الدرس الفلسفي؛ قضايا وإشكالات ديداكتيكية
على ضوء قراءة في كتاب "من وحي الدرس الفلسفي" لمحمد الشبة
الجزء الثاني
الفصل الثاني
قراءة في مضامين الكتاب ومحتوياته
المعرفية
سنحاول من خلال هذا الفصل الولوج إلى محتوى
الكتاب واستنطاق مضامينه وأفكاره. ونشير هنا إلى أن الكتاب يقسم مادته المعرفية
ويعرضها من خلال مجموعة من الفصول التي تتضمن عدة مقالات، حاولنا أن نعيد ترتيبها
وفق تصورنا الخاص والدمج بين مجموعة من المقالات والفصول وتغيير عناوين أخرى، بحيث
أنه في الأصل وزع الكاتب مضامين الكتاب على ثلاثة فصول بعد المقدمة التي ركز فيها
على تقديم رهانات الكتاب، من خلا ل التركيز أساسا على التفصيل في العنوان ومبررات
اختياره لمجموعة من المفاهيم كالوحي لما يحتمله من دلالات كالأصالة والإلهام والموهبة
والتميز، أرادها أن تنسحب على الفلسفة ديداكتيكيا وتستند على أرضية الفصل
الدراسي المغربي، ([1])كما استثمر المقدمة لإطلاع المتلقي على
التقسيم الذي ارتآه للكتاب إذ قسمه إلى ثلاثة فصول: الأول عنون ب "أي
ديداكتيك فلسفي نريد" يضم ستة مقالات تقدم معالم ديداكتيك فلسفي
أراد له أن ينطلق من التجربة الفصلية ويعود إليها،([2]) تم فصل ثاني تحث مسمى "قضايا مستوحاة من التجربة الفصلية" يحوي عشرة مقالات تتناول عدة قضايا مستمدة من
تجربة المؤلف نفسه كأستاذ وتقديم تجربته في التدريس، وتصورات بخصوص كيفية التعامل
مع لحظات أساسية في الدرس، والكتابة الإنشائية الفلسفية، وصعوبات مرتبطة بالنص
الفلسفي، والكيفية التي يجب أن يتعرف بها التلاميذ على الفلسفة، وغيرها من الإقترحات
المرتبطة بهذا السياق... أما الفصل الثالث فهو عبارة عن مجموعة من الأقوال
والشذرات ونصوص قصيرة مأخوذة من نفس المواضيع التي وردت في فصول سابقة من الكتاب
ووضعت تحت عباءة عنوان: "إشرقات
وحدوس ديداكتيكية" تكون بمثابة
مفاتيح تمكن القارئ من ولوج منظومة الفكر الديداكتيكي للمؤلف على حد تعبيره، حول
الكثير من القضايا التي تشغل بال مدرس الفلسفة والمهتم بديداكتيكها؛ ومن أهمها
مسألة غائية الدرس الفلسفي والكفايات المتوخات منه، المشاكل التي تطرحها الكتب
المدرسية، وعلاقة الفلسفة بالمؤسسة، وقضايا أخرى تتعلق بالنص الفلسفي، والكتابة
الإنشائية الفلسفية، وغير ذلك،([3] ) متوخيا من هذه الفصول إذكاء نار النقاش حول
قضايا الفلسفة الديداكتكية، وفتح آفاق التفكير فيها لإغناء الساحة الديداكتيكية
المغربية والتقرب من الدرس الفلسفي المأمول.
أما قراءتنا نحن لمضامين الكتاب فقد أفضت إلى إستدماج عناصره ضمن رؤية
تكثيفية للمقالات الواردة فيه واختيار العناوين التي تحيط بمشتركاتها. وبالتالي
نعرض لهذه القراءة من خلال ثلاثة مباحث رئيسة:
المبحث الأول: في النموذج البيداغوجي والديداكتيكي
المأمول للدرس الفلسفي.
1. ديداكتيك الفلسفة بين التنظير والممارسة:
يمكن الإشارة في هذا الإطار إلى مجموعة من
الأمور المتعلقة بديداكتيك الفلسفة على
مستوى التنظير والممارسة، وفي هذا الإطار يؤسس الكتاب لفكرة أن مشروعية التنظير
الديداكتيكي مرتبطة بالممارسة الفصلية الواقعية للمنظر لكي لا يسقط في نوع من
التخمين، من هنا تبرز أهمية الكتابة حول الممارسات الديداكتيكية وإخرجها من سجن
الحجرات الدراسية وجعل التجارب تتحدث عن نفسها،([4] )لينطلق منها المنظر الديداكتيكي واستخلاص
القواعد منها انطلاقا من مواهب الأساتذة وهم في مغامرة تدريس الفلسفة، وبالتالي تبقى مسألة تقاسم التجارب الفصلية
ضرورية لإغناء الساحة الديداكتيكية بحيث لا زالت الجرأة والشجاعة لم تنضج عند
العديد من الأساتذة في الحديث عن تجاربهم والكتابة عنها، لخلق حوار بين التجارب
ونقدها واستفادة تجربة من أخرى، ليكون ذلك الحوار الاختلافي النقدي بين التجارب
أساسا صلبا لأي رؤى تنظيرية وتقعيدية لديداكتيك الفلسفة، لأن التجربة الفصلية هي
منطلق الإبداع في هذا السياق، والخبرة والممارسة هي أساس كل قول ديداكتيكي.([5] ) ومن خلال ما سبق ينتصر الكاتب لفكرة ما
يسميه بالديداكتيك الجهوي أو المحلى الذي تحضر فيه لمسة المدرس واجتهاداته، وتفادي
الاستنساخ انسجاما مع الدينامكية والحياة التي تتسم بها الفلسفة، وبما يراعي طبيعة
المتعلمين وسياقاتهم الاجتماعية والثقافية وقدراتهم المعرفية والعقلية، مما يجعل
الممارسة الديداكتيكية مقرونة بالموهبة والإبداع من طرف الأستاذ ليلائم مادته
ديداكتيكيا مع مختلف السياقات، وإبداع ديداكتيك أصيل يستحضر حياة التلاميذ. وهذه
الموهبة تكون مرتكزة أساسا على واقع الفصل واللحظة الدراسية كلحظة تتفاعل فيها
موهبة المدرس مع مواهب التلاميذ لصنع التجربة الفصلية التي يجب أن تدون لتستنتج
منها قواعد وخلاصات ديداكتيكية. وإذا كان على الديداكتيك الفلسفي أن يكون جهويا
مطابقا لخصائص التجربة الفصلية والمسرح الذي ينجز فيه وطبيعة المتعلمين، فإن عليه
أيضا أن يكون مطابقا لروح التفكير الفلسفي ويخدمه؛ أي أن يكون منسجما مع الفلسفة
نفسها والخصائص المميزة للتفكير الفلسفي، وقواعده المنهجية التي عليها أن تكتشف من
خلال النصوص الفلسفية، وبالتالي ضرورة قراءة النصوص الفلسفية بعين ديداكتيكة
ومنهجية، ومن خلال هذه المطابقة المزدوجة يمكن أن يحقق الدرس الفلسفي غاياته وأهدافه
التي هي غايات الفلسفة ذاتها.([6])
2. من أجل درس فلسفي مفعم بالحياة:
إن الدرس
الفلسفي يجب أن يكون درسا في الحياة وللحياة، كدرس يراد له أن يكون حواريا ونقديا وحجاجيا وممتعا ومفعما
بالحياة . والمنطلق الذي ينطلق منه الكاتب للتأسيس لهذه الحياة التي ينبع منها
الدرس ويتجه إليها، هو أن الفلسفة والمعارف المتراكمة في تاريخها هي أشكال مختلفة من التفكير في الحياة،
ولذلك طبعت الكتابات الفلسفية بطابع الاختلاف وحضور الذات الفلسفية في الإنتاجات
الفكرية تبعا للمرجعيات الاجتماعية والسياقات الثقافية والسياسية والفكرية
للفيلسوف، وبالتالي تحضر مزاجيته لأنه يكتب حول قضايا مستمدة من واقعه الاجتماعي
والإنساني كأرضية للإبداع والتفلسف، كما يستحضر منهجا للتفكير في هذه الحياة. ومادام
الفيلسوف ينطلق في تفكيره من الحياة، فإن من غايات الدرس الفلسفي ما يلي:
Ø الانطلاق من الوضعيات
والألغاز الحياتية نفسها التي أدهشت الفيلسوف.
Ø لا نكتفي فقط
بمعرفة الأفكار الفلسفية، بل أيضا معرفة مبرراتها ومصوغاتها وسياقاتها الحياتية.
Ø تعويد التلميذ
على التفكير في حياته، من خلال إكسابه تلك المناهج والمهارات التفكيرية التي فكر
من خلالها الفيلسوف في حياته.
يبقى تحقق هذه الرهانات رهينا بضرورة القيام بثورة كوبيرنيكية على
الدرس الإلقائي،(7) وإنتاج درس
يكون فيه المتعلم مثل المعلم ملزما بالتفكير والبحث عن المعرفة، للانتقال من درس
في تاريخ الفلسفة إلى درس في الحياة، واستثمار حياة التلاميذ والوسط الاجتماعي،
وربط إشكالات الدرس بتجاربهم المعيشية لخلق الدافعية اللازمة لانخراطهم في ذلك
البحث. ويمكن أن نشير هنا إلى بعض الإجراءات والشروط الضرورية لحضور الحياة في الدرس الفلسفي:
ü تقديم الأمثلة
الواقعية من مختلف المجالات،
ü تجنب إملاء
الملخصات، وخلق حوار حول النصوص والأقوال الفلسفية وتشغيل التلاميذ عليها،
ü استثمار النص
الفلسفي لأخذ التلميذ في مغامرة استكشافية للتعرف على خصائص التفكير الفلسفي، وخلق
معرفة مباشرة بين التلميذ والفلسفة،
ü إبداء التلاميذ
لآرائهم وملاحظاتهم ودفعهم لتقديم حجج للدفاع عنها،
ü امتلاك المدرس
لتكوين معرفي فلسفي، ولمقتضيات تمكنه من نقل المعارف ديداكتيكيا،
ü خلق عنصر
التشويق والمتعة من خلال المراهنة على الأبعاد الحياتية، ونزع الغرابة والتجريد عن
الأفكار الفلسفية عن طريق ربطها بالواقع المعيشي للمتعلمين.
3.
من درس إديولوجي إلى درس نقدي:
إضافة إلى الوظيفة العقلية والتفكيرية للدرس الفلسفي المتمثلة في
إكساب التلميذ قدرات ومهارات يستخدمها الفلاسفة في ممارستهم لفعل التفلسف،
كالأشكلة والمفهمة والمحاججة والتحليل والتركيب... وغيرها من القدرات التي يراهن
عليها الدرس الفلسفي، هناك رهانات أخرى مرتبطة أساسا بما هو قيمي إذ يسعى إلى
ترسيخ قيم عقلانية وإنسانية لدى المتعلمين، لينقلوها بعد ذلك إلى الحياة
الاجتماعية، ويصبحوا بدورهم ممتلكين لاستقلالية الفكر، وإنشاء أفراد قادرين على
تأسيس مجتمع ديمقراطي، والتخلص من قيم العدمية والإرتكاسية، والتحرر من كل السلط،
وإعلاء سلطة العقل والحوار. ويخدم الدرس الفلسفي هذه الأهداف من خلال خلق الأستاذ
لأجواء النقاش والحوار الديمقراطي داخل القسم، وتبادل الحجج، والابتعاد عن أي
منزلق إيديولوجي يكرس الوصاية والتبعية،([7])
والانتقال من درس في الأفكار إلى درس في التفكير، وعدم توريط التلاميذ تحث وصاية
الفلاسفة أنفسهم، واتخاذ مسافة نقدية من التصورات الفلسفية أثناء عرضها، وترك
التلميذ يختار ويركب بين التصورات، بل ومحاججتها والدخول في نقاش نقدي معها وكشف
ثغرات ما يقدمه الفلاسفة وتبيان حدود وقيمة الأطروحات.
وهنا نشير إلى أن المنهاج والأطر المرجعية في تقويم إنشاءات التلاميذ
تكرس هذا البعد النقدي وتعطيه أهمية، ويعد مؤشرا من بين مؤشرات تمكن التلميذ من
القدرات المستهدفة في الدرس الفلسفي، بحيث تخصص نقطة مهمة لجانب المناقشة في امتحان
البكالوريا.([8]
)وتبرز لحظة المناقشة هنا كلحظة لعمل
إبستيمولوجي خالص تنتقد فيه الأطروحات الفلسفية موضوعيا، وهذه القاعدة
الديداكتيكية يمكن أن نستقيها من الفلاسفة
أنفسهم إذ تتوالد المذاهب الفلسفية بناء على نقد بعضها البعض، وذلك من شأنه أن يقي
الدرس الفلسفي من أي منزلقات إديولوجية ونزعات إطلاقية، ليصير درسا ذا صبغة
ديداكتيكية وإبستمولوجية ونقدية مطابقة لمنطق التفكير الفلسفي ذاته.([9])
4. في إستلهام تجارب الفلاسفة المدرسين
لم يكتفي الفلاسفة بإنتاج الأفكار والخطابات الفلسفية، بل منهم من عمل
على تدريس تلك الأفكار ونقلها للمتعلمين، مما يعني أنهم مارسوا عملا بيداغوجيا
وديداكتيكيا يمكن أن نستفيد منه ونأخذ منه ما يفيدنا، واستثماره في استخلاص قواعد
ديداكتيكية وبيداغوجية لتدبير درسنا، وبناء نموذج بيداغوجي وديداكتيكي ينسجم مع خصوصيات
التفكير الفلسفي ويخدم أهداف الفلسفة. وفي هذا الإطار نستثمر مجموعة من الشهادات
حول بعض الفلاسفة الأساتذة ككانط وهيغل ونيتشه وألان.
فأما كانط فيمكن أن نستقي من تجربته في التدريس عناصر مفيدة لممارستنا،
وأبرزها حيويته الفكرية النابعة من عشق التفلسف والإيمان بأهمية إشكالاته، وكذلك
أخلاقيته في التدريس. وقد صورت خصلتين نفسيتين وأخلاقيتين عند كانط في علاقته
بالتدريس هما الهدوء والمرح وطلاقة الوجه، والمزاوجة بين الجدية والصرامة المميزة
للتفكير الفلسفي كتفكير عقلي وحجاجي وبين المرح المعرفي، واجتماع الفكاهة مع غنى
الفكر.([10])
وهذا معناه أن التكوين المعرفي مهم بالنسبة للأستاذ، ولكن امتلاكه لأفكار عالمة
يقتضي منه تبسيطها وإفهامها للعقول بروح مرحة تلعب دورا سيكولوجيا وديداكتيكيا، وتقحم
المتعلم في بناء الأفكار ومناقشتها. كما عرف كانط بحرصه على الجانب التواصلي
والقيمي في الدرس الفلسفي، وتحفيز المتعلمين على بناء الرأي والخروج من الوصاية، انسجاما
مع فكره ومرجعيته التنويرية. وبهذا يرى أنه لا بد للدرس الفلسفي أن يكون أنواريا،([11]) يسوده مناخ الحرية الفكرية والنقد والحجاج،
ويقوي إحساس التلميذ بكرامته الإنسانية، وحجب كل أشكال التسلط حتى في بعدها
المعرفي. كما يمكن استلهام الروح الأخلاقية الكانطية؛ إذ على المدرس أن يكون كانطيا بالمعنى الأخلاقي
للكلمة في علاقته بعمله، ويرتبط به بعقد الإخلاص وحمل هم التطوير من خلال الكتابة
والتأليف، لإغناء الساحة الديداكتيكية الفلسفية وتجويد أساليب التدريس.
أما هيغل فرغم ما عرف عنه من أنه مناصر للدرس الفلسفي القائم على
تدريس الأفكار والتركيز على المضامين الفلسفية وتاريخها في جو إلقائي بالأساس، إلا
أن درسه يتميز بالعديد من الفوائد التي يمكننا استثمارها والتي أشارت إليها شهادة أحد متعلميه، وأبرزها مسألة أخذ النقط الخاصة
بالدرس من طرف المتعلمين، والتي يوليها هيغل اهتماما بالغا للحفاظ على تركيز
المتعلمين، ليتجاوز بذلك طريقة الإملاء والاكتفاء بشرح الأفكار التي يدونها
التلميذ بطريقتهم الخاصة، كما يسمح لهم بطرح الأسئلة والمقاطعة وكذا بناء الحصة
انطلاقا من الحصة السابقة بشكل منطقي ومتسلسل، وتوخي البساطة في شرح الأفكار.([12])
لكن ما يعاب على منهج هيغل هو هذا العرض الذي يميز درسه، بحيث يعرض الأفكار
ويشرحها والمتعلمون يستمعون ويطرحون استفسارات وأسئلة حولها ويأخذون النقط، إلا أن
هذه الطريقة قد تطرح صعوبات في وسطنا التعليمي وفي ثانوياتنا نظرا لضعف الإدراكات
الذهنية والقدرات التعبيرية لدى التلاميذ، مما يتطلب من الأستاذ التصرف بنهج
أساليب بيداغوجية مثل التدوين على السبورة على شكل جداول وخطاطات توضيحية، ومحاورة
التلاميذ بشكل متدرج للوصول إلى بعض الخلاصات معهم، وطلب صياغتها شفويا أو كتابيا
من طرفهم، واختيار أحسن صياغة لخلق تنافسية بين المتعلمين وتحفيزهم على الاجتهاد. كما يمكن أن نستفيد من هيغل المدرس، عنايته
بدفاتر المتعلمين وطلب خلاصاتهم حول الحصص، مما يمكنهم من إكتساب مهارة الكتابة.([13])
وما يمكن قوله عموما حول الدرس الهيغلي هو
تناسبه مع المستوى الجامعي على اعتبار أنه يقوم على الإلقاء والعرض والشرح،
ولايرقى إلى الدرس الحواري والتفاعلي بالشكل المطلوب والمنشود في الدرس الثانوي،
والذي عليه أن يستهدف قدرات إجرائية عديدة ولا يتمركز حول المضمون ونقله وشرحه
للمتعلمين، بل جعل هذا المضمون بمثابة وسيلة ديداكتيكية لتحقيق كفايات وأهداف
منهجية وقيمية وتواصلية ... والتي تقتضي أن يكون الحوار مساوقا لكل لحظات الدرس
الفلسفي، ينطلق من خلالها المدرس من وضعيات مشكلات يشتغل التلاميذ عليها عن
طريق طرح الأسئلة عليهم وتلقي إجابات، وخلق نقاش أفقي بين
التلاميذ أنفسهم، وتدخل المدرس كموجه ومسير ومنشط لهذا النقاش الفصلي المتعدد
الاتجاهات، والتوصل من خلاله إلى خلاصات واستنتاجات وتقويمها وتدوينها، ليكون بذلك
الحوار قبليا ومولدا للمعرفة ومصاحبا لأنشطة التعلم، وليس بعديا يأتي لمناقشة
أفكار معطاة بشكل مسبق.
أما
بالنسبة لنيتشه فنستوحي تلك العلاقة الحميمية التي ينبغي أن تكون بين الأستاذ
وتلاميذه؛ علاقة تنبني على التعاطف والمودة والتشجيع بكلمات الثناء والمدح من قبيل
قول حسن جدا وغيرها من عبارات الاستحسان والثناء على أعمال التلاميذ، بحيث أن
نيتشه كما جاء على لسان أحد متعلميه([14])
يكن للجميع نفس الصداقة والأدب، وهنا نلمس جانبا مهما من الأسس التي يجب أن تقوم
عليها الممارسة التعليمية، وهي العدل والمساواة بين جميع المتعلمين سواء في تقديم
المعلومة أو في التقويم بالأساس، والاهتمام بالجميع حتى ذوي القدرات المتواضعة
لإلحاقهم بالركب، وهذا ما يوحي إلى ما يسمى اليوم بالبيداغوجية الفارقية، وكذا أن
يكون المدرس صديقا للمتعلمين لأن الصداقة تجعل العلاقة أفقية، مما من شأنه أن
ينعكس على طبيعة الأنشطة التعليمية التعلمية والاقتراب من ذات التلميذ وأفكاره
وأحاسيسه([15])
، وهو ما يسهل عملية النقل والتحويل الديداكتيكي للأفكار الفلسفية.
وهذا الانفتاح التربوي النشيط نجده أكثر عند
الفيلسوف "ألان" الذي يجعل من متعلميه مصدر الأفكار المناقشة في الدرس،
بناء على القراءة التي قاموا بها قبليا بطلب منه بحيث كان يحث التلاميذ على
القراءة.([16])
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما لفعل القراءة من أهمية في الدرس الفلسفي،
وإكساب المتعلمين قدرات لغوية وتعبيرية ومناهج في التفكير، بالإضافة إلى انعكاساتها
على فعل الكتابة، بحيث أن التلاميذ الذين يكتبون بطريقة جيدة هم الذين يكون لديهم
رصيد مهم من المطالعة،([17]) وينتجون
كتابات إنشائية مميزة، وهذا راجع إلى ما لقراءة الكتابات الفلسفية من دور في تزويد
التلميذ بمؤهلات لغوية وقدرات منهجية،
وإغناء رصيده بمعارف ومضامين فلسفية غنية.
وبالإضافة إلى هذا الجانب المتعلق بالقراءة،
فالدرس "الألاني" درس حواري وحجاجي يقوم على الإقناع بحيث أن التلاميذ
يكتبون أفكارا نابعة من قراءاتهم على
السبورة في بداية الحصة يسعون أن تنال إعجاب أستاذهم، لكنه يناقشها معهم وهم
مطالبون بالدفاع عنها،([18])
وبهذا لا تحتكر المعرفة وتطرح على طاولة النقاش، وفتح آفاق
الدرس الفلسفي على مجالات معرفية متعددة وعلى الحياة، وتكون ذات المتعلم هي
المنطلق الذي ينبني عليه الدرس؛ إذ ينطلق ألان من الأفكار والمقولات التي يدونها
تلاميذه على السبورة، وهذا يذكرنا بالوضعية المشكلة التي تعتمد الآن كضرورة على
المدرس أن ينطلق منها لإقناع المتعلمين بأهمية ما سيدرسونه من إشكالات وقضايا
فلسفية، ودفعهم إلى التفكير فيها كإشكالات تهمهم بقدر ما تهم الفلاسفة.
([19])
وكما يحث "ألان" على القراءة يعطي أيضا أهمية للكتابة، لما للكتابة من
أهمية في جعل صاحبها يتمرن و يلتزم بمجموعة من القواعد والضوابط المنظمة لفعل
الكتابة الفلسفية خاصة، كالتأطير وصياغة الأسئلة المعبرة عن الإشكال، والتحليل من
خلال المفاهيم، وغيرها من العناصر التي تقوم عليها الكتابة كفعل عقلي وكجسر لترسيخ
مقومات التفكير الفلسفي، لذلك تبرز ضرورة تشغيل المدرس للمتعلمين على الكتابة
والتمارين التطبيقية، وتخصيص حصص خاصة لهذا الغرض، وتكليفهم بإنجاز البحوث
والعروض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.