن ليس دائما. هكذا كان يبدأ
الدرس يعيد "ألان" الإنشاءات أو
الأبحاث التي سلمناها إياه في الدرس السابق. كنا نسمي "الأبحاث" تلك المحاولات التي نكتبها
وفق رغبتنا حول مواضيع مختارة بحرية من طرفنا. لقد كان يدعونا بالفعل إلى الكتابة
أكثر ما يمكن، مقتنعا بأن تعلم الكتابة بشكل جيد يعني تعلم التفكير بشكل جيد.» (مأخوذ
عن كتاب : عبد القادر المذنب "الفلسفة: فكر وبيداغوجيا"، دار الثقافة،
الدار البيضاء، 2000م.)
ما يميز تجربة الفيلسوف ألان كمدرس للفلسفة، هو أنه كان يحث تلامذته
على القراءة والكتابة، وكان يترك لهم الحرية لكي يختاروا ما يقرؤونه حسب رغباتهم.
ولكنه كان بكل تأكيد يقدم لهم توجيهات ونصائح تتعلق بما ينبغي قراءته، ولكنه يترك
لهم بعد ذلك حرية الاختيار وفقا لميولاتهم الذاتية. ولعل لهذا الأمر دلالته
المهمة؛ إذ من شأن التلميذ أن يستفيد مما يقرِأه وهو راغب فيه، أكثر من استفادته مما يقرأه وهو غير
راغب فيه.
وعلى العموم، فإن تشجيع المدرس لتلامذته على القراءة هو مسألة
غاية في الأهمية؛ ففعل القراءة المستمر يكسب المتعلم قدرات لغوية وتعبيرية لا
يمكنه أن يكتسبها من خلال أي مصدر آخر، غير قراءة النصوص والكتب. ذلك أنه عندما
يقرأ نصوصا لمبدعين في مجال الأدب أو الفكر، فإنه مع مرور الوقت وتوالي القراءة
يدمج لديه أساليب تعبيرية مختلفة، تمكنه بعد ذلك من أن يكون لنفسه طريقته الخاصة
في التعبير، والتي تستمد قوتها وجودتها ولا شك من قراءاته المختلفة السابقة. ومن
ناحية أخرى، ففعل القراءة المتكرر يجعل صاحبه يكتسب أيضا مهارات وقدرات ومناهج في
التفكير والتحليل والكتابة. ولهذا، فقد استخلصنا من خلال تجربتنا الواقعية مع
التلاميذ أن الذين لهم رصيد في المطالعة أكثر من غيرهم، هم الذين يكتبون مواضيع
إنشائية فلسفية بشكل أفضل. فنحن وإن كنا نقدم للتلاميذ منهجية الإنشاء الفلسفي
بشكل نظري، وندربهم على مختلف المهارات والقدرات المتعلقة بها، ولكن مع ذلك فهؤلاء
التلاميذ الذين يطالعون ويمارسون فعل القراءة الشخصية، هم الذين يتفوقون على
زملائهم في الكتابة الفلسفية. ولعل وعي الفيلسوف "ألان" بهذا الأمر، هو
الذي جعله يحث ويشجع تلامذته على ممارسة فعل المطالعة وقراءة النصوص والكتب.
ومما لا يخفى على أحد أن فعل القراءة، فضلا عن أنه يزود
التلميذ بمهارات لغوية وقدرات منهجية، فهو يغني رصيده أيضا بمعارف ومضامين فكرية
غنية ومتنوعة. ذلك أنني حينما أقرأ للمبدعين الكبار، فإنني أجدهم يعبرون عن
أفكارهم بأساليب إبداعية جيدة، ووفقا لطرق ممنهجة، مما يجعلني كقارئ أضرب ثلاثة
عصافير بحجر واحد؛ بحيث أكتسب في نفس الوقت، وأنا أقرأ، الأفكار والمناهج
والأساليب اللغوية والتعبيرية.
وقد كان الأستاذ الفيلسوف ألان يترك الحرية لتلامذته، لكي
يدونوا في السبورة قبل الدرس ما يشاؤون من أفكار قرؤوها في الكتب التي تقع بين
أيديهم. وبعد ذلك يدخل معهم في حوارات ونقاشات حولها. وقد كان التلاميذ يتمنون أن
يعجب مدرسهم ألان بما كتبوا من أفكار على السبورة، لكن يبدو أن هذا الإعجاب لا
يتأتى لهم دائما. وهذا يعني أن ألان كان يحاورهم ويناقشهم فيما كتبوه من أفكار على
السبورة، ويتبادل معهم الحجج والجدال الفكري، لكي يفضي هذا السجال الحجاجي إلى
نتائج معينة.
وهكذا نلمس في الممارسة الفصلية للفيلسوف ألان، بالإضافة إلى
التحفيز على القراءة، خاصية أخرى هي التحفيز على الحوار الحر القائم على المحاججة
وإقناع الطرف الآخر بأدلة عقلية مقبولة. وهو ما يجعلنا نعثر عند الفيلسوف المدرس
ألان على ملامح درس حواري ومفعم بالحياة؛ فقد كان ألان كفيلسوف مدرس لا يحتكر
المعرفة لصالحه ولا يستأثر بها لوحده، بل كان يطرحها على طاولة النقاش مع تلامذته،
مما يجعلهم يحسون ولاشك بقيمة ذواتهم، ويتربون على الإنصات إلى الطرف الآخر
المحاور، واحترام رأيه ووجهة نظره. ولعل القارئ لنصوص ألان الفلسفية يدرك أنه يكثر
من تقديم الأمثلة المستمدة من الحياة الواقعية واليومية، من أجل أن يوضح أفكاره
الفلسفية أو يدافع عنها، أو يفند أخرى غيرها. ولعل هذه الطريقة التي يسلكها ألان
الفيلسوف في نصوصه، مستمدة ولا شك من ممارسته الفصلية في تدريس الفلسفة، مما يعني
أنه كان يفتح آفاق الدرس الفلسفي على الحياة، ويفكر مع تلامذته في قضايا الفلسفة
وإشكالاتها انطلاقا من استحضار حياة المتعلمين وتجاربهم اليومية في هذه الحوارات
الفصلية.
وإذا كان تلامذة الفيلسوف ألان يكتبون أفكارهم على السبورة،
لكي تكون منطلقا لبداية الدرس. فإننا نجد في هذا الفعل التدريسي دلالة مهمة، تتمثل
أساسا في أن نجعل ذات المتعلم هي المنطلق الذي يبنى من خلاله الدرس الفلسفي. وهذا
يشبه، إلى حد ما، لحظة الوضعية المشكلة التي نعتمدها الآن في تدريس الفلسفة
بالمغرب؛ بحيث قبل أن تبدأ الدرس أو أحيانا الحصة، فأنت تضطر كمدرس لكي تنطلق من
وضعيات معاشة في الحياة أو مكتوب عنها في النصوص، لكي تتمكن من إقناع التلاميذ
بأهمية ما سيدرسونه من إشكالات أو قضايا فلسفية، ولكي تجعلهم ينخرطون فيها ويتبنونها
وكأنها إشكالات تهمهم بقدر ما تهم الفلاسفة. وعلى العموم، فتجرأ تلامذة ألان على
كتابة أفكار في السبورة قبل الدرس، يدل على أن مناخ الدرس الفلسفي كان من جهة
مناخا حرا وديمقراطيا، كما يدل من جهة أخرى على أن الفيلسوف ألان كان يدرك أهمية
جعل المعطيات الذاتية الموجودة عند التلميذ نفسه، مناسبة لمناقشة الأفكار
الفلسفية، مادام أن الفلسفة تمس هذه الذات المتعلمة ولا تبتعد عنها أبدا.
وإذا كان المدرس الفيلسوف ألان يشجع تلامذته على القراءة،
فإنه كان يحثهم أيضا على الكتابة، إيمانا منه بأهمية هذه الأخيرة في تعويد التلميذ
على التفكير بكيفية جيدة. فكما هو معلوم، فإن فعل الكتابة وممارستها يجعل صاحبها
ينضبط ويلتزم بجملة من القواعد والضوابط التي قد لا توجد بالضرورة، وبنفس الشكل،
في الحوار الشفوي. فالكتابة الفلسفية مثلا تعتمد على استراتيجيات وآليات ومهارات
وقدرات لغوية وعقلية؛ كالتمهيد وصياغة التساؤلات الإشكالية، والتحليل من خلال بناء
المفاهيم والربط بينها والقدرة على استنباط الأفكار واستخراجها، وكذلك مناقشتها من
خلال حجج وأدلة عقلية وواقعية مقبولة ومتماسكة. وكل هذه التقنيات التي تستدعيها
الكتابة كفعل لغوي وعقلي، أو غيرها من التقنيات والمهارات التي لم نذكرها، من
شأنها أن تجعل التلميذ يتدرب على ممارسة قواعد التفكير المنهجي والمتماسك، لأن
الاتساق بين الأفكار والترابط العضوي والمنطقي بينها هو أهم سمة تميز التفكير
الفلسفي، والذي هو فكر مكتوب قبل كل شيء. ولذلك لا بد للتلميذ، إذا ما أراد أن
يفكر فلسفيا، أن يكتب أيضا بطريقة فلسفية. فالكتابة، والحالة هاته، هي جسر عبور
لترسيخ مقومات التفكير الفلسفي الجيد.
ومن هنا، وإيمانا منه بأهمية فعل الكتابة، فقد كان الأستاذ
الفيلسوف ألان يطالب تلامذته ببحوث وعروض، كانوا ينجزوها ويقدموها له، لكي يعيدها
لهم في حصص قادمة ويعمل على مناقشتهم فيها، ويوجه لهم نصائح تخص أساسا فعل الكتابة
كفعل ينبني على قواعد ومبادئ، هي قواعد ومبادئ التفكير السليم ذاتها.
وهكذا نكون من خلال هذه الشهادة لأحد متعلمي الفيلسوف المدرس
ألان، أمام درس ينبني على قيم الحرية والحوار والمحاججة، ويؤمن بقدرات المتعلم
ويراهن عليه في بناء الأنشطة التعليمية والتعلمية؛ فهو درس
حواري وتشاركي يثمن ذات المتعلم ويحفزها على التفكير الإيجابي، ويحثها على
المساهمة بعطاءاتها الخاصة في إنجاز الأنشطة التعلمية. كما أنه درس مفعم بالحياة
مادامت رغبة المتعلم حاضرة فيه بقوة، وهي رغبة لا يمكن أن تكون نابعة إلا مما
يعيشه التلميذ في وسطه الاجتماعي، وما يسعى إلى تحقيقه وتجسيده في هذا الوسط نفسه.
هذا فضلا عما عرف عن الفيلسوف ألان من استخدام مكثف للأمثلة في كتاباته الفلسفية،
مما يعني أن الرجل يفكر فلسفيا انطلاقا من الحياة نفسها، وهو نهج ولا شك أحرى أن
يجسده مع تلامذته، حينما يكون أمام عقول صغيرة تواجه تحديات فهم فكر مفاهيمي
ومجرد، يحتاج إلى الأمثلة كوسائل ديداكتيكية وبيداغوجية ضرورية وأساسية، من أجل
تبسيط الأفكار الفلسفية ونقلها إلى أذهان المتعلمين. كما أن الدرس الفلسفي
الألاني (نسبة إلى ألان) هو درس ، كما تبين لنا، يؤمن
بفعلي القراءة والكتابة، كفعلين
ضروريين من أجل تقوية القدرات اللغوية والتفكيرية لذوات المتعلمين،
وإغناء رصيدهم الفكري والمعرفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.