ديداكتيك فلسفي من رحم الفصل
الدراسي
بقلم: توفيق فائق
مدرس فلسفة بالثانوي التأهيلي
مدرس فلسفة بالثانوي التأهيلي
يعد الأستاذ محمد الشبة* من بين المدرسين
الذين بصموا بقوة في مجال التدريس، ذلك أن المدرس الفاعل يجب أن يتمتع بالنشاط في
الحجرة أو الفصل الدراسي، ويتدفق ينبوعه خارج أسوار المؤسسة في ما يقدمه من أنشطة
موازية لعمله، أو في ما تبدعه أو تجود به قريحته المعرفية من كتابات. فقد استطاع
شق طريقه محليا ووطنيا سواء عبر ذيوع اسمه في الشبكة العنكبوتية، أو عبر مؤلفاته
التي أصبحت اليوم بمثابة النبراس المنير لكل مدرس جديد، يسعى إلى الارتواء من
تجاربه التي لم يبخل بين الفينة والأخرى على نقلها بشتى الوسائل الممكنة.
ومن بين كتاباته المتعلقة بديداكتيك الدرس
الفلسفي نذكر الكتب التالية: "من وحي الدرس الفلسفي"، "مقالات
ديداكتيكية في تدريس الفلسفة" و"محاورات فصلية في تدريس الفلسفة"**.
وهي مؤلفات مستوحاة من التجارب الفصلية، أي انطلاقا من التفاعل والتواصل الفعال مع
المتعلمين؛ ذلك أن الديداكتيك الناجح والمفيد للدرس الفلسفي لا ينبغي أن يخضع
لإعادة الإنتاج أو اجترار ما يتم تصديره من الخارج، فالبذور الديداكتيكية يجب أن
تكون مطابقة للأرض المدرسية المغربية وللمحيط السوسيوثقافي للمتعلمين الذي يؤثر
على التحصيل الدراسي. لذلك لا بد أن يكون له وزن في اختيار الطريقة البيداغوجية
المتبعة من قبل المدرس داخل الفصل، بل إن التعامل مع المتعلمين يجب أن ينطلق من
تقويم تشخيصي يسمح بإعطاء صورة أولية عن المتعلمين وفروقاتهم، وبالتالي التمكن من
التفاعل الإيجابي معهم، وهو ما يدل على استحضار البيداغوجية الفارقية.
هذا وقد نبه محمد الشبة غير ما مرة إلى أهمية
تقاسم التجارب بشكل يساعد المدرس على تثمين نقاط القوة وتجاوز نقاط الضعف، يقول: «إننا نؤمن أن الخبرة والممارسة العملية داخل
الفصل الدراسي هي منبع وأساس كل قول في ديداكتيك الفلسفة.» (1)، وذلك بشكل يضمن تحقيق الأهداف المتوخاة من الدرس الفلسفي، أي
تثمين القدرات والمهارات النقدية والعقلية للمتعلم، وتزويده بقيم إنسانية مختلفة
كالتسامح، والحوار، واحترام الآخر، والاعتراف بحق الاختلاف، والتحلي بالمسؤولية،
وترسيخ سلوك المواطنة..الخ.
إن بلوغ هذه الغايات لن يكتمل إلا بإعطاء
الأولوية في بناء الدرس الفلسفي للتفكير الذاتي للمتعلم، أي جعله محور العملية
التعليمية التعلمية الفلسفية، وتجاوز المركزية التقليدية للدرس. لكن كيف يتم ذلك؟
إن تحويل التلميذ إلى قلب نابض داخل الفصل
الدراسي رهين بالأخذ بمبدإ التدرج في استيعاب المعارف والمهارات، وربط كل ما يتم
عرضه من معارف فلسفية بالواقع المعيش حتى يكون الدرس الفلسفي مفعما بالحياة.
ففي كتابه "مقالات ديداكتيكية في تدريس
الفلسفة"، رأى الباحث محمد الشبة أن كفايات الدرس الفلسفي هي كفايات في خدمة
المجتمع والحياة، فالفلسفة تساعد المتعلم على تحصيل كفايات استراتيجية وتواصلية
وثقافية ومنهجية وتكنولوجية تجعل المتعلم يكتسب قيم العقلنة والحرية والنقد
والمسؤولية واتخاذ القرار، كما تروم الفلسفة إكساب المتعلم أدوات التفكير الفلسفي
الأساسية من أشكلة ومفهمة وحجاج.
ويدعو الأستاذ محمد الشبة إلى ضرورة تجاوز
التجريد الذي يقتل التعلم، والعمل على تذويبه عبر تقديم أمثلة واقعية واستشهادات
من مختلف المجالات، التي من شأنها إما أن توضح الأفكار الفلسفية أو تسمح لنا
بمناقشتها والتفكير فيها من جديد، مما يسمح بنزع الغرابة عن المعرفة الفلسفية،
فتتحول إلى مغناطيس للجذب لا للنفور؛ فيصبح التلميذ قادرا على التفاعل والنقد، هذه
المهارة الأخيرة يمكن تدريب المتعلمين على ممارستها في كل مراحل الدرس الفلسفي،
وبشكل خاص أثناء عرض الوضعية المشكلة، سواء كانت عبارة عن مقاطع أشرطة سينمائية،
أو غنائية، أو حكايات شعبية، أو صور أو رسومات، أو أحداث من الواقع المعيش...، فالمهم في الوضعية المشكلة أن تساعد المتعلم على توليد مفارقة أو إحراج بشكل يحول
الفصل إلى "أغورا" للنقاش الحر والمنفتح، ويكسر القناعات والأفكار
والأحكام الجاهزة.
إذا كانت الوضعية المشكلة تشجع على الحوار،
فإن التلميذ لا بد أن يتعلم مهارات الكتابة (المفهمة، الأشكلة، المحاجة..)***. ولن
يتحقق ذلك إلا بأنشطة صفية طيلة الموسم الدراسي، والعمل على تحفيز التلميذ على
الإبداع والابتكار، حيث يقول محمد الشبة: «إن الفلسفة ليست معرفة جاهزة، بل هي قبل كل شيء نشاط للتفكير، وهذا يعني
القول بضرورة التمارين.»(2) وبلغة الفيلسوف ألان (إميل شارتيي) «الحث على الكتابة من أجل تعلم قواعد التفكير الفلسفي.» وبلغة الفصل الدراسي تعلم الفهم والتحليل والمناقشة والتركيب، وهي الغاية
التي تراهن عليها المذكرات والتوجيهات الخاصة بتدريس مادة الفلسفة، مما يتيح تكوين
تلميذ قادر على مقاربة موضوع فلسفي (نص، قولة، سؤال) أثناء اجتياز الاختبار أو التقويم الفلسفي، وتشبعه بقيم إنسانية نبيلة تفيده في حياته اليومية، إلا أنه يجب أن يحضر
في هذه الكتابة الفلسفية التفكير الذاتي للمتعلم، أي حضور بصمته الخاصة.
وقد تحدث محمد الشبة عن بعض الأخطاء التي
يرتكبها التلاميذ أثناء صياغة موضوع إنشائي، سواء المعرفية منها أو المنهجية. فليس
المهم في نظره هو حشد ذهن الفيلسوف الصغير بالمعارف والمواقف، وإنما تعليمه
الطريقة التي تساعده على التعلم، وهذا ما نستشعره من خلال المثل الصيني "لا
تعطيني السمكة، ولكن علمني كيف أصطادها." ونفس الامر ينطبق مع قول إيمانويل
كانط: "إننا لا نعلم الفلسفة، وإنما نعلم التفلسف".
إذا كان محمد الشبة قد ركز على ضرورة التركيز
على المتعلم، وتذويب الغموض الذي يكتنف المعرفة الفلسفية، فإنه لا بد من التنبيه
إلى العنصر الثالث من المثلث البيداغوجي الذي هو المدرس****، إذ لا بد من تكوينه
تماشيا مع ما جاءت به الرؤية الاستراتيجية، حيث أشارت إلى ضرورة تنويع أشكال
التكوين المستمر والتنمية المهنية، بما يضمن الحافزية للاجتهاد والمبادرة
والابتكار في الأساليب التربوية، إضافة إلى إرساء دعائم التكوين والتأهيل مدى
الحياة المهنية.(3)
لا بد من تكوين تربوي ديداكتيكي يكسب المدرس
مؤهلات ومهارات للقيام بمهامه التربوية. فالتكوين الجيد يكسبه مرونة بيداغوجية
وديداكتيكية، ويجعله قادرا على تحويل محصلاته في المعرفة الفلسفية إلى خبرة تمكنه
من سرعة تحديد الأهداف، وتساهم في التعامل مع المتعلم تربويا، أي بشكل ينمي ويشجع
الإنصات والحوار المتبادل داخل الفصل الدراسي. هذا الأمر يقود إلى الارتقاء
بالمدرسة، ومنه النهوض بالمجتمع المغربي عامة. خصوصا وأن التحديات العالمية فرضت
اليوم الاتجاه من الاستثمار في الحجر إلى الاستثمار في البشر، فالمتعلم رأسمال
بشري مهم يمكن استثماره لبناء المستقبل.
الهوامش:
* محمد الشبة؛ مدرس ثانوي تأهيلي بمدينة مشرع
بلقصيري، باحث في ديداكتيك الفلسفة، صاحب موقع إلكتروني..
* * "محاورات فصلية في تدريس
الفلسفة" هو كتاب يعرض فيه محاوراته مع متعلميه أثناء الحصة الدراسية، التي صاغها
على الشاكلة السقراطية، حيث أنه يسأل ويتهكم بهدف توليد المعرفة من أذهان
المتعلمين، ويربط الموضوعات غالبا بواقعهم المعيش، أي أن التمثلات شكلت نقطة
انطلاق لمعالجة موضوعات مختلفة (الهوية، قيمة الشخص، وجود الغير..). كما اعتمد على
مقاطع من مؤلفات أخرى شكلت عنصر استثمار لحشد وتحفيز التلاميذ على النقاش والنقد.
1- الشبة محمد، من وحي الدرس الفلسفي:
إشكالات وحدوس ديداكتيكية، أفريقيا الشرق 2015، ص
*** لمعرفة المزيد حول هذه الأمور يمكن
الاطلاع على الوظائف الأساسية للنص الفلسفي عند ميشيل توزي، حيث رأى أن الغاية منه
هي تحقيق الأهدا النواتية التي تتمثل في: المفهمة، الأشكلة والمحاجة، وذلك في
اتجاه تنمية كفايات أساسية لدى التلميذ هي: القراءة الفلسفية للنص، الكتابة
الإنشائية الفلسفية وأخيرا المناقشة الفلسفية.
2- محمد الشبة، مقالات ديداكتيكية في تدريس
الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي، مطبعة لورانجي، ص28.
**** من خلال بحث ميداني قمت به بمعية
الأستاذ محمد الشبة معنون ب "صعوبات الاكتساب في الدرس الفلسفي" (2016)،
اتضح لنا أن الإكراهات ثلاثية المصدر: المدرس، المادة المدرسة، المتعلم. لذلك
فالإصلاح يجب أن يكون شموليا.
3- الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 "من
أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.