السبت، 3 يونيو 2017

قراءة في كتاب "من وحي الدرس الفلسفي" بقلم سمير المجدوب

قراءة في كتاب " من وحي الدرس الفلسفي"
 للباحث محمد الشبة








بقلم: سمير المجدوب


"معظم الأفكار التي عبرنا عنها في هذا الكتاب، إن لم نقل كلها، هي أفكار استوحيناها واستخلصناها من مختلف تجاربنا المتعلقة بتدريس الفلسفة." محمد الشبة، من وحي الدرس الفلسفي، ص 5


إن شهادة حق في شخص محمد الشبة لن تكفي لكي نوفي له حقه في ذكرنا للإنجازات التي قدمها في مجال تدريس الفلسفة، فهل لنا الحق في أن نحاكم الديداكتيكيين من هذا النوع الذي لا يمل ولا يكل من كثرة التفكير في قضايا الدرس الفلسفي ليل نهار، ذهابا وإيابا، في البيت وخارجه، ولعل معرفتنا العميقة بالرجل النبيل هذا، ذي الحدس الديداكتيكي، لهي الكفيلة لكي تعطي لنا صورة عن محمد الشبة الباحث والكاتب والمفكر والغيور على القيم الإنسانية النبيلة.
تعرفت على هذه الطاقة المبدعة عندما كنت تلميذا في سلك الثانوي التأهيلي بثانوية الأمير مولاي رشيد التأهيلية، فالبرغم من أنه لم يكن مدرسي، فإن تأثيره كان يلحقني باستمرار. عندما التحقت بالجامعة كطالب للفلسفة، حيث وجدت أمام واقع من المعارف يحتم علي الانتفاح على مجال التدريس، وفي سنة حصولي على شهادة الإجازة، رأيت أنه لا مناص من تتبع واقتفاء أثر شخص باحث في الديداكتيك بخطوات حثيثة رويدا رويدا، حتى وجدت نفسي أمام واقع التدريس الذي يحتاج إلى ديداكتيك حقيقي من أجل السير قدما في مجال التدريس. ولم أجد سندا أرجع إليه في تكويني الواقعي لمجال التدريس سوى هذا الأستاذ المجتهد الشغوف بالمعرفة والفلسفة والديداكتيك، لكي أستنير به في مشواري الأكاديمي والمهني، شهادتي له لم تأت من الكتب التي كتبها فقط، بل أيضا من صداقتي معه والحوار الذي كان يجمعني به من حين لآخر. وهو يحدثني عن تجربته وتطلعاته وأهدافه في تدريس الفلسفة، ألاحظ سعيه الذؤوب لبناء صرح ديداكتيكي جديد، وطموحه في بلورة رؤية جديدة عن التدريس وعن الحياة، فلم أرى فيه سوى ذلك المدرس المتواضع الذي لا يبخل بالمعرفة، وهمه الوحيد هو أن يعرف التلميذ وأحيانا يتكلم وكأنه التلميذ. إننا حقا في حاجة إلى مدرس للفلسفة يعلمنا كيف تدرس الفلسفة، وكيف تعلم، وكيف تربي داخل القسم وخارجه، ولا شك أن هذا هو الهاجس الذي جعلني أصب اهتمامي وأقف وقفة تمعن في العودة إلى كتاب يشكل في نظري منطلق كل درس فلسفي ناجح، " ألا وهو كتاب "من وحي الدرس الفلسفي". من هنا رأيت من الضروري إنجاز هذا العرض المتواضع لأبين الرؤية الجديدة التي أتى بها محمد الشبة، والتي يمكن أن تحدث تغييرا في واقع تدريس الفلسفة إلى ما هو أحسن وأفضل.
لا يمكن فهم تصور الباحث حول طريقة تدريس الفلسفة إلا من خلال كتابه "من وحي الدرس الفلسفي"، فمن خلاله تتم الإجابة عن السؤال " كيف ينبغي أن يكون الدرس الفلسفي؟". لهذا فهو يعتبر مرجعا أساسيا لتدريس الفلسفة محليا وجهويا ووطنيا ، فالكتاب من حيث القيمة التربوية التي يقدمها لنا، تتجلى في بلورته لرؤية جديدة عن الدرس الفلسفي في جوانبه الديداكتيكية والبيداغوجية. فبالرغم من أن الشكل البيداغوجي للدرس ليس هو الشكل الديداكتيكي، فإن الكتاب يؤسس البيداغوجيا على الديداكتيك، أي أنه يوجه سلوك التلميذ نحو التفكير في ذاته وفي قضايا واقهه، من حيث علاقته بالآخرين وبالواقع المعاش. فبعيدا عن نظرية السلطة التي تعتمد "العصا" لكي تضبط تصرفات التلميذ، يلعب الكتاب في مقابل ذلك دور المربي فلسفيا عن طريق الحكمة في التدريس، ويجعل العصا في الفكر الحر لا في الإكراه، ويمكن القول هنا، على سبيل التشبيه، أن الأستاذ في شخص محمد الشبة هو بمثابة منيرفا تروض السنطور، أي بمثابة الحكمة التي تروض حيوانا متهورا، فهو يضبط تصرفات ونزوات التلميذ داخل القسم بآليات حوارية تقوم على الحكمة. وذلك من أجل تشجيعه على الإنخراط في مناقشة القضايا الفلسفية في جوانبها السياسية والأخلاقية والعلمية، والدينية والسوسيولوجية.
ولكي يحقق هذا المسعى يرى الأستاذ الباحث أن انخراط التلميذ في مثل هذه القضايا وتفاعله معها ومع المدرس داخل الفصل الدراسي  هو بمثابة وحي. وهذه شهادته في أولى فقرات الكتاب: «وإذا كان مفهوم الوحي يحيل على معاني الإلهام والإشراق والموهبة والأصالة والتميز، فإننا بالفعل نسعى إلى ديداكتيك فلسفي بهذه المواصفات. غير أنه ليس ديداكتيكا صادرا عن إشراق سماوي، أو إلهام خارق، أو موهبة غير مبررة، أو أصالة بدون جذور؛ بل إن الإشراق والإلهام والموهبة والأصالة تستند إلى أرضية واقعية وفعلية؛ هي لا شك أرضية الفصل الدراسي المغربي. ولهذا فأفكار هذا الكتاب هي من وحي درس فلسفي بعينه؛ هو الدرس الفلسفي المغربي كما قدمته لنا تجربتنا مع تلاميذ الثانوية التأهيلية المغربية.»1 (محمد الشبة، من وحي الدرس الفلسفي: إشكالات وحدوس ديداكتيكية، دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2015، ص 6)
   يظهر هنا أن الباحث يقوم بتشخيص الأزمة والداء الذي يصيب جسد الدرس الفلسفي بصفة خاصة والقسم- المدرسة بصفة عامة، وهو أن واقع تدريس الفلسفة بالقسم المغربي واقع بئيس، يشعر فيه التلميذ بخيبة أمل عندما يتلقى أفكارا عن فلاسفة دون تنزيلها إلى الواقع المعيش. ومن أجل معالجة هذا المرض، يؤسس صاحب الكتاب لتصور ديداكتيكي مستوحي من عمق التجربة الفصلية، وهو جعل الفلاسفة يمشون على الأرض، ويربط القضايا والإشكالات الفلسفية بالواقع والحياة، ولا شك أن الوسيلة التي تمكنه من تحقيق هذا الغرض، هي الحوار مع التلميذ والتواصل معه.
" أي ديداكتيك فلسفي نريد؟" سؤال طرحه الكاتب في مقدمة الفصل الأول من الكتاب، يتضمن جوابا قصديا، وهو السعي إلى تأسيس ديداكتيك فلسفي جهوي ومطابق، فهو جهوي من حيث شموليته، إذ لا يقتصر على مؤسسة بعينها، بل يشمل مؤسسات المغرب بمختلف الجهات، وهو مطابق من حيث صيغته التوفيقية بين النظرية والممارسة؛ أي بين كل ما يوجد في ديداكتيك الفلسفة من مفاهيم وطرق التدريس داخل القسم، وبين الواقع الحقيقي والملموس؛ أي من خلال التجربة الفصلية كتجربة حقيقية. ومن الواضح أن هذا التطابق بين النظري والممارسة لهو الحجر الأساس لكل ديداكتيك  فلسفي يريد أن يكون ناجحا. يقول المؤلف: «أما إذا كان التنظير الديداكتيكي الفلسفي مفتقدا لأية ممارسة أو تجربة فصلية يتخذها كمنطلق له، فإنه لا يمكن أن يكون إلا تنظيرا أجوفا2 (المرجع نفسه، ص 11)
 يظهر هنا أن الكاتب محمد الشبة يوجه رسالة إلى كل مدرسي الفلسفة، مضمونها هو أنه يجب على كل مدرس أن يمارس ويكتب أولا، وأن ينقل تجاربه إلى الآخرين ثانيا. وهذا دليل واضح على أن الفلسفة ليست حكرا على فئة بعينها، بل حتى التلميذ والقارئ لهما نصيب منها، حتى يتسنى لنا تقاسم تجاربنا مع بعضنا البعض بشكل يضمن للدرس الفلسفي النجاح والاستمرارية.
من هنا فالتجربة الفصلية هي المنطلق الأول والأخير للدرس الفلسفي، ولا يمكن لهذه التجربة أن تكون ناجحة إذا كانت تحاكي تجارب أجنبية، بل إن نجاحها مرتبط باجتهاد المدرس في فصله الدراسي، هذا إن كنا حقا نريد ديداكتيكا فلسفيا ناجحا ومتطورا. لهذا اعتبر الكاتب أن التجربة الفصلية هي منطلق الإبداع في ديداكتييك الفلسفة، وذلك من جهتين: الأولى هي إبداع الأستاذ لطرق التدريس ولآليات مستوحاة من الاحتكاك مع التلاميذ. أما الثانية فهي إبداع التلميذ لأفكار ومعارف فلسفية عن طريق الحوار والمشاركة الفعالة التي تكسبه الثقة في النفس وتنمي حس النقد لديه.
ونبقى مع الفصل الأول لنفق مع الكاتب في حديثه عن طبيعة الدرس الفلسفي بكونه درسا نقديا لا إيديويوجيا، فهو لا يقتصر فقط على اكتساب المعارف أو التعرف على النظريات الفلسفية التي قد نتخذها كحقائق في واقعنا، أو نتأثر بها إلى حد التبعية، بل إن الدرس الفلسفي الناجح هو ذاك الذي يعلم التلميذ كيف ينتقد ويمارس النقد، كنقد بشكل بناء. لذا على الأستاذ كما يشير المؤلف ألا يمارس الوصاية على التلميذ أو يكرهه على اعتناق عقيدة فكرية أو مذهب فلسفي. وتبعا لهذه الفكرة يقول الباحث: «أما منابر الإلقاء والوصاية، سواء كانت دينية أو عرقية أو إيديولوجية أو غيرا، فلا يمكنها إلا أن تكرس الوصاية والتبعية والاستعباد3  (ص 35) لذا، فمهمة الأستاذ هنا يجب أن تنحصر في تعليم أدوات التفلسف والتحليل الفلسفي، وكذا تعليم القيم الإنسانية التي جاءت بها الفلسفة عبر التاريخ. ولأجل تحقيق هذا الغرض يضع المؤلف الشروط الضرورية لحضور الحياة في الدرس الفلسفي. وأول شرط هنا هو الحوار.
تعتبر هذه الآلية هي قلب الدرس الفلسفي، من حيث كونها تجعل التلميذ ينخرط في مناقشة قضايا ومفاهيم فلسفية مرتبطة بواقعه المعيش، كما تنمي لديه حس النقد، وتقبل الرأي الآخر، والدفاع عن الرأي بحجج عقلية وواقعية بعيدا عن التعصب والانغلاق. وهنا تكمن متعة الدرس الفلسفي النابع من الحوار بين التلميذ وأستاذه، وهو بمثابة وحي مستوحى من واقع الفصل الدراسي. غير أن التصور الذي يعطيه المؤلف عن تجربته الفصلية في تدريس الفلسفة لا يمكن أن يفهم إلا من خلال خلفيات فكرية- ديداكتيكية ومن خلال انفتاحه على تجارب بعض الفلاسفة. وأول من يسلط الضوء عليه هو الفيلسوف إيمانويل كانط. ولعل ما يمتاز به هذا الفيلسوف هو حيوية الفكر والمرح الفلسفي، بالإضافة إلى دعوته إلى التجرؤ على استخدام العقل بكل شجاعة، فهو بذلك يدعو إلى استقلالية الفكر عند المتعلم أو التلميذ بصفة خاصة، وعند الإنسان بصفة عامة.
كما يستحضر الكاتب أيضا الفيلسوف هيجل الذي يعتمد في درسه على الإلقاء، وذلك من خلال الشرح المبسط للأفكار وإعطاء حرية التعبير عن الرأي، والحرص على أن يدون المتعلمون أهم أفكار الدرس، غير أن طريقة هيجل في الشرح لا تحقق نوعا من الحوار، أي أن درسه «ليس درسا حواريا وتشاركيا.»4  (ص 55) بحسب تعبير المؤلف، لأن أسلوب الإلقاء لديه، يطغى على أسلوب الحوار داخل الدرس الفلسفي.  ويضيف الكاتب فيلسوفا آخر، وهو الفيلسوف المدرس نيتشه الذي يعتبر درسه درس التشجيع والمودة بينه وبين تلامذته، فهو مدرس وصديق حسب ما يراه المؤلف بقوله: «فأن تكون مدرسا وصديقا للتلميذ معناه أنك قريب من ذاته وأفكاره وأحاسيسه5 (ص 58) وأخيرا يقف عند "آلان" الفيلسوف المدرس الذي من إيجابيات تدريسه للفلسفة هي حث التلاميذ على القراءة والكتابة، وذلك من أجل اكتساب الأفكار ومنهجية البحث، مع إعطائه حرية الاختيار للمتعلم في البحث والكتابة.
ولعل ما يريد الكاتب الوصول إليه من هذه النماذج التي أعطاها عن الفلاسفة المدرسين، هو الجمع بين كل من الإلقاء والحوار وحرية التعبير والبحث والقراءة، ودمجها في الدرس الفلسفي لجعله درسا حيا، حتى يتسنى للتلميذ اكتساب آليات التفكير الفلسفي. ولا يتم ذلك حسب رأي المؤلف إلا بـــ"التجربة الفصليةّ" كتجربة واقعية. وإذن فالتلميذ هو الأول والأخير في الدرس الفلسفي. فهو الذي يبني من ذاته إشكالات وأفكارا حول الدرس الفلسفي، وصولا إلى أطروحات الفلاسفة. لهذا، يوضح الكاتب تجليات التفلسف الذاتي لدى التلميذ ومظاهر التجربة الفصلية خاصة في فصله الثاني بعنوان " قضايا مستوحاة من التجربة الفصلية". ويظهر ذلك في الطرق الديداكتيكية والبيداغوجية التي يعتمدها الأستاذ محمد الشبة داخل الفصل الدراسي. فعلى مستوى تحليل النص يتم الكشف عن أطروحته بكيفية إستقرائية، أي بدء من تحديد المفاهيم بحسب سياقها في النص وإبراز العلاقات بينها، ثم استخراج أفكار النص، مرورا بالحجج الفلسفية. ومن أجل إنجاز تحليل متكامل، يوضح الكاتب أن بإمكاننا استخدام الجداول على السبورة بغية مساعدة التلميذ على تنظيم أفكاره أثناء التحليل، ويضم هذا الجدول ثلاث خطوات رئيسية، «الأولى هي البنية المفاهيمية والثانية هي الوحدات الأساسية، والثالثة هي الأساليب الحجاجية6 (110) وفي الأخير يشير الكاتب إلى مناقشة النص على مستوى التثمين ومستوى النقد.
ويقف الكاتب لحظة تأمل في خطوتين أساسيتين في التحليل، هما الإشكال والأطروحة، إذ يعتبر بأن الأطروحة يجب أن تسبق الإشكال، لماذا؟ لأنه يصعب على التلميذ تحديد تساؤلات النص دون فهم عميق لأفكاره، ولا يمكن أن يتحقق هذا الفهم إلا بتحديد الأطروحة قبل الإشكال، لهذا يقول:«..ذلك أن الأطروحة هي جملة خبرية أو تقريرية، إذا ما أضفنا إليها أدوات إستفهام معينة أضحت إشكالا، كما تعتبر أطروحة النص إحدى الإجابات الممكنة عن التساؤلات المكونة للإشكال المتضمن فيه. فإذا وجدنا مثلا أطروحة النص هي " الوعي المرافق دوما لأفعال الشخص هو ما يمنحه إحساسا بهويته"، فإن إشكاله يمكن أن يتكون من الأسئلة التالية: ما الذي يمنح للشخص هويته؟ وما الذي يحدد هوية الشخص؟ وبأي معنى يمكن القول بأن الوعي المرافق دوما لأفعال الشخص هو ما يمنحه إحساسا بهويته.»6 (ص113)
إلى جانب ذلك، ينتقل الكاتب إلى سوء الفهم الذي يتعرض له التلميذ للنص الفلسفي، وذلك من لسببين: الأول هو عدم التعود على قراءة النصوص والبحث عن الأفكار، والثاني هو الإكتفاء فقط بظاهر النص. لهذا يقدم الباحث ترياقا شافيا لهذا المشكل، وهو ضرورة الفعل الحواري بين الأستاذ وتلميذه، من أجل تشجيعه على القراءة وفهم الأفكار انطلاقا من الواقع المعاش، خاصة عندما يكون التلميذ في مستوى الجذع المشترك، بحيث يعتبر أول لقاء له بالفلسفة.
ولأجل توضيحه لكيفية معالجة مشكل الفهم عند التلميذ، يستحضر الكاتب محمد الشبة تجربته الفصلية بالوقوف على أهم الأدوات المنهجية لتحقيق الهدف، وهو "الوضعية المشكلة"، إذ لا شك أن هذه الوضعية لها أهمية كبرى في الدرس الفلسفي، ولتقريب الصورة بشكل دقيق، دعونا نقف على أحد ممارسات الباحث في قسمه بعدسته الفكرية نفسها. فلكي يستوعب التلميذ محور " قيمة الشخص" مثلا يستقرئ الواقع من خلال وضعيات من الواقع، حيث يقول : «حالة الأحمق الذي يهيم في الشوارع وحالة الطفل الذي لا يتجاوز عمره سنتين، وحالة المرأة التي تمارس الزنا، وحالة المريض في حالة غيبوبة7 (ص 121). وحالات أخرى مستوحاة من الدين الإسلامي حول كرامة الإنسان وقيمته،  كل هذا من أجل أن نبين أن الدرس الفلسفي ليس هو ذاك الدرس المتعالي القابع في برجه العاجي، بل إنه شكل من أشكال المعرفة المستوحاة من صميم الواقع اليومي للتلميذ.
انطلاقا من هذه الوضعية يعمل الأستاذ على صياغة تساؤلات مرتبطة بموضوع " قيمة الشخص" ، أو غيرها من المواضيع الفلسفية التي يطرحها الدرس الفلسفي. وإنه لأمر طبيعي أن التلاميذ لا يقفون هنا حجرة صماء أمام هذه الوضعية، بل إنهم يتفلسفون ويجيبون عن إشكالاتها، كما أنهم يتفاعلون مع الموضوع الذي يعتبر جزء ليس فقط من الدرس الفلسفي، وإنما أيضا من حياتهم اليومية.
ولتقريب الصورة بشكل واضح حول طريقة تدريس صاحب الكتاب للفلسفة، نقف على بعض جوانب تجربته الفصلية تحت عنوان "نافذة على جوانب من تجربتي في تدريس الفلسفة"، فهذا الجزء من الكتاب بالرغم من صغره، فإنه يلخص ويوضح تجربته الحقيقية داخل الفصل الدراسي. وأهم ما يميز هذه التجربة، هي أن الإجابات المختلفة التي يقدمها التلاميذ حول مضامين الدرس يلعب فيها الأستاذ دور المنسق، من خلال إعادة صياغة أفكار التلاميذ أنفسهم في قالب فلسفي بما يتوافق وأهداف الدرس، وذلك بناء على منهج توليدي- سقراطي (يدعي الأستاذ جهله ببعض المعارف والمفاهيم حتى يتمكن من توليد وإخراج كل ما هو موجود في أذهان التلاميذ من معارف حول مفهوم معين، وهو المنهج الذي كان يعتمده سقراط بغية الوصول إلى حقيقة الشيء). لهذا، نجد الكاتب يقول: «وبهذه المناسبة أشير إلى أنني تعودت مند بداية مشواري في التدريس على الإملاء الشفوي المباشر للمعطيات والأفكار التي تتكون في ذهني كنتيجة للنقاش الذي يتم بيني وبين تلامذتي، بل إن الكثير من الأفكار تكون وليدة اللحظة، أي نتاج للنقاش الذي يحصل داخل الحصة، إيمانا مني بأن النقاش المتجدد مع تلاميذ مغايريين من شأنه توليد أفكار جديدة.»8 (144)
نلاحظ هنا كيف يلعب محمد الشبة دور الأستاذ المتواضع والمربي على حس النقد والتفلسف، ففي حضوره تنتفي كل صفات التسلط والغطرسة والتعالي في شرح الأفكار، إنه يقدم نفسه كنموذج للأستاذ الموجه والمساعد على إنتاج المعرفة عن طريق التلميذ، ليظهر وكأنه التلميذ ذاته.
وينتهي المؤلف في آخر نصوص الفصل الثالث من كتابه "من وحي الدرس الفلسفي" إلى الحديث عن حدوسه وإشراقاته في تدريس الفلسفة، وهذه الحدوس ليست وليدة فكر مجرد، بل هي نتاج التجربة الفصلية الواقعية. فالديداكتيك الحقيقي هو ذاك الممارس لا ذلك المتعالي، وهذه شهادته على ذلك: «من لا يمارس لا يمكنه أن يقدم لنا سوى تنظيرا فارغا وأجوفا.»9 (ص 159) والرسالة التي يقدمها لنا المؤلف في هذا السياق هي ضرورة ربط الفلسفة وتدريسها بالحياة، حياة التلميذ وحياة الإنسان. والمنطلق الوحيد لتحقيق هذه الغاية هو القسم، بقوله: «من هنا ففضاء القسم هو في منظورنا الشخصي منبر أساسي يمكن لمدرس الفلسفة أن يؤثر من خلاله في المجتمع.»10 (ص 162). بهذا المعنى، فتدريس الفلسفة هو تدريس للحياة، و«تعلم التفلسف هو تعلم لأدوات التفكير في الحياة.» 11 (ص163)

   وفي الأخير نختم بقول للباحث محمد الشبة:

«وهكذا فقد أردنا أن نبدع لأنفسنا أفكارا ديداكتيكية خاصة بنا، اعتمادا على مقومين رئيسسن هما التجربة الفصلية من جهة، وموهبتنا في التدريس من جهة أخرى. ولهذا فنحن نعتقد أن بإمكان إصغاء مدرس الفلسفة المغربي إلى تجاربه داخل الفصل الدراسي، واحتكاكه بتجارب غيره من المدرسين، أن يجعله يبدع في إنتاج أفكار ديداكتيكية جهوية تناسب طبيعة الفصل الدراسي المغربي، وتنسجم مع مواصفات المتعلم المغربي السيكولوجية والقيمية والاجتماعية.»12 (ص 5)





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.