الدرس الفلسفي؛ قضايا وإشكالات ديداكتيكية
على ضوء قراءة في كتاب "من وحي الدرس الفلسفي"
لمحمد الشبة
الجزء الثالث
بقلم: فريد
أمدى
المبحث الثاني: في بعض لحظات الدرس الفلسفي ومقتضيات التعامل
معها ديداكتيكيا
1. اللقاء الأول للتلميذ بالفلسفة:
تشكل لحظة اللقاء الأول للتلميذ بالفلسفة خاصة في مستوى الجذوع
المشتركة مرحلة مهمة ينبغي أن تحظى بتعامل مخصوص ولها دور أساسي في ما سيأتي بعدها،
على اعتبار أن تعليم الفلسفة سيرورة مترابطة تمر عبر ثلاثة مستويات لكل منها
خصوصياتها البيداغوجية والديداكتيكية، انسجاما مع مستويات التلاميذ وأفهامهم
وخصائصهم السيكولوجية والذهنية. وبالتالي كل مستوى يستهدف قدرات معينة؛ فالسنة
الأولى من الثانوي أي الجذع المشترك هي سنة لتعرف التلميذ على الفلسفة، كنمط فكري
متميز يلتقيه التلاميذ لأول مرة في مسارهم الدراسي، والذي يتم من خلال تناول نشأة الفلسفة ولحظات أساسية من تاريخها
واكتشاف معالمها ونمط اشتغالها.([1])
وهنا يطرح السؤال عن النهج الديداكتيكي الأنسب لهذا التعرف واستضافة عقل التلميذ
للفلسفة، هل يكون بإخباره عنها وعرض وسرد عوامل نشأتها ولحظاتها وخصوصياتها؟ أم أن
الأمر يستدعي أساليب ديداكتيكية من شأنها
أن تجعل التلميذ يكتشف هذا العالم بنفسه ويحتك مباشرة بخصائصه، بدل الاكتفاء بمجرد
معرفته عن طريق السماع([2])
والسرد التاريخي اعتمادا على المدرس؟
إن النص الفلسفي هو الوسيلة المناسبة والفعالة في هذه اللحظة، إذ من
شأنه خلق لقاء مباشر بين الذات المتعلمة وموضوع التعلم )الفلسفة)، ويجعل المتعلم
يكتشف الفلسفة ومنطق تفكير الفيلسوف لخلق معرفة مباشرة ودقيقة وممتعة بتقديم نصوص
الفلاسفة الذين دشنوا هذا اللون من التفكير )نصوص قصيرة حول الطبيعيين والسوفسطائيين
والفلسفة اليونانية.. (
)[3])، ومن خلال دراسة
تلك النصوص سيدرك المتعلمون طبيعة التفكير الفلسفي عند اليونان ... ومعناها في كل
لحظة تاريخية، ونوع القضايا والإشكالات التي تتناولها في مختلف الحقب التاريخية
وربطها بالسياقات والعوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية والجغرافية، وتبيان
ارتباط الفكر بالواقع، كما يكتشف آليات التفكير ومنطقه شيئا فشيئا كالأشكلة
واستخراج الأطروحات، ويتعرف تدريجيا على معالم تميز التفكير الفلسفي في أفق أن
يتمرن عليها في السنة الثانية بكالوريا التي
تعتبر محطة التمرس والاشتغال على تلك النصوص على ضوء مفاهيم وقضايا تحليلا
وتعليقا مع كل ما يرتبط بها من تقنيات منهجية ملائمة،([4])
لتتوج هذه المراحل السابقة بالمرحلة الثالثة التي يقترح فيها على المتعلم ممارسة التفكير الفلسفي
المستقل نسبيا، مع الإبقاء على النصوص الفلسفية بوصفها دعامات بيداغوجية وموارد
مساعدة على التفكير الفلسفي المستقل، القائم على البناء وتوظيف مختلف الكفايات التواصلية
والمنهجية والثقافية والاستراتيجية، مما يتيح بروز الشخصية والقدرات الذاتية
للتلميذ.([5])
ما دام الأساسي في درس الفلسفة هي الآليات
التفكيرية وليس الأفكار ذاتها وتاريخها، فإن اكتشاف التلميذ لتلك الآليات بنفسه من
خلال تحليل النصوص والاحتكاك بها هو ما من شأنه أن يثبتها في عقله ويمكنه منها
بشكل فعال، ويفتح له آفاق الكتابة والتفكير بروح فلسفية.
2. بناء ومعالجة الإشكال في الدرس الفلسفي:
هي مرحلة أساسية من مراحل الدرس الفلسفي، وتتجلى أهميتها في أن
الطريقة التي يتعامل بها الأستاذ معها لها انعكاساتها على ما سينجزه المتعلمون
أثناء كتاباتهم الإنشائية الفلسفية، وبالتالي فأي رداءة على مستوى بناء الإشكال في
الدرس ستتمخض عنه رداءة مماثلة على كيفية إجابة التلميذ على الإشكال في الإنشاء
الفلسفي. وهنا يمكن الانطلاق من مسلمات أساسية وهي أن المهارات وتقنية الكتابة
الإنشائية لا تكتسب فقط من خلال الحصص المخصصة لهذا الغرض، بل تكتسب حتى من خلال
الكيفية التي تبنى بها إشكالات الدرس وإنجازه، لأن بناء الدرس هو بمثابة البناء المميز للإنشاء الفلسفي أي:
v تمهيد
v طرح الإشكال من خلال الاشتغال على وضعية مشكلة ومفاهيم المحور أو الدرس
v محاولة الإجابة عليه من طرف جماعة الفصل
v
تقديم التصورات والمواقف
الفلسفية
v مناقشة تلك المواقف والتركيب بينها
والأساسي هو اتباع إستراتيجيات تضمن انخراط
التلميذ في معالجة الإشكال سواء في الدرس أو في الإنشاء، وذلك بمحاولة معالجة
الإشكال لا بالهرولة إلى مواقف الفلاسفة بل بفتح نقاش حول ذلك الإشكال الذي تم
بناؤه، لأن التلميذ مطالب بتجسيد قدراته الذاتية ولمسته الإبداعية. وبالتالي فأثناء
الإجابة عن الإشكال، سواء في الدرس أو أثناء لحظة العرض في الإنشاء الفلسفي، لا
يجب أن نعرض مواقف الفلاسفة تباعا والإسراع إلى النصوص، بل إن وجهات نظر التلاميذ
يجب أن تحضر في هذه اللحظة، وبعد ذلك الدخول في حوار مع الفلاسفة كمساعدين للإجابة
على الإشكال، وهذا يعني أن جماعة الفصل مطالبة بالإجابة عن الإشكال قبل التعرف على
إجابات الفلاسفة، والتجرؤ على استعمال العقل لأن إشكالات الفلسفة جزء من إشكالاتهم،
وجعلهم يفكرون في الإشكال انطلاقا من واقعهم وخبرتهم في الحياة، وخلق مناظرة
حجاجية بينهم للبحث عن مختلف الحلول الممكنة عن الإشكال المطروح، بالأسئلة وتوليد
الأفكار. وهذا الخيار البيداغوجي يأتي كرد على ما يمكن أن يترتب عن الاقتصار على
الفلاسفة في معالجة الإشكال من سلبيات، بحيث من شأن ذلك أن يقلص من مساحات التفكير
الذاتي وتفويت فرصة الكشف عن إجابات موسعة عن الإشكال والسقوط تحث وصاية تفكير
الفلاسفة، وأثناء الكتابة الإنشائية أيضا سيكتفي المتعلم باستدعاء المواقف اعتمادا
على الذاكرة دون إعمال حقيقي للعقل، في حين أن البدء ببناء الإشكال ذاتيا قبل
المرور إلى المواقف الفلسفية يسمح بالتحاور مع تلك الأطروحات انطلاقا من الإجابات
المقدمة من قبل، وما أفضى إليه تفكيرهم الشخصي، مما سيثري موضوع الدرس أو الإنشاء
ما دامت الإشكالات المطروحة تعنيهم أنطلوجيا، وبالتالي يجب أن يدلوا بدلوهم فيها
داخل الفصل لتتوزع الآراء والاتجاهات، ويخلق الجدل العقلي الذي سيثري التفكير
ويجعل التلاميذ يكتسبون القدرة على المحاججة على أفكارهم والدفاع عنها.
فمثلا
لو كنا بصدد إشكال قيمة الشخص الذي يندرج ضمن المحور الثاني لمفهوم درس الشخص، فبعد
صياغة هذا الإشكال من خلال تساؤلات عميقة لا نهرع مباشرة إلى نص كانط أو راولز، بل
نقوم بربطه بالواقع الاجتماعي للتلاميذ واستفزازهم وتلقي إجابات وتصنيفها وفق قوة
الحجاج، فنتوصل مثلا إلى أن قيمة الشخص
تتمثل فيما يمتلكه من مواهب أو اتصافه بسلوك حسن أو مكانته الاجتماعية والعلمية أو
السياسية ... وبعد إدلاء المتعلمين بإجاباتهم يتم المرور إلى التعرف على المواقف
الفلسفية ومقارنتها بإجابات المتعلمين، والدخول في حوار بناء مع الفيلسوف.([6])يمكن
أن تتمخض عن هذا النهج مجموعة من النتائج التربوية ك:
v ترسيخ الجرأة على النقاش لدى التلميذ، والقدرة على بناء الرأي المستقل،
والانخراط الذاتي في صلب الإشكالات الفلسفية..
v ربط قضايا الفلسفة بالحياة ونزع الغرابة عن الدرس الفلسفي..
v انعكاسات إيجابية على الكتابة الإنشائية للتلاميذ من خلال القدرة على
التفكير الذاتي، واستثمار الواقع والتراكمات السابقة في مجالات معرفية أخرى
لمقاربة الإشكال الفلسفي..
وهنا التساؤل إذا كان بإمكان المتعلمين
الإجابة عن الإشكال وتقديم مقترحات إجابة حوله، فلماذا التعرف على مواقف
الفلاسفةّ؟ وما الإضافة التي سيقدمها الفيلسوف؟([7])
إن الهدف الأساسي هو تعرف التلميذ على مهارات وأدوات وأساليب التفكير التي استخدمها
الفلاسفة في إنتاج هذه المواقف، للاستفادة منها في إنتاج قضايا جديدة، حتى تكون الغاية من تدريس
الفلسفة هي تعلم التفكير وليس اكتساب المضامين والمعلومات، لكن نتساءل هل فعلا لدى
التلميذ المغربي ما يكفي من المؤهلات وغنى
التراكمات وجودة التكوينات السابقة ليقدم إجابات حول الإشكالات في غنى عن الفيلسوف؟
ألا يعتبر المضمون الفلسفي أيضا ضروريا وهدفا من أهداف الدرس الفلسفي لإغناء رصيد
التلميذ معرفيا لتكوين فلسفي صلب؟
3. تحليل النص الفلسفي داخل الفصل الدراسي:
يعتبر النص الفلسفي مقاربة ديداكتيكية وظيفية
وخيارا بيداغوجيا ينسجم مع التحولات والمسارات التي عرفها الدرس الفلسفي على مستوى
الأهداف، بحيث أصبح يريد استهداف قدرات إجرائية قابلة للقياس والتقويم،([8])
ولذالك تم تبني خيار التدريس بواسطة
النصوص لما لها من إيجابيات بالنسبة للدرس الفلسفي، إذ يمكن من تحقيق مجموعة من
الكفايات والقدرات، ويسمح بتشغيل التلميذ ونقل الكلمة من الأستاذ إلى التلميذ، واستدماج
الأفكار والاحتكاك المباشر مع المفاهيم الفلسفية وقراءتها، وإنتاج كتابات حولها،
واكتشاف الآليات التفكيرية والعقلية التي ينهجها الفيلسوف في بناء أفكاره وكيف
ينظمها منطقيا في نص نسقي وحجاجي، لكن يطرح السؤال حول الطرق التي يجب اعتمادها في
الاشتغال على النصوص ديداكتيكيا داخل الفصل الدراسي بالشكل الذي ينسجم مع الأهداف
التي وظفت من أجلها؟
إن تحليل النص الفلسفي في إطار الدرس يكون
تحليلا وظيفيا؛ أي أن النص يأتي في سياق الإجابة عن إشكال فلسفي مطروح من خلال
محور يندرج داخله، مع أن النص قد يحتوي على إشكاله الخاص والذي يتم التوصل إليه
بقراءة النص والاشتغال على مفاهيمه وحجاجه، مما يمكن تلقائيا من استخراج أفكار
النص الأساسية، وبعدها يسهل تحديد أطروحته ثم إشكاله، على اعتبار أن الإشكال يكون
متضمنا في الأطروحة لكون هذه الأخيرة إجابة على الأسئلة المتضمنة في الإشكال،([9])
من هنا يتبين أن الإشكال هو آخر ما يتم استخراجه من النص، كما أن تحديد الإشكال
يمكن أن يتم من خلال الاشتغال على المفاهيم وفي حالات أخرى على الحجاج، ومن خلال
هذا الاشتغال تستنتج الأطروحة والإشكال. ويمكن تقديم الأطروحة على الإشكال أو
العكس حسب الإستراتيجية المعتمدة، على اعتبار أن الأطروحة جملة خبرية تقريرية إذا
ما أضيفت إليها أدوات الاستفهام أصبحت إشكالا؛ فمثلا إذا افترضنا أن أطروحة نص ما
هي " الوعي المرافق دوما لأفعال
الشخص هو ما يمنحه إحساسا بهويته"، فإشكاله يمكن أن يتكون من الأسئلة التالية:
ما الذي يمنح للشخص الإحساس الدائم بهويته؟ بأي معنى يمكن القول بأن الوعي المرافق
دوما لأفعال الشخص هو ما يمنحه إحساس بهويته؟ ولكن ما يجدر التشديد عليه هو أن
الكشف عن الإشكال أو الأطروحة لا يكون إلا
من خلال الاشتغال المسبق على مفاهيم النص أو حجاجه، لأن الإشكال والأطروحة يرتبطان
ضرورة بمفهوم أو العلاقة الكامنة بين مفهومين أو أكثر.([10]) وبهذا يتضح أن المسار الذي ينبغي أن يسلكه
التحليل هو العبور عبر مفاهيم النص وأفكاره للوصول إلى أطروحته وإشكاله. أما إذا
كان النص حجاجيا فمقاربته تكون من خلال الاشتغال على أساليبه الحجاجية، مما يمكن
من الولوج إلى أفكاره الأساسية التي ستسعف لا محالة في تحديد إشكاله وأطروحته التي
يعد تحديدهما قبل الاشتغال على المفاهيم والحجاج ضربا من الحدس([11])
الذي لا يستقيم مع متعلمين مبتدئين
يتطلبون تدرجا في طلاسم النصوص وتحليل عناصرها.
وتنفتح النصوص على إمكانية مقاربتها وتكثيف
عناصرها وفق خطاطات بيانية توضيحية من خلال الجداول، لضمان تحليل مركز ومتكامل
للنص الفلسفي نظرا للتداخل بين عناصره من مفاهيم وحجاج وأفكار يمكن الاشتغال عليها
دفعة واحدة، وملء الجدول بتساوق مع قراءة النص وشرح المفاهيم والعلاقات الممكنة
بينها.
4. لحظة المناقشة:
إن ما يتم القيام به بعد العمل التحليلي للنص وسبر أغواره
من خلال الاشتغال على مفاهيمه وحجاجه، وبالتالي استخلاص أطروحته وإشكاله حسب
الإستراتيجيات المشار إليها، هو أخد مسافة نقدية من النص بالعمل على نقده
ومناقشته، على مستوى نقده أو تثمينه، وهي أيضا من المحطات الأساسية سواء في الدرس أو
في الكتابة الإنشائية الفلسفية، والتي تستدعي تجييش جملة من القدرات والمهارات
العقلية، وهي لبنة لاكتمال الدرس أو الإنشاء الفلسفي. والأفعال العقلية المرتبطة
بالمناقشة هي سمات جوهرية من سمات التفكير الفلسفي، لأنها تقوم على النقد
والمحاججة ومقارعة الأفكار بأفكار أخرى مضادة أو مغايرة، ولهذا كان من الضروري
الوقوف على الكيفيات التي ينبغي أن تتم من خلالها عملية المناقشة أثناء التعامل
سواء مع النص أو الصيغ الأخرى للوقوف على المهارات الأساسية التي تستدعيها هذه
اللحظة.
إن عملية المناقشة تستهدف بالأساس مناقشة ما تم الكشف
عنه بعد تحليل مكونات النص وموضوعه وحمولته المعرفية ومنطقه الحجاجي، انطلاقا من
إمكانيات معرفية ذاتية وانطلاقا من الواقع المعيشي، أو من خلال توظيف أطروحات
فلسفية ومعارف متنوعة ملائمة للسياق الذي تتعلق به المناقشة. ([12])
وهنا نشير إلى خصائص المناقشة في الصيغ الثلاثة النص والقولة والسؤال، وأبرز مشتركاتها
وجوانب الاختلاف في مقاربة لحظة المناقشة فيها:
Ø
المناقشة في
صيغة النص:
عملية المناقشة لا تتم إلا بعد الانتهاء من تحليل النص؛ أي إبراز
أطروحته وتحليلها من خلال مفاهيمها والعلاقات الممكنة بينها، وإبراز الحجاج الموظف
ووظيفته في دعمها، فتطرح تساؤلات حول الأطروحة تسائل قيمتها وحدودها،([13])
وجعلها تنفتح على تصورات فلسفية أخرى متكاملة معها أو معارضة لها. لكن تجدر
الإشارة إلى أن المناقشة لا يجب أن تنصب
على أطروحة النص فقط، بل إن الحديث يجب أن يتسع في المناقشة إلى مناقشة مفاهيمه والعلاقة
بينها، باستحضار فيلسوف آخر له تصور آخر للعلاقة التي أقامها النص بين تلك المفاهيم، وكذا مناقشة الحجج
الموظفة في النص،([14])
وتجييش معارف خاصة وتجارب حياتية لمناقشة معطيات النص بشكل ذاتي. ومن هنا نستنتج
أن مناقشة النص لا تكون بالجملة، أي مناقشة أطروحته فقط، بل مناقشته مناقشة
بالتقسيط تنصب على الجزئيات الميكروسكوبية في النص، أي على المفاهيم والأفكار
الجزئية التي تنتظم داخلها وطبيعة الحجاج الموظف، لما يمكن لهذه المناقشة
التفصيلية أن تمنحه من دسامة فلسفية لفعل المناقشة،([15])
وبالتالي يمكن أن نختلف مع الفيلسوف في تعريفه لمفهوم أو طبيعة العلاقة بين
مفاهيم، كما تسمح مرحلة المناقشة بإجراء حوارات متعددة بين التلميذ وصاحب النص وبين الفلاسفة
أنفسهم وتجسيد التفكير الذاتي. وهكذا لا ينبغي الاعتقاد بأن المناقشة هي استحضار
واستظهار لمواقف وكتابتها بشكل حرفي، بل إن الأمر يقتضي مقاربة انتقائية
وإستنطاقية لعناصر التصورات والتعامل مع النصوص دون إسقاطات قبلية وجاهزة، لتفادي
تمييع المناقشة وتسطيحها بالدخول في عملية محاججة مع النص بتقديم حجج بديلة أو
تعزيز الحجج الواردة في النص في حالة الموافقة عليها والاقتناع بها، وهذا ما يسمى
بالمناقشة الداخلية أو الذاتية.([16])
ولكن في الحقيقة لا يمكن أن نفصل بين مناقشة داخلية وأخرى داخلية، وإنما هناك
مناقشة نقوم بها للنص إما بتوظيف قدرات ذاتية أو تجارب خاصة من جهة، أو توظيف
معارف فلسفية أو معارف من حقول فكرية أخرى متنوعة من جهة أخرى. واستدعاء الفلاسفة
يكون ضمن إستراتيجية تفكيرية وحجاجية
يختلط فيها الذاتي بالموضوعي واستعمال أمثلة من الواقع.
إن المناقشة تعني أخذ مسافة نقدية من النص وطرح تساؤلات نقدية عليه
والعودة إليه وليس فقط لأطروحته، بل مناقشة دقيقة تشمل مكوناته من مفاهيم وحجاج
وأطرحة مناقشة ذاتية تبتعد عن استعراض الملخصات كما هي، بل إنها تستدعي استحضار
مجموعة من القدرات؛ كالمقارنة والاستشكال والتعليق واستنطاق الأفكار لتثمينها أو
نقدها وبيان نواقصها.
Ø
في القولة المرفقة بالسؤال:
هناك خصائص وخطوات مشتركة بين هذه الصيغة والنص. وفي هذا السياق هناك ارتباط
وثيق بين التحليل والمناقشة، بحيث أن ما تم تحليله هو ما سيتم مناقشته، فالتحليل
والمناقشة متساوقان. لكن عموما الكثير مما ينطبق على النص ينطبق على القولة، لأنها
عبارة عن نص قصير يحمل كذلك أطروحة متضمنة وبعض المفاهيم المشكلة لبنيتها، وبالتالي يتم تحليلها واستخراج أطروحتها وحججها
المفترضة. وتقوم المناقشة هنا على:
v مناقشة القولة
شخصيا من خلال نقد حججها المفترضة وتوظيف تصورات فلسفية محاورة، لتتخذ المناقشة
طابعها السجالي، ووضع أفكارها أمام محك الواقع من أجل إبراز قيمة طرحها وحدودها..
v مناقشة القولة
من خلال الوقوف عند مطلب السؤال فيها والذي يحدد مسار المناقشة، إذ تطالبنا أحيانا
بتبيان قيمة القولة أو بيان أبعادها أو أحيانا الإجابة على سؤال تكون أطروحة
القولة أحد الإجابات الممكنة عنه..
v المناقشة
تطالبنا بتطوير مضمون القولة وفتح النقاش حولها على آفاق واسعة..
يمكن استخلاص تشابه كبير بين ما يمكن قوله عن المناقشة المتعلقة بالنص
والقولة، والفرق الوحيد هو صغر حجم القولة باعتبارها نصا قصيرا ومكثفا، وعوض أن
تنصب المناقشة على أفكار وحجج ظاهرة في النص تنصب على أفكار وحجج محتملة في القول
نقوم نحن باستخراجها ونقدمها أثناء التحليل لتدعيم الأطروحة.([17])
ومن تم مقارعتها بحجج وأفكار مستمدة من والواقع أو من تصورات فلسفية محاورة.
Ø
صيغة السؤال:
في هذه الصيغة الأمر مختلف شيئا ما، إذ يتم المزاوجة بين التحليل
والمناقشة، ولا توجد أطروحة واحدة متضمنة، ويحتمل السؤال أكثر من أطروحة. وبالتالي
فالتحليل ينصب على الأطروحة الأولى، ثم تأتي أطروحة تناقش من ما تناولته الأولى،
وتجييش معارف ذاتية وخبرات واقعية لإبراز حدودها، واستدعاء مواقف فلسفية وخلق
روابط منطقية بين التصورات..
إن ما تستهدفه
المناقشة أساسا هو إضفاء الطابع الذاتي، والدفع بالتلميذ إلى حشد معارفه ومهاراته لكي
ينخرط في الإشكالات المدروسة، ويخلق مواجهة بين التصورات المدروسة والأفكار
والمفاهيم، لينتهي في نهاية المطاف إلى صياغة مركبة تستجمع تلك العناصر بما يستجيب
لقناعته، ويرسخ لديه النسبية التي تميز هذا الحقل الفكري، بحيث أن كل التصورات ما
هي بالخاطئة ولا بالصحيحة، وإنما لكل زاويته ومنظوره في مقاربة الإشكال. وبالتالي
فلحظة المناقشة هي محطة لتجسيد البعد الحجاجي في العمل الفلسفي الذي يقوم أساسا
على العقل وممارسة النقد والفحص اللازمين للبحث عن الحقيقة، كما أنها فرصة للتحرر
من حجاج السلطة الذي يقوم على تحليل واستحضار الأقوال، والتسليم بها وبالمفاهيم
دون مساءلة. ولنا في سقراط عبرة في استشكال الأمور ومساءلة المفاهيم([18])
والبحث المشاغب، واختبار صدق القضايا والاطمئنان فقط للأفكار التي تصمد أمام الشك
والفحص العقلي لإقناع الذات قبل الآخر. وهذا الأفق النقدي الاستشكالي والاستقلال
في بناء القرارات والرأي، هو ما نريده أن يتحقق لدى تلميذ الفلسفة كهوية تربوية
وكفاية إستراتيجية([19])
تبنى من خلال الوضعيات التعليمية التعلمية، وعبر لحظات الدرس الفلسفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.