الأحد، 4 يونيو 2017

شهادة وتقديم لبعض الجوانب من الكتابة الفكرية لمحمد الشبة

شهادة وتقديم لبعض الجوانب الفكرية
من كتابات محمد الشبة







بقلم: سعيد السعدي


أتشرف بوجودي معكم ضمن المحيطين بالأستاذ محمد الشبة، والمساهمين بالاحتفاء به في هذا المهرجان الفني والثقافي. وأيضا أتشرف بعرض هذه الورقة القصيرة في الحجم والعميقة بالمعنى، والتي  تحفر في ذاكرتي وتغوص بي إلى زمن كنت أجلس أمام محمد الشبة كتلميذ، وأنصت إلى الدرس الفلسفي الذي كان يقدمه بصدق وحماس كبيرين بالثانوية التأهيلية الأمير مولاي رشيد بمشرع بلقصيري.
في سنوات مضت  كنت أجلس على مقعد الدراسة بالثانوية التأهيلة مولاي رشيد، وأستمع إلى درس محمد الشبة في الفلسفة، ذلك الدرس الذي وضعني على سكة التفلسف والسؤال والبحث... المنبعث من ذات مشبعة بالحماس والرغبة في التنوير ونقد الأفكار الجامدة والمتخشبة. ولصغر سننا وجنينية الاحتكاك بالفلسفة، لم نكن ندرك و نحس بكل ما كان يصدر من أستاذنا حتى جلسنا في مدرجات الجامعة، والآن اجلس بجانبه ومعكم لتقديم جانب من إرثه الفكري، ومساره الفلسفي الحافل.
كان درس الأستاذ محمد الشبة يستفز فينا ملكة التفكير، ويهيج فينا حس النقد والسؤال وضرورة الانفتاح والمطالعة خارج الفصل... وما أقرب الأمس باليوم.
وأود مرة أخرى أن أشكر المنظمين بإعطاء فرصة لمحمد الشبة، ابن مشرع بلقصيري ، بوضعه ضمن لائحة المحتفى بهم. وهذا احتفاء ليس بمحمد الشبة وحده، بل من خلاله بأهل الفكر والفلسفة بصفة عامة. كيف لا وهو رهن إشارة كل باحث، ومساعدة كل محتاج، ومنصت لكل متسائل، ومناضل في سبيل ترسيخ الفكر الفلسفي النقدي. وخاصة ونحن في فترة أصبحت فيها الفلسفة مادة شبه مكروهة، حيث تلاحق من طرف الدوغمائين والمتزمتين وضيقي الأفق.
وفي محاولة للإحاطة بالسيرة الفكرية والمهنية للكاتب، يمكن أن نقف عند أهم محطاته ونقول: إن محمد الشبة، كما يعلم الجميع، هو أستاذ للفلسفة في الثانوية التأهيلية الأمير مولاي رشيد، وكان قبلها مدرسا بمدينة الدار البيضاء، جرب التدريس الحر، حاصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1994، ثم حصل بعد سنة  من ذلك على شهادة استكمال الدروس في الفلسفة الاسلامية سنة 1995. ومشرف على نادي "أصدقاء الحكمة" بالثانوية التأهيلية التي يدرس بها، ومن بين الاساتذة القلائل الذين يسهرون على الانغماس في إشكاليات التلميذ وتأطيره خارج الفصل. وهو ناشط على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع والمدونات الإلكترونية. وقام بالعديد من الندوات في ثانويات عديدة بالمغرب، وكتبه توزع داخل المغرب وخارجه. ويمكن أن أضيف تجربة شخصية ربطتني به، وأقول لكم بأن الأستاذ الشبة يسهر على مراجعة رواية لي، والتي ستكون إن شاء الله أول مولود لي في عالم التأليف والكتابة. وأستغل هذه المناسبة لكي أشكره أمام الجميع على صدره الرحب ومجهوده الكبير في قراءة الرواية ومراجعتها وتدقيقها لغويا.
 وكل هذا يربطه خيط ناظم، وهو الفلسفة والفكر، ومنه خصوصا الفكر العربي الإسلامي، الذي له مساهمات عديدة في هذا الشأن، سنأتي  على ذكرها والوقوف عند بعضها لاحقا.
وقد حرصت على أن أركز على الجانب الفكري العربي الإسلامي من مؤلفات محمد الشبة، على أساس أن رفاقي سيتكلفون بقراءة ومناقشة الجوانب الأخرى من التجربة الإبداعية للباحث محمد الشبة، وهي التي تتمثل في الجانب التربوي المتعلق أساسا بديداكتيك الفلسفة وقضايا إشكالات تدريسها، والتي ألف فيها الكاتب، وألقى محاضرات ونظم دورات في ذلك.
لأستاذنا الكريم العديد من المقالات في الجرائد الوطنية، ومؤلفات في ديداكتيك الدرس الفلسفي، وأيضا كما أشرت سابقا في الفكر العربي الإسلامي. وهذا ما يعطي انطباعا بأن هناك مشروعا فكريا جنينيا لمحمد الشبة، بدأت تلوح بوادره في الأفق  كما يبدو لي؛ وهو يتمثل في تأصيل الأصول، وبعث الفكر العربي الإسلامي ماضيه وحاضره، من أجل التأسيس لمشروع فكري أصيل، وليس الانسياق وراء المفاهيم والمشاريع الغربية الجاهزة، التي تنكر كل أصالة أو إبداع في الفكر العربي الإسلامي، وأيضا عدم التسليم بكل ما هو قائم في التراث.
ومؤلفات أستاذنا في الفكر العربي الإسلامي هي "الاجتهاد والمجتهد عند أبي حامد الغزالي" وكتاب "مفهوم المخيال عند محمد أركون"، وكتاب "عوائق الابداع الفلسفي العربي حسب طه عبد الرحمان".
وأود أن أقف قليلا عند الكتابين الأخيرين من المؤلفات الفكرية للباحث محمد الشبة، باعتبارهما يشغلان جانبا من جوانب اهتمامه، أي اهتماماته ببعض قضايا الفكر العربي الإسلامي، القديم والمعاصر.

1) كتاب "عوائق الابداع الفلسفي العربي حسب طه عبد الرحمان":

يرى محمد الشبة من خلال قراءتي للكتاب، وهي قراءة موجزة، بل دعونا نقول هي قراءة على قراءة، لهذا سأركز على المعنى العام للكتاب، في ارتباطه بفهمي لطه عبد الرحمان، وليس انحسارا بما نظر إليه الكاتب محمد الشبة.
طه عبد الرحمان، الفيلسوف المغربي، له اجتهاداته الخاصة تختلف عما هو سائد في المدرسة المغربية، والتي يعتبر المرحوم محمد عابد الجابري من أبرز ممثليها، والذين تتأسس قراءتهم على العقلانية الإسلامية، ومن مراجعهم ابن رشد ، ونشير أيضا للمدرسة التاريخانية للعروي. فطه عبد الرحمان على العكس من ذلك، يرى أن هذا الاتجاه غير قادر على أن يقدم فلسفة عربية إسلامية، ما عدى اجترار مفاهيم غربية ومحاولة تبيئتها. وفي ذلك السقوط في نوع من الاحتباس النظري يصبح معه الباحث العربي سجين النموذج الغربي، وهذا الإشكال تلعب فيه الترجمة دورا مهما، وتقوم بكبح عملية الابداع العربي.
يقف الاستاذ محمد الشبة في كتابه عند المفاهيم الأساسية التي تؤسس مشروع الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمان، في كتابه السالف الذكر. وأولها مفهوم القومية العربية، باعتباره مدخل وإطار حضاري للفلسفة العربية الإسلامية، حتى تكون كذلك. والفلسفة عند طه تنفي الكونية وتقر بالاختلاف، والتعدد و القوميات، مؤصلا ذلك من القران الكريم -شعوبا و قبائل- ، ورابطا بين الإسلام والعروبة كما ترتبط الروح بالجسد، وذلك بخلاف المغتربين، والقومانيين الذين يفصلون العروبة عن الاسلام.
تم يناقش طه عبد الرحمان مفهوم الحوار الاختلافي والحوار النقدي، كأساس فلسفي يمكن أن ينهض بالفلسفة العربية. وموضحا أنواع الحوار وطرقه السليمة، حتى يمكن تفادي الوقوع في الخلاف والعنف والفرقة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، يقف فيه محمد الشبة عند معارضة  طه عبد الرحمان كونية الفلسفة، والعالمية التي تراها الفلسفة الحديثة. و يدعو الى فلسفة قومية عربية يقظة، بإعطاء خطة المقاومة والتقويم والإقامة.
اما في الفصل الثالث، فيدعو طه عبد الرحمان إلى تجاوز فكرة أسطورة الخلوص العقلي، أي أن الفلسفة ليست نتاجا عقليا خالص. ويرى بأن إهمال الجانب الإشاري في القول الفلسفي هو من أهم عوائق الإبداع الفلسفي العربي. وربما هذا الجانب يقربه من محمد اركون. ويدعو طه إلى إنتاج فلسفة عربية حية، من خلال إنتاج المفهوم والتعريف والدليل الفلسفي إنتاجا عربيا إبداعيا ولي إتباعيا.
وفي الفصل الرابع والخامس، يحاول طه عبد الرحمن أن يقوم آفة التقليد انطلاقا من الترجمة. ويقترح ترجمة إبداعية بدلا من الترجمة الإتباعية، التي تكرس النماذج الفكرية الغربية.
ليضيف في الملحق شكلا ثالثا من أشكال السؤال، ليخرج من ثنائية السؤال السقراطي والكانطي، إلى السؤال المسئول. وإذا كان طه عبد الرحمن يعتبر السؤال السقراطي سؤالا غير مسؤول، فإن محمد الشبة يختلف معه ويعتبر على العكس من ذلك بأن السؤال السقراطي مكان سؤالا مسؤولا حيث يقول: «وهذا ما يجعلنا نستنتج أن سؤال الفحص السقراطي ليس سؤالا غير مسؤول معرفيا وأخلاقيا، كما أنه ليس سؤالا يعتقد السؤال في حد ذاته، بل إنه يتوخى من جهة فحص درجة صحة المعرفة لدى الآخر، كما أنه يسعى من جهة أخرى إلى الحصول على المعرفة اليقينية بصدد المشكلات الأساسية التي تكتنف وجود الذات، كما تكتنف وجود الآخر. وبهذا المعنى، فالممارسة التفكيرية السقراطية، وإن كانت قد اشتهرت ب "السؤالية"، فإنه لا ينبغي أن ننفي عنها اتصافها أيضا ب "المسؤولية"؛ مادام أن سقراط لا يكتفي بطرح الأسئلة على الآخرين فقط، بل إنه يطرحها على نفسه قبل أن يطرحها عليهم، كما أنه يساعدهم على الإجابة عنها، ويبدو أكثر حرصا منهم على الظفر بجواب محدد عنها.» (محمد الشبة، عوائق الإبداع الفلسفي العربي حسب طه عبد الرحمن، منشورات ضفاف، الطبعة الأولى 2016، ص130)
ونفس الشيء بالنسبة لسؤال النقد الكانطي؛ فإن محمد الشبة يعتبره سؤال مسؤولا، وذلك لأنه يعتبر أن كانط كان «يدرك جيدا أهمية القيام بنقد داخلي للعقل الفلسفي، ولذلك فهو لم يكن هائما في وادي النقد، لا يلوي على شيء، كما يوهمنا المنظور الطهوي، بل كان بحكم حسه الفلسفي والأخلاقي مطلعا بمسؤولية فرضتها عليه الظرفية التاريخية لعصر الأنوار، الذي هو كما نعلم عصر النقد بامتياز؛ بحيث راح فيه الفلاسفة والمفكرون يراجعون أفكار وأساليب التفكير الماضوية، وذلك من أجل تجاوزها نحو تأسيس أفق فكري أرحب وخلق فضاء مجتمعي أفضل. ولهذا فقد كان "سؤال النقد" الكانطي سؤالا مسؤولا يرجى نفعه، بحيث وضع حدودا فاصلة بين العقل النظري والعقل العملي أو بين العلم والإيمان، وجعل لكل منهما مكانته ومجال اشتغاله، وأبرز ضرورتهما وأهميتهما معا داخل حياة الكائن البشري.» (نفسه، ص132)

2) كتاب "مفهوم المخيال عند محمد أركون":

وفي عمل فكري آخر يرتبط بالأول، من ناحية انتمائهما إلى نفس الفضاء الثقافي، إلا أنه يختلف عنه شيئا ما من ناحية توظيف المنهج، بحيث ينتقل بنا محمد الشبة من طه عبد الرحمان بمرجعية إلى حد ما أصولية، إلى محمد أركون المنفتح على مناهج العلوم الإنسانية المتعددة، من أجل توظيفها في قراءة ونقد الفكر الإسلامي. ففي كتابه "مفهوم المخيال عند محمد أركون" ينقلنا الشبة إلى مفهوم له أهمية كبيرة في مشروع ودراسات محمد أركون، ألا وهو مفهوم المخيال، المخيال الاجتماعي باعتباره محرك ومحرض للشعوب، كل الشعوب، ومنها العربية الاسلامية.
المخيال، باعتباره مجموعة من الرموز الثقافية والاجتماعية التي تسكن جماعة ثقافية في وعيها ولاوعيها. ويرى أركون كما جاء في كتاب أستاذنا، أن قيمة المفهوم ووجوب التوقف عنده، جاءت بعد تصاعد الأصولوية والخطابات الإسلاموية النضالوية التي تجعل من المخيال وقودا لها، في التعبئة الجماهيرية وتجييش الشعب لخدمة أغراضها ومصالحها السياسية والإيديولوجية والاقتصادية.
وقد انتقد أركون الماركسية حول إهمالها للبعد المخيالي والأسطوري في تحريك عجلة التاريخ، وتركيزها فقط على الجانب المادي والاقتصادي. فليست البنية التحتية هي فقط من تنتج وتؤثر في البنية الفوقية، بل إن هذه الأخيرة أيضا تؤثر في الأولى وتتحكم فيها. ومن هنا فالماركسية في نظره تقف على رجل واحدة.
     إن لمفهوم المخيال أهمية كبيرة في  دراسة التراث الإسلامي؛ ففي الثقافة العربية الإسلامية، وفي كل الثقافات، لا يمكن فصل المخيال عن العقل؛ فالمخيال يكون موجها للعقل، وأن معرفتنا هي معرفة مخيالية أكثر مما هي معرفة تاريخية. وحينما يغيب التاريخ تحضر الأسطورة في الثقافة الإسلامية، فهناك التقاء واندماج في حضارتنا بين المخيال الاجتماعي والإيديولوجيا، وبين المخيال والتاريخ في الوعي الإسلامي. وفي هذا السياق يقول الباحث محمد الشبة:  «لا يمكن فصل المخيال عن الأبعاد الثلاثة؛ العقل والإيديولوجيا والتاريخ. فهو – أي المخيال – يستقي عناصره ومكوناته من الأحداث والرموز التاريخية التي يعمل الوعي الجماعي على نمذجتها وأسطرتها، بشكل تصبح معه تلك الوقائع والأشخاص مرسخة في الأعماق السحيقة للفرد. وهذا ما يسهل عملية الاستغلال الإيديولوجي. وإذا كان المخيال يجسد حضوره دوما، بشكل أو بآخر، في مختلف أنماط الثقافة الإسلامية، فإن أركون يؤكد على الدور الذي يلعبه في توجيه المسار التاريخي، وفي عملية الإنتاج المعرفي والفكري داخل حقل الثقافة الإسلامية.» (محمد الشبة؛ مفهوم المخيال عند محمد أركون، منشورات ضفاف لبنان، الطبعة لأولى 2014، ص68.)
وينتهي كتاب محمد الشبة بالتأكيد على الدور الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام في تشكيل مخيال غربي تجاه الإسلام. فقد ترسخ في اللاوعي الجماهيري للشعوب الغربية أن الإسلام هو المسؤول عن الإرهاب وأحداث العنف والتخلف والتردي الذي تعرفه المجتمعات الإسلامية، وهذا ما يستدعي حسب أركون تصحيح هذه النظرة المخيالية بإعادة الاعتبار للإسلام كدين سماوي وكوحي منزل، وتمييزه عن واقع المجتمعات الإسلامية الذي تدخلت في تشكيله اعتبارات سياسية وإيديولوجية مختلفة.
وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن نبارك لأستاذنا محمد الشبة هذه التجربة الإبداعية التي تطلبت منه مجهودا عقليا وحيزا زمنيا ليس باليسير، ونتمنى له المزيد من العطاء والإبداع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.