إشكال وجود الغير
قراءة في الكتب المدرسية الثلاث
بقلم: محمد
الشبة
نود من خلال هذه
المقالة أن نقف عند المحور الأول من مفهوم الغير، المتعلق بوجود الغير، وذلك بهدف
النظر في طبيعة الإشكال الذي يجب معالجته فيه.
1-في
أهمية الأشكلة ضمن لحظات بناء الدرس الفلسفي:
غني عن البيان أن
الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها بنيان الدرس الفلسفي هي إشكالاته؛ فما لم نضبط
هذه الإشكالات ونصوغها بدقة، فإننا سنختلف في إنجازنا لدروسنا إلى حد التناقض
أحيانا. بطبيعة الحال الاختلاف شيء محمود بين المدرسين في ممارستهم الفصلية، خصوصا
حينما يتعلق هذا الاختلاف بابتكار وضعيات- مشكلة أو باختيار أطروحات فلسفية
متباينة أو باعتماد استراتيجيات متعددة في مقاربة النصوص، أو بالأسئلة البيداغوجية
...الخ، فمثل هذا التنوع يناسب طبيعة التفكير الفلسفي كتفكير مبدع ومتجدد. لكن لا
أعتقد أننا يجب أن نختلف إلى حد التناقض في تحديد طبيعة الإشكالات المتعلقة بمحاور
الدرس الفلسفي، لأن مثل هذا الاختلاف
يجعلنا نعيش نوعا من الفوضى الإشكالاتية التي لا مبرر لها أحيانا، ولا تخدم بشكل
إيجابي الإنجاز الجيد للدرس الفلسفي.
هكذا نجد الكثير
من الزملاء المدرسين يعالجون في دروسهم إشكالات كاذبة أو خاطئة؛ لا تجد لها سندا
في المنهاج الدراسي من جهة، ولا تكتسب معقولية مستمدة من تاريخ الفلسفة أو من داخل
الأنساق الفلسفية من جهة أخرى.
فكيف السبيل إلى
ضبط الإشكالات وتوحيد الرؤى بصددها؟ ما هي أسباب هذه الفوضى الإشكالاتية بين
المقررات الدراسية فيما بينها من جهة، وبين المدرسين فيما بينهم من جهة أخرى؟
أعتقد أن الصياغة
الجيدة لإشكال أي محور من محاور الدرس الفلسفي لا بد أن تراعي ما يلي:
- التقيد بما هو
وارد في المنهاج الدراسي مع تقديم قراءة نقدية وجيدة له.
- عدم الانسياق
الأعمى وراء الطريقة التي تصاغ بها الإشكالات في المقررات الدراسية، مع عقد مقارنة
واعية بينها.
- الانطلاق من
مفهمة عنوان المحور؛ عن طريق التعريف الدقيق لمفاهيمه، لأنه بدون مفهمة دقيقة لا
يمكن أبدا أن نطرح إشكالا دقيقا وحقيقيا.
- البحث عن سند أو
أرضية فلسفية، مستمدة من تاريخ الفلسفة، تحدد عملية المفهمة هاته وتقدم تبريرات
معقولة لطرح الإشكال. وما أقصده هنا هو أنه يجب أن يكون الإشكال الذي سنعالجه في
الدرس سبق أن طرح فعلا من قبل الفلاسفة. وفي هذه الحالة سيكون الإشكال حقيقيا
ومشروعا وسيسهل علينا إيجاد الأطروحات المناسبة لمعالجته.
إن مراعاة هذه
الضوابط تتطلب من المدرس تكوينا رصينا وحسا فلسفيا ونقديا عميقا، كما أنها ضرورية
لصياغة إشكالات حقيقية وجديرة بدرس فلسفي في المستوى المطلوب.
كان هذا بمثابة
مدخل للتداول بشأن الإشكال المتعلق بمحور وجود الغير. فنحن نجد اختلافات بين
المقررات المدرسية في تحديد طبيعة هذا الإشكال؛
2-قراءة
في لحظة الأشكلة في الكتب المقررة الثلاث:
أ-مباهج
الفلسفة:
- ففي مباهج صيغ
إشكال هذا المحور كما يلي: هل الغير أنا آخر؟ وتم توظيف موقف سارتر الذي يرى أن
الغير هو أنا آخر مماثل ومخالف لي في نفس الوقت، وأنه مستقل عني وتربطني به علاقة
تشييئية عدمية. وقد تمت مقابلة أطروحة سارتر بأطروحة جيل دولوز التي لا تنظر إلى
الغير كذات أو كموضوع بل تعتبره كتعبير عن عالم ممكن. يقول دولوز وغاتاري: « ليس
الغير...شخصا ولا ذاتا ولا موضوعا...إن الغير هو عالم ممكن، كما يتبدى في محيا من
يعبر عنه، وكما يحصل عبر لغة تمنحه صورة متحققة. الغير بهذا المعنى، هو مفهوم ذو
ثلاثة مكونات متلازمة: عالم ممكن، وجه قائم الوجود، كلام أو لغة واقعية ».
<مقرر مباهج الفلسفة، مسلك الآداب، ص31>.
هكذا حدد مؤلفو
مباهج إشكال وجود الغير، وأقاموا تقابلا بين سارتر الذي هو امتداد لفلسفات الوعي
ولا زال يتحرك ضمن الثنائية الميتافيزيقية ذات/موضوع، وبين دولوز وغاتاري اللذان
يحاولان تجاوز هذه الثنائية عن طريق خلخلة المفاهيم الميتافيزيقة والنظر إلى الغير
كبنية وعالم ممكن وليس كذات آو موضوع معزول.
فإلى أي حد يمكن
اعتبار هذا التحديد الإشكالي الوارد في مباهج دقيقا ومقبولا من الناحية الفلسفية؟
هل هو متماسك؟ ألا ينطوي على خلل ما؟
ب-رحاب
الفلسفة:
- أما في مقرر
رحاب فقد تم تحديد إشكال المحور على النحو التالي: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة
لوجود الأنا؟ وقد تمت الإجابة عن هذا الإشكال من خلال هيدغر الذي يرى أن الغير
يهدد الأنا ويفقده مقوماته كشخص، ومن خلال سارتر الذي يرى أن الغير يشيء الأنا
ويعامله كموضوع ويدخل معه في صراع من أجل إثبات الذات.
فهل هذه الصياغة
الإشكالية الرحابية ( نسبة إلى مقرر رحاب) تناسب عنوان المحور؛ وجود الغير؟ وهل
فعلا نجد بين هيدغر وسارتر ذلك التعارض المطلوب والحقيقي بين المواقف لكي تكون
متحاورة وليست فقط متجاورة ؟ وهل يثير التعارض بينهما ذلك الطابع المفارقاتي
والإحراجي المميز للإشكالات الفلسفية ؟
ج-منار
الفلسفة:
- وإذا نظرنا الآن
في مقرر منار، فإننا نجد أصحابه يحددون إشكال محور وجود الغير على النحو التالي:
هل الغير موجود ؟ وإذا كان موجودا، فهل وجوده افتراضي أم فعلي؟ وهل يعتبر وجوده
ضروريا؟ وما المظاهر التي يتجلى من خلالها هذا الغير؟
وقد قدمت ثلاثة
مواقف للإجابة عن هذا الإشكال: ميرلوبنتي وسارتر وهوسر.
فميرلوبنتي «يدافع
عن وجود الشخص باعتباره وجودا مستقلا ووعيا لذاته وليس عبارة عن موضوع أو شيء».
<منارالفلسفة، ص28>.
أما سارتر فسيكون
بالنسبة إليه « وجود الغير سببا في الحد من حريته، ولكن أيضا سببا في وعيه بذاته
ووجوده ». <نفس المصدر ص29 >.
في حين يقرر هوسرل
أن الغير يوجد بالنسبة للأنا كموضوع أو جسد وفي نفس الوقت كذات لها تجربتها
الخاصة، وأن الأنا يعيش تجارب مشتركة مع الغير تمكن كل واحد منهما من إدراك ذاته
وإدراك تجربة الآخر.
وما نلاحظه هنا في
منار هو أنهم يطرحون إشكال: هل وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا؟ ولكنهم لا يقدمون
الأطروحة التي يفترض أنها تعبر عن التصور الذي يقول بعدم ضرورة الغير وبإمكان
استغناء الأنا عنه في وجوده ووعيه بذاته؛ فكل المواقف المقدمة تقول بضرورة وجود
الغير مما يغيب ذلك التعارض المطلوب بين المواقف الفلسفية في إجابتها عن الإشكال.
وإذا كان مثل هذا الموقف الذي يقول بعدم ضرورة وجود الغير غير موجود في تاريخ
الفلسفة، فإن مبرر طرح السؤال: هل وجود الغير ضروري؟ هو مبرر غير معقول أو هو من
قبيل الإشكالات الزائفة أو الكاذبة.، وبالتالي لا داعي لطرحه أصلا.
أما بخصوص التساؤل
عن مظاهر وجود الغير، فهو يستهدف فيما يبدو إلى الإجابة عن التساؤل: كيف يتبدى
وجود الغير بالنسبة إلي؟ هل يظهر لي كموضوع أو كذات أو كعالم ممكن؟ هل هو مرتبط بي
أم مستقل عني؟ هل هو جزء من وعيي بذاتي؟
غير أن مثل هذه
التساؤلات غالبا ما تقود إلى الحديث عن علاقة الأنا بالغير كعلاقة صراع أو نفي أو
تشييء أو تهديد أو بالمقابل علاقة تعاطف وتماهي. وهذا يطرح مشكل التداخل بين محور
وجود الغير ومحور العلاقة معه؛ فهل سنكرر نفس الإشكال في المحورين معا ؟
على أية حال، هذه
هواجس انتابتني وأنا بصدد الاشتغال على
محور وجود الغير، والغرض من عرضها هو إتاحة الفرصة للتفكير الجماعي في قضايا الدرس
الفلسفي وهمومه، من أجل ممارسة فصلية أصيلة وجديرة بمدرس الفلسفة.
وأعتقد أن ضبط
إشكالات المحاول والتداول بشأنها هو أمر غاية في الأهمية، وخطوة ضرورية لتحسين
أسلوب تدريسنا لمادة الفلسفة وتحقيق الغايات المنشودة من الدرس الفلسفي.
وقد عرضت عليكم
كيف تعاملت الكتب المدرسية مع إشكال وجود الغير، في حين اكتفيت بإثارة بعض
التساؤلات دون أن أقدم وجهة نظر محددة؛ إذ يبدو أن مثل هذه الوجهة نظر لا زالت
تائهة وتبحث عن نفسها وسط هذا الركام أو الفوضى الإشكالاتية.
د-وماذا
عن المنهاج؟
أما الآن فسأختم
بما نجده في المنهاج الخاص بمادة الفلسفة من تصور يخص إشكالات درس الغير. إننا نجد
فيه ما يلي:
« تنشأ إشكالية
الغير انطلاقا من كونه ذاتا تشبهني وتختلف عني، ومن كونه ضروريا لوجودي بصفتي
وعيا، فالوجود البشري يتحدد بالعلاقة مع الغير أي الإنسان الآخر غير المتعين
اجتماعيا:
كيف يمكنني إدراك
الغير بصفته وعيا إذا كان الوعي بالضرورة تجربة داخلية والغير ممثلا لوعي خارجا
عني؟
كيف يتحدد وعيي من
خلال الغير؟
ما هي العلاقة
التي تربطني به؟
هل يمكن معرفة
الغير؟ ».
هذه هي الفقرة
التي تحدد في "المنهاج" الصياغة الإشكالية لدرس الغير. فأين نعثر فيها
عن الإشكال المتعلق بوجود الغير؟
لعل هناك إشارة في
هذه الفقرة إلى أن الغير « ضروريا لوجودي بصفتي وعيا »، كما أن هناك تساؤلا قد
يعبر عن هذا الإشكال وهو: « كيف يتحدد وعيي من خلال الغير؟ ».
لكن هل تكفي هذه
الإشارات لمعرفة الإشكال المتعلق بوجود الغير؟ إلى أي حد يبرر ما هو موجود في
المنهاج الاختلاف الموجود بين المقررات الدراسية في تحديد إشكال وجود الغير؟ وما
موقع المدرس بين المنهاج والمقررات الدراسية؟ ما هو المطلوب منه؟ هل يقدم قراءته
الخاصة للمنهاج ويضرب قراءات المقررات للمنهاج عرض الحائط؟ هل يتعامل معها بشكل
نقدي؟ هل ينتقي بينها؟ هل يصوغ الإشكال بعيدا كلية عن المنهاج لأنه بكل بساطة لا
يفي بالغرض؟ وفي هذه الحالة الأخيرة هل يعول في الصياغة الإشكالية على تكوينه
الفلسفي وقراءته لما هو موجود في تاريخ الفلسفة؟؟
كل هذه التساؤلات
نطرحها على أنفسنا بغرض الفهم والوصول إلى بر الأمان. لكن يبدو أن الوصول إليه لن
يتأتى إلا بتضافر مجهودات كل الذوات المهووسة بحرقة الأسئلة والحاملة لهموم
إشكالات الدرس الفلسفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.