الجمعة، 9 يونيو 2017

بحث لفريد أمدى حول كتاب "من وحي الدرس الفلسفي" ج1

الدرس الفلسفي؛ قضايا وإشكالات ديداكتيكية
على ضوء قراءة في كتاب "من وحي الدرس الفلسفي" لمحمد الشبة

الجزء الأول










بقلم: فريد أمدى

تقديــــــــــــــــــــــم:
لم يكن التفلسف والحكمة منذ الإغريق في منأى عن التفكير في سؤال الحرية والعقل، وهو ما تشهد به الكثير من النصوص والمحاورات التي بينت إنشغال المتفلسفة الكبار من قدامى ومحدثين بممارسة الإبداع وإجتراح المفاهيم وصقلها، وسبك المقولات والدلالات التي نضفيها على الكينونة والوجود بغية تمثل الحوار مع العالم والذات والغير.
 بيد أن فائدة قيم السؤال والحوار والنقد ليست محصورة في المجال الفلسفي بل يحتاجها الإنسان والمجتمع في كل مناحيه ومستوياته، وبما أن الفلسفة من أقدر الحقول المعرفية حرصا على هذه القيم فإنها تعد معرفة ذات فائدة وقادرة على بناء عقلية قابلة لاستيعاب الإختلاف وإحترامه، ومن ثمة صار تعليم الفلسفة مطلبا ضروريا في أي مجتمع يروم تأسيس قواعد العيش المشترك.
 غير أن الفلسفة ليست معطى سهل المأخذ بل هي ككل الحقول المعرفية تحتاج إلى تطوير مستمر في محتواها وفي أدوات تدريسها، ومن هنا فإن التفكير في مستجدات حقل التربية والبيداغوجيا ضروري لتطوير ديداكتيك الفلسفة من أجل تجويد نقل الخطاب الفلسفي النقدي العقلاني إلى الفئات المتعلمة، مع الأخذ بالحسبان النمو النفسي والذهني للمتعلم بتصريف اللغة الفلسفية ومبادئها ومرتكزاتها، مما يقحمنا في سؤال المنهج والبحث عن الأساليب البيداغوجية والديداكتيكية التي من شأنها أن تضمن نجاح المدرس كوسيط بين الفلاسفة والمتعلمين بالشكل الذي يحقق تلك الحيوية المميزة لهذا التفكير، لأن الفلسفة تحتاج إلى تطوير ديداكتيكي لنقل معارفها وتصوراتها ومهاراتها، بل إن ذلك التطوير شرط لتحصيل تعلمات نوعية وكفايات شمولية تجعل من المتعلم قادرا على الانخراط في مجتمع المعرفة والتنوع الثقافي والعرقي والمذهبي، بروح الحوار والنقد والتسامح.
 من هنا بات تعميق ومعاودة التفكير في الجانب الديداكتيكي والتربوي ضروريا ومفروضا، ويأتي موضوعنا "الدرس الفلسفي،قضايا وإشكالات ديداكتيكية" ضمن هذا المسار لنقارب مجموعة من القضايا والإشكالات الخاصة بالدرس الفلسفي المتعلقة أساسا بنموذجه البيداغوجي والديداكتيكي، لاستخلاص رؤية شاملة حول محطاته ومقتضيات التعامل معها ديداكتيكيا، وكذا استكشاف سبل التطوير والإغناء التي يمكن من خلالها أن يساهم الفاعلون التربويون في إذكاء النقاش البيداغوجي والديداكتيكي حول الدرس الفلسفي،  خدمة لرهان جعله منسجما مع منطق وخصائص التفكير الفلسفي ذاته وكذا خادما للحياة في آن، ونتفاعل إشكاليا مع هذه القضايا وغيرها من الإشكاليات الخاصة بالفلسفة كمادة مدرسة على ضوء قراءاتنا لكتاب الباحث محمد الشبة: " من وحي الدرس الفلسفي إشكالات وحدوس ديداديكتية" مع تعميق البحث في الأفكار والعناصر الديداكتيكية التي يتناولها، وذلك من خلال المداخل الإشكالية التالية:   
ما هو النموذج البيداغوجي والديداكتيكي المأمول للدرس الفلسفي وما آليات  بنائه وتطويره نظريا وتنزيله عمليا؟
وما هي أبرز اللحظات والخطوات التعليمية للدرس الفلسفي؟ وما مقتضيات التعامل معها بيداغوجيا وديداكتيكيا؟
وما هي  مكامن الأهمية التربوية وحدود الإفادة المعرفية والقيمة البيداغوجية لهذا الكتاب الذي نقارب من خلاله هذه القضايا، وما أفق استعماله واستثماره تربويا ومهنيا؟


الفصل الأول: تأملات في عتبات الكتاب


المبحث الأول: المؤلف.

 الأستاذ محمد الشبة هو من مواليد 1971 حاصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1994 وعلى  شهادة استكمال التكوين في الفلسفة الإسلامية سنة 1995، مدرس للفلسفة وباحث في الفلسفة والديداكتيك والفكر الإسلامي صدرت له العديد من المؤلفات في مجال الفلسفة سواء على مستوى موضوعات فلسفية بعينها أو في الجانب البيداغوجي والديداكتيكي، من أهمها: كتاب "عوائق الإبداع الفلسفي العربي حسب طه عبد الرحمن"، كتاب "تأملات وقراءات في قضايا فلسفية"، كتاب "محاورات فصلية في تدريس الفسلفة"، كتاب "مجزوءة الإنسان"، كتاب "مجزوءة الفاعلية والإبداع"، وكتاب "من وحي الدرس الفلسفي؛ إشكالات وحدوس ديداكتيكية" الذي هو مادة اشتغالنا في هذا البحث. بالإضافة إلى مجموعة من المقالات المنشورة في العديد من المجلات التربوية والجرائد الوطنية نذكر منها: "الحقيقة بين العقل والتجربة"، " أحتاج إلى الغير وأخشاه في الآن ذاته"، "التجربة الفصلية أساس إبداعاتي الديداكتيكية"، وله مدونة تهتم بقضايا الفكر والفلسفة والدرس الفلسفي.

المبحث الثاني: سياق الكتاب.

كتاب *من وحي الدرس الفلسفي إشكالات وحدوس ديداكتيكة*  هو في الأصل تجميع للعديد من المقالات المتفرقة من حيث سياقات إنتاجها ونشرها، لكن تنضوي في سياق تربوي يهم بالأساس النقاش الموازي حول الدرس الفلسفي وهم تشخيص واقعه و طموح تطويره وتوسيع النقاش حوله من الناحية الديداكتيكية والبيداغوجية، من خلال الدعوة إلى تقاسم التجارب الفصلية بين الأساتذة لصياغة تجارب ديداكتيكية. بالإضافة إلى أننا يمكن إدراج الكتاب في سياق النقاش حول  أهمية الفلسفة  كمادة دراسية وحمل هاجس مناصرة الفلسفة ومشروعية تواجدها بمؤسستنا، لما لها من جدوى تربوية  واجتماعية وقيمية من خلال اعتناقها لقضايا التلميذ الحياتية وإستهداف قدراته التفكيرية، بالإضافة لما يحمله الكتاب من رؤية لنموذج ديداكتيكي للدرس الفلسفي ومقترحات لمداخل البناء النظري لقواعد ديداكتكية تنطلق أساسا من التجربة الفصلية والإبداع. وعموما فإن السياقات التي يخدمها الكتاب متعددة ومتنوعة بتعدد المقالات التي يحتويها وتعدد سياقات إنتاجها.

المبحث الثالث: أسباب اختيار الكتاب.

حينما يقتني القارئ كتابا لقراءته، فلابد أن لاختياره لكتاب من بين عدة كتب بواعث قد تكون نفسية ومعرفية تفترض أن الكتاب سيجيب على قلق فكري ينتاب القارئ، أو لاعتبارات برغماتية وخدماتية بحيث قد يقدم الكتاب محتويات تفيد غايات عملية ومهنية بالنسبة للقارئ، ويسهل مهمته في إنجاز مهمات تطبيقية في الحياة العملية. وفي الحقيقة فاختيارنا لكتاب {من وحي الدرس الفلسفي إشكالات وحدوس ديداكتيكيةَ} يستدمج كل الاعتبارات والبواعث التي تمت الإشارة إليها أعلاه؛ فمن الناحية النفسية لا ننكر أن غلاف الكتاب وعنوانه وأناقة  الطبعة وجاذبيتها كان له نوعا من التأثير الوجداني  في اختيارنا  لهذا الكتاب، أما من الناحية الموضوعية والمعرفية فكوننا في طور التكوين للتأهيل لمهنة تدريس الفلسفة كان من الضروري إختيار كتاب يقدم رؤية حول الدرس الفلسفي، ومداخل  للتسلح بموارد معرفية تهم الدرس الفلسفي بيداغوجيا وديداكتيكا في أفق استثمار هذه التراكمات النظرية في مجابهة التجربة الميدانية والعملية في تدريس الفلسفة، وبالتالي كانت القناعة الموجهة لنا في الاشتغال على هذا الكتاب هي التقرب أكثر نظريا من الدرس الفلسفي المغربي خصوصا، بحيث أن الكتاب من تأليف أستاذ ممارس لهذه المهنة وليس فقط منظرا ديداكتيكيا، وبالتالي الاستفادة من تجربته ومقاربته كعينة لاكتشاف كيف يتمثل المدرس المغربي الدرس الفلسفي، وكيف يفكر ديداكتيكيا في الإشكالات التي يطرحها الدرس الفلسفي وأهدافه وتصوره لسبل تطويره . 

المبحث الرابع: تأملات في غلاف الكتاب وعنوانه.



كما توضح الصورة فغلاف الكتاب اختير بعناية فائقة واحترافية ملحوظة،  ففي الجهة الأمامية في الأعلى نجد اسم المؤلف كتب بخط خافت، يليه القسم الأول من العنوان *من وحي الدرس الفلسفي* الذي كتب بخط بارز ولون أزرق مغلوق، وتحته مباشرة صورة عبارة عن لوحة تشكيلية  للفنانGIOgio de Chirico تتضمن شخصين على هيأة عمودية باسطين أيديهم طلبا لشيء ما، محاطين بمجموعة من الألوان والرموز تعبيرا عن خلفية ما توجههم، وإنتاج معين يسعون إليه، تحتها مباشرة عنوان فرعي * إشكالات وحدوس  ديداكتيكية* المكمل للعنوان الأول، بالإضافة إلى الجهة المكلفة بنشر الكتاب وهي *أفريقيا الشرق*، وبالتالي فالبحث في العنوان ومفاهيمه ودلالاتها سيفتح أمامنا إمكانات لتأويل صورة الغلاف والولوج إلى معانيها، واستثمارها بمعية الديباجة المثبتة في الغلاف الخلفي للكتاب الذي يتضمن أيضا تعريفا بالمؤلف وتخصصه الأكاديمي وهي معطيات تساهم في طرح افتراضات حول مضامين الكتاب وإشكالاته، ونقف بداية مع:

Ø    مكــون العنــوان:
·       من وحي
  يمكن أن يأخذ في هذا السياق لا بالمعنى الحقيقي لعبارة الوحي التي تفيد ذلك النص الديني الذي يختص به الله نبي ما، ويحمله إلى قوم كرسالة أخلاقية ودينية، لكن يمكن أخذها بمعناها المجازي المتعلق بالإبداع والإلهام، وأن الدرس الفلسفي في جانبه العملي وتشخيصه في الميدان وفي سياق اجتماعي وتربوي هو الذي عليه أن يكون مصدرا وملهما لأي مقاربة نظرية ديداكتيكية وبيداغوجية تستهدفه.
·       الدرس الفلسفي
 عموما الدرس عملية تربوية وتواصلية  يتوخى منها المدرس توصيل معارف ومهارات وقيم لمتعلمين اعتمادا على طرق بيداغوجية ووسائل ديداكتيكية في سياق تعليمي تعلمي،[1]  زماني ومكاني منظم ، أما الفلسفة فهي خطاب عقلي ومنطقي يحمل أفكارا ومنهجا في التفكير، ويدعو إلى قيم إنسانية وأخلاقية أساسا تنشد الحوار والتسامح [2]، والنقد وغيرها، وبالتالي فالدرس الفلسفي بهذا المعنى هو تلك العملية التربوية التي تستهدف تبليغ هذه الأفكار والمضامين الفلسفية ومناهج وقدرات إنتاج هذه المعرفة من أشكلة ومفهمة وحجاج، وقيم أخلاقية باعتماد مداخل بيداغوجية ودعامات ووسائل ديداكتيكية، والعنوان الفرعي يتضمن هذا المفهوم الأخير:
·       ديداكتيك
 والذي يحيل على ذلك المجال المعرفي والتطبيقي الذي يقارب الدرس على مستوى المضامين المعرفية وكيفية الاشتغال عليها ومقتضيات معالجتها ونقلها من معارف عالمة إلى معرفة تعلمية قابلة للاكتساب، بالشكل الذي يراعي الفئة المتعلمة المستهدفة من الناحية السيكولوجية والقدرات الذهنية والسياقات الاجتماعية والثقافية، وقد أرفق هذا المفهوم بمفهومي:
·       إشكالات وحدوس
 إشارة إلى أن هذا الجانب المتعلق بالاشتغال على المادة الفلسفية ديداكتيكيا في علاقتها بأهدافها وكفاياتها يطرح إشكالات وتحديات تتطلب نوعا من الحدس الذي يحيل على دلالات كالإبداع والموهبة[3] الشخصية، والتجارب الذاتية في بلورة الرؤى الديداكتيكية المناسبة لدرس فلسفي في سياق تربوي ومجتمعي مخصوص.
وانطلاقا من هذا الفهم لمكونات العنوان يمكننا أن نقرأ في ضوئه:

Ø    إيحاءات صورة الغلاف:
يمكن أن نحلل دلالات الصورة في ضوء مخرجات تحليلنا للعنوان الذي وضعنا في سياق تربوي ونقاش ديداكتيكي بيداغوجي حول الدرس الفلسفي،  مما يسعفنا في القول أن الصورة تحاول أن تقدم رؤية المؤلف وتصوره للدرس الفلسفي من الناحية الديداكتيكية والبيداغوجية بحيث أن الشخصين اللذين يظهران في الصورة هما الأستاذ في الخلف والتلميذ في الأمام، وهنا يظهر المتعلم في الواجهة كمركز في الدرس الفلسفي والأستاذ خلفه كموجه، وتظهر من ورائه  خلفيات وألوان دلالة على ضرورة أن تكون للأستاذ في الدرس الفلسفي خلفية بيداغوجية وتكوين معرفي وديداكتيكي لتنظيم الدرس وفق تخطيط يحدد الأهداف ويحشد الوسائل لتحقيقها وتدبير وضعيات إنجازها وتقويم مدى تحققها لتفادي درس فلسفي عشوائي إلى درس عقلاني، كما أن الشخصين في الصورة يمدان أيديهما في وضعية طلب شيء ما،  وأمامهما لون أزرق يشير إلى مخرجات هذا الطلب، وهذا يحيلنا على أن الدرس الفلسفي عليه أن يكون تفاعليا يتعاون فيه التلميذ والأستاذ في بناء جماعي ومشترك للمعرفة لا أن يكون الأستاذ في موقع المالك للمعرفة الفلسفية والتلميذ فقط طالبها، كما قد يدل تعدد الألوان والأشكال في اللوحة  على تعدد المقاربات الديداكتيكية والبيداغوجية للدرس الفلسفي، باختلاف السياقات وتنوع التجارب الفصلية للأساتذة، وبالتالي يمكن أن  نفترض أن الكتاب قد يقدم تجربة فصلية ويشير إلى هذا التعدد وتقاسم هذه التجارب وخلق نقاش بينها، لبلورة قواعد وتنظيرات ديداكتيكية تنطلق من الممارسة الفصلية.

يتبع...






[1] محمد أحميد، محاضرات في التشريع التربوي،المدرسة العليا للأساتذة بالرباط 2017
[2][2] الطيب بوعزة يوسف بن عدي ،في تدريس الفلسفة ، مؤمنون بلا حدود قسم الفلسفة والعلوم البحثية ،2015 ص3 
[3] محمد الشبة، من وحي الدرس الفلسفي،أفريقيا الشرق،2017ص6

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.