لحظة مناقشة النص
في الكتابة الإنشائية الفلسفية
في الكتابة الإنشائية الفلسفية
بقلم: محمد الشبة
من المعروف أن هناك خطوات منهجية أساسية وكبرى تمثل جوانب مشتركة بين الصيغ
الثلاث، النص والقولة والسؤال، وتتمثل في أن الكتابة الإنشائية المرتبطة بهذه
الصيغ تتم حتما من خلال إنجاز تمهيد لصياغة الإشكال المرتبط بالموضوع، ثم العمل
على تحليل مكونات الموضوع من أجل الكشف عن حمولته المعرفية ومنطقه الحجاجي،
والمرور أثناء ذلك أو بعده - بحسب كل صيغة على حدة- إلى مناقشة ما تم الكشف عنه انطلاقا
من إمكانيات التلميذ الذاتية، معارفه وواقعه المعيش، وأيضا من خلال توظيف أطروحات
فلسفية ومعارف متنوعة ملائمة للسياق الذي تتعلق به المناقشة. وبعد كل هذا، تأتي
الخطوة الأخيرة المتعلقة بلم شتات الموضوع من خلال كتابة خلاصة تركيبية مركزة تعبر
عن النتائج المتوصل إليها.
بيدأن هذا لا يمنع من وجود بعض الخصوصيات التي تتميز بها كل صيغة على حدة،
مما ينجم عنه ضرورة الحديث عن بعض الاختلافات في كيفية إنجاز بعض الخطوات السالفة
الذكر، أو فيما يخص العلاقات القائمة بينها. وحسبنا أن نركز هنا على ما تعلق منها
بلحظة المناقشة، وعلاقتها باللحظة السابقة عليها؛ ونقصد طبعا لحظة التحليل.
وإذا ما ركزنا النظر الآن في المناقشة الخاصة بصيغة النص وعلاقتها
بالتحليل، أمكننا القول بادئ ذي بدء بأن التلميذ هنا لا يقوم بعملية المناقشة إلا
بعدما ينتهي من تحليل النص. فاللحظتان هنا متتاليتان ولا وجود لتداخل بينهما، عكس
ما نجده في صيغة السؤال المفتوح مثلا؛ ولذلك فالتلميذ يكون مطالبا أولا بتحليل
النص، من خلال الاشتغال على بنيته المفاهيمية واستخراج أفكاره الجزئية، والكشف عن
المنطق الحجاجي الموظف من أجل تدعيم أطروحته الأساسية، ثم يكون مطالبا ثانيا بطرح
تساؤلات حول تلك الأطروحة من أجل تبيان قيمتها وحدودها، وجعلها تنفتح على تصورات
فلسفية أخرى إما متكاملة أو متعارضة معها. لكن إذا كان التلميذ، أثناء التعامل مع
صيغة النص، ينجز التحليل أولا ثم المناقشة ثانيا، فهل يعني ذلك أنهما منفصلتان
فعلا، وأن إنجاز المناقشة لا يكون بالعودة إلى تفاصيل لحظة تحليل النص نفسها؟!! ألسنا ملزمين كتلاميذ بمناقشة ما قمنا بتحليله
من معطيات مختلفة داخل النص، تتعلق بمفاهيمه وأفكاره وطبيعة الحجج الموظفة فيه؟
وهل فعلا أن ما يجب القيام به –وهذا ما تعتقده الغالبية العظمى من التلاميذ- هو
فقط مناقشة الأطروحة العامة للنص، دون مناقشة تفاصيله وجزئياته!؟ وهل تسعفنا المعلومات التي نعرفها عن
الفلاسفة، والمستمدة أساسا من الملخصات المتعلقة بالدروس، في مناقشة الجزئيات
المرتبطة بأي نص فلسفي؟ ألسنا مضطرين في ذلك إلى ممارسة سياسة "لي
العنق" لاستنطاق الفلاسفة وإرغامهم على الخوض في مناقشة الأفكار الواردة في
النص، والحجج الموظفة فيه؟ وإذا ما فشل التلميذ في القيام بعملية "لي
العنق" هاته، ألا يكون مضطرا لتجييش معارفه الخاصة وتجاربه الحياتية من أجل
مناقشة معطيات النص بشكل ذاتي؟
إن طرح هذه التساؤلات يجعلنا نقف عند المفاصل الأساسية التي تطرح مجموعة من
التحديات والصعوبات أمام تلامذتنا، فيما يخص إنجاز مناقشتهم للنص الفلسفي في
الكتابة الإنشائية الفلسفية. وهو أمر يستدعي منا القيام بنوع من المقاربة
الميكروسكوبية للكشف عن الأفعال العقلية والقدرات التفكيرية والإجراءات المختلفة
التي تتم داخل لحظة المناقشة، المتعلقة بصيغة النص. وأول ما يمكن التأكيد عليه في
هذا السياق، هو أن مناقشة النص لا تكون فقط بالجملة بل أيضا بالتقسيط؛ فلا يمكن
إنجاز لحظة المناقشة في الإنشاء الفلسفي، بالشكل المطلوب، إذا ما اقتصرنا فقط على
مناقشة الأطروحة العامة للنص، بل لا بد من مناقشة أيضا الجزئيات المرتبطة بها داخل
سياق النص؛ ويتعلق الأمر أساسا بالمفاهيم التي وظفت للتعبير عن تلك الأطروحة،
وبالأفكار الجزئية التي تنتظم داخلها، وبطبيعة الحجج التي استخدمت لإقناعنا
بصحتها. ومن شأن قيام التلميذ بمناقشة كل هذه التفاصيل المؤثثة لفضاء النص، أن
يغني مناقشته له ويمنحها الدسامة الفلسفية التي هي مؤشر على جودتها وتميزها.
فإذا كان صاحب النص قد وظف مفاهيم
فلسفية ونسج علاقات ممكنة بينها من أجل صياغة أفكاره وأطروحته الرئيسية، فبإمكان
التلميذ –في إطار استراتيجية المناقشة- أن
يختلف مع صاحب النص حول تعريفه لهذا المفهوم أو ذاك، أو حول طبيعة العلاقة التي
أقامها الفيلسوف بين مفهومين أو أكثر؛ وذلك باستحضار تعاريف أخرى لفلاسفة آخرين
لنفس تلك المفاهيم، أو بإقامة علاقات مغايرة بينها انطلاقا مما يمكن أن نجده لدى
الفلاسفة، أو ما يمكن أن نستمده من وقائع الحياة وتجاربها. وهذا ما يمكن أن ننعته
بالمناقشة المفاهيمية للنص.
وحينما نكون بصدد إنجاز هذه المناقشة المفاهيمية، فإننا نجد أنفسنا حتما
نناقش الأفكار الجزئية للنص، لأن الأفكار الفلسفية لا تعدو أن تكون ربطا بين
مجموعة من المفاهيم. ولعل مثل هذا الأمر هو الذي جعل فيلسوفا كجيل دولوز يعتبر أن
الفلسفة هي فن ابتكار المفاهيم. وهنا لا بد من التأكيد بأن المطلوب من التلميذ ليس
هو فقط مناقشة الأطروحة العامة للنص، بل ومناقشة أيضا أفكاره الجزئية. ولذلك يتعين
إجراء حوارات متعددة بين التلميذ وصاحب النص من جهة، وذلك من أجل تجسيد التفكير
الذاتي الذي هو أحد عناصر الجودة الأساسية في الكتابة الإنشائية الفلسفية، وبين
الفلاسفة وصاحب النص من جهة أخرى. وإذا كنا مطالبين بمناقشة جزئيات النص، المتعلقة
بمفاهيمه وأفكاره وحججه، فإن استحضار هذا الفيلسوف أو ذاك لا يكون إلا بمناسبة
وقوفنا على هذا المعطى الجزئي أو ذاك في النص؛ بمعنى أننا لا نستدعي فيلسوفا ما
أثناء المناقشة إلا بمناسبة مناقشتنا الذاتية لإحدى معطيات النص. ولذلك فنحن لا
نوظف من معطيات الملخص، أو من المعلومات التي نعرفها عن الفيلسوف، إلا ما يسعفنا
في مناقشة ما هو موجود حقيقة في النص. وهنا لا بد من ممارسة سياسة الانتقاء الذكي
للمعلومات والمعارف التي تصلح أكثر من غيرها لمناقشة النص. ولذلك، يرتكب التلاميذ
خطأ فادحا حينما يهرعون إلى التصورات أو الأطروحات الموجودة في الملخصات،
وينسخونها ثم يلصقونها بمواضيعهم الإنشائية دون عملية فرز وانتقاء، ودون النظر في
طبيعة ملاءمتها أو عدم ملاءمتها للمعطيات الحقيقية التي نجدها في النص. وهذا ما
ينجم عنه طبعا إنشاء يغلب عليه طابع الحفظ والاستظهار ومراكمة المعلومات دون
ممارسة تفكير فلسفي جدير بهذا الاسم؛ تفكير يقوم على المساءلة والنقد والتفكيك
وتقليب معطيات النص على كافة أوجهها المحتملة.
وهكذا فالمناقشة المتعلقة بالنص لا تعني - كما يفهم الكثير من التلاميذ عن
غير صواب- استحضار مواقف الفلاسفة من الدرس، وكتابة تلك المواقف بشكل حرفي وآلي في
الموضوع الإنشائي. والسبب في ذلك يعود إلى جملة من الأسباب، من أهمها أنه ليس
بالضرورة أن يكون الإشكال المطروح في النص هو نفسه الموجود في الدرس!! ولذلك، يتعين على الفلاسفة الذين نستحضرهم أن
يجيبونا عن إشكال من طبيعة خاصة، وليس عن الإشكال الذي طرحناه عليهم في محور الدرس.
وهنا يكون التلميذ مجبرا على تقديم اجتهاده الخاص في قراءة تصورات الفلاسفة كما هي
موجودة في الملخص، من أجل استنطاقها و"لي عنقها" في أفق البحث عن أفكار
محتملة موجودة فيها، وتسعفنا في القيام بمناقشة حقيقية لما هو موجود بشكل فعلي في
النص. فالنصوص الفلسفية التي تطرح كمواضيع اختبارية تفاجئنا دوما، كما أكدت
التجربة على ذلك، بمعطيات جديدة تتعلق سواء بطبيعة الإشكال الكامن فيها، أو بطبيعة
أفكارها وآلياتها الحجاجية. ولذلك، فالتلميذ مطالب بالتعامل معها ابتداء ودون
القيام بإسقاطات قبلية، لأن من شأن هذه الإسقاطات المستمدة مما هو جاهز وموجود في
الملخصات أن تضعف خصوصية النص وتقوم بتمييع المناقشة وتسطيحها، وإخراجها عن المسار
الحقيقي الذي كان ينبغي أن تسلكه.
وإذا كنا قد تحدثنا عن "مناقشة مفاهيمية" للنص، فيمكننا الحديث
أيضا عن "مناقشة حجاجية" له؛ ونعني بها مناقشة التلميذ، شخصيا أو بتوظيف
مواقف فلسفية، لطبيعة الحجج الواردة في النص، وذلك بتبيان مدى قوتها وتماسكها أو
ضعفها وهشاشتها، في ارتباطها طبعا بالأفكار التي جاءت لتعزيزها أو دحضها داخل سياق
النص. فمساءلة الحجج الواردة في النص ونقدها، هو إجراء مهم لإغناء عملية المناقشة
وفتحها على آفاق رحبة ومتعددة. وهذا يعني أن المناقشة لا تنصب فقط على أطروحة
النص، بل على مفاهيمه وحججه وأفكاره الجزئية. ويمكن هنا أن نستدعي فيلسوفا ما
لمناقشة فقط فكرة واحدة موجودة في النص، كما يمكن استدعاء آخر لتقديم حجة مضادة
لحجة واردة في النص، واستدعاء ثالث من أجل تقديم تصور لعلاقة بين مفهومين مغايرة
لتلك التي نسجها النص بينهما، وهكذا دواليك. وإذا لم تسعف مواقف الفلاسفة التلميذ
في مناقشة إحدى المعطيات الواردة في النص، فإنه يتعين عليه أن يجند إمكانياته
الذاتية وتجاربه الخاصة، من أجل وضعها موضع نقاش ومساءلة. وهو مطالب أثناء ذلك
بالدخول في عملية محاججة مع صاحب النص، وذلك بتقديم حجج بديلة لتلك الواردة في
النص في حالة عدم اقتناعه بها، أو تعزيزها بحجج إضافية في حالة الموافقة عليها
وحصول اقتناع بها. ولعل هذا هو عين ما ينعت عادة "بالمناقشة الداخلية"
للنص. ونحن نفضل تسميتها "بالمناقشة الذاتية" بدل "الداخلية"؛
فهي ذاتية لأنها نابعة من ذات التلميذ وقدراته الخاصة، وهي وإن كانت تتعلق
"بداخل النص" فإن التلميذ يوظف فيها معارف من "خارج" النص.
كما أن ما يسمى عادة "بالمناقشة الخارجية" هي أيضا "مناقشة
داخلية"، لأنها ستكون بدون قيمة إذا لم تنصب على ما يوجد فعليا
"بداخل" النص من معطيات متعددة أوضحناها أعلاه.
وباختصار، لا توجد مناقشة "داخلية" وأخرى "خارجية"،
كما لا يمكن الفصل بينهما بشكل قاطع ونهائي، بل ما يمكن الحديث عنه هو مناقشة يقوم
بها التلميذ للنص، فيوظف فيها قدراته الذاتية وتجاربه الخاصة من جهة، كما يوظف
فيها معارف فلسفية أو مستمدة من مجالات وحقول فكرية وإبداعية متنوعة من جهة أخرى.
وما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن التلميذ هو من يقوم بأفعال المناقشة هنا وليس
الفلاسفة!! فاستدعاء هؤلاء
يتم داخل استراتيجية تفكيرية وحجاجية يقوم بها التلميذ نفسه، ويوظف في إنجازها
تصورات أعلام مختلفة من مجال الفلسفة أو العلم أو الدين أو الفن أو غير ذلك. ونحن
نرى أن من شأن التشديد على مثل هذا الإجراء أن يورط التلميذ في مغامرة التفكير،
بالمعنى الإيجابي لمصطلح التوريط، وأن يجعله معنيا بمناقشة ما هو وارد في النص في
المقام الأول، قبل أن يكون الفلاسفة معنيين به أيضا. وهذا الانخراط الإيجابي في
التفكير والمناقشة هو الذي يجعل التلميذ يجسد تفكيره الذاتي، ويترك بصمته الخاصة
في الموضوع الإنشائي ويجعله ينطبع بطابع ذاتيته الخاصة. وإذا كان الموضوع الإنشائي
إنشاءا وبناءا، وجب بالضرورة أن يعكس هذا البناء المهارة الخاصة التي يمتلكها من
يقوم بعملية البناء؛ إذ كيف نتصور أشكالا من البناء على نمط واحد بالرغم من اختلاف
البنائين؟!
من هنا، فالتلميذ مطالب أثناء
المناقشة بالدخول في حوار ذاتي مع صاحب النص من جهة أولى، كما أن عليه، من جهة
ثانية، أن يدخل الفلاسفة الذين وظفهم في المناقشة في حوار مع ما هو موجود في النص
من معطيات مختلفة، ثم إن عليه، من جهة ثالثة، أن يخلق حوارا بين الفلاسفة أنفسهم، وأن يدخل معهم هو
الآخر في حوار من نوع رابع. وهكذا من شأن هذا الحوار ذي الاتجاهات الأربع أن يمنح
للحظة المناقشة تميزها وخصوصيتها، كلحظة جدال وشغب عقلي وزبعة ذهنية. فكيف يمكن
تصور حدوث مثل هذه الحوارات ذات الأوجه المتعددة؟؟
حينما ينتهي التلميذ من تحليل معطيات النص واستخلاص أطروحته، يكون عليه أن
يأخذ مسافة نقدية كافية من النص، وذلك من خلال تأمل معطياته وطرح تساؤلات نقدية
حولها. وهذه التساؤلات هي التي من شأنها أن تجعل التلميذ يعود من جديد إلى النص من
أجل مناقشته. وهو لا يعود هنا فقط إلى أطروحة النص، لأن الاقتصار على مثل هذه
العودة يضعف مستوى النقاش ويحصره في آفاق ضيقة، بل هو يعود أيضا إلى الأفكار
الجزئية وإلى الحجج التي استخدمها صاحب النص من أجل تدعيم أطروحته. وهذه العودة
المزدوجة إلى النص هي التي ستجسد بحق المناقشة الذاتية للتلميذ، والتي سيجسد من
خلالها قدراته العقلية ومهاراته التفكيرية في مساءلة مضمون النص ومنطقه الحجاجي.
ولا بد من التذكير هنا بالخطأ الذي يرتكبه التلاميذ أثناء شروعهم في عملية
المناقشة؛ وهو أنهم يستحضرون مواقف الفلاسفة مباشرة دون أن يكون ذلك بمناسبة
تفكيرهم الذاتي في النص!! كما أنهم يقدمون تلك المواقف والتصورات كما هي في الملخصات دون أن يكون
ذلك بالرجوع إلى تفاصيل النص ومعطياته الفعلية. فالخطأ يتمثل هنا في أن التلميذ
يترك النص وراء ظهره؛ وكأنه حينما قام بتحليله انتهى منه وحسم معه، وما بقي هو
استعراض تصورات فلسفية مؤيدة أو معارضة لأطروحته الأساسية!! لكن مفاهيم النص وحججه وأفكاره، ألا تحتاج هي
الأخرى إلى مساءلة ونقد من طرف هؤلاء الفلاسفة؟ ألا يمكن لهذا الفيلسوف أو ذاك أن
يدحض حجة في النص، أو بالعكس يدعمها؟ ألا يوجد فيلسوف يعرف مفهوما في النص أو يقيم
علاقة بين مفهومين أو أكثر من مفاهيم النص بطريقة مختلفة ومغايرة؟؟
إذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا
يعني أن على الفلاسفة أن يقيموا في النص وينفذوا إلى مفاصله الحقيقية، ويركبوا
تضاريسه الصلدة من أجل خوض مغامرة المناقشة على نحو حقيقي وفعال. أما استحضار
تصوراتهم كما هي في الملخص، بحجة أنها تناقش أطروحة النص فهذا ليس من المناقشة
الحقيقية في شيء، بل هو محض استعراض لمعلومات واستظهار لمعارف لا يتناسب مع الحوار
النقدي والهاجس الإشكالي اللذين يمنحان للتفكير الفلسفي خصوصيته وتميزه.
من هنا، فحينما يعود التلميذ إلى مناقشة تفاصيل النص وأطروحته، سيكون عليه
أن يوظف أثناء ذلك أمثلة من الواقع من جهة، وأطروحات فلسفية أو غير فلسفية من جهة
أخرى. كما أن توظيف هذا المعطى أو ذاك أثناء المناقشة، ينبغي أن يتم من خلال
استحضار دائم لمكونات النص، وتفكير في هذه المكونات وفق منطق متدرج ومتماسك
بإمكانه أن يغني فهمنا للنص، ويفتح آفاق التأمل فيه على مساحات أرحب. وحينما يتم
توظيف فيلسوف ما أثناء مناقشة إحدى جوانب النص، فإن ذلك يتم من خلال خلق حوار فعلي
بينهما، ويتم ذلك بوساطة التلميذ الذي يكون عليه أن يقيم مثل هذا الحوار المفترض،
وهو ما يتطلب منه فهما جيدا لأفكار الفيلسوف وقدرة على توظيف ما هو مناسب منها
لمساءلة مكونات النص، سواء من خلال تأييدها أو معارضتها. ولسنا في حاجة إلى التأكيد
على أن أي فهم خاطئ ومشوه، سواء لأفكار الفيلسوف المستخدم في المناقشة أو لأفكار
النص، ستترتب عنه مناقشة هي الأخرى خاطئة أو سيئة. ولذلك، وكما أسلفنا سابقا،
يتعين على التلميذ أن يحسن عملية الانتقاء التي تنصب على معطيات الملخص، حتى يتم
توظيفها بشكل مناسب ومثمر.
وإذا كان التلميذ مطالبا بإقامة أشكال من الحوار بين الفلاسفة وصاحب النص،
فإن عليه أن لا يقف موقف المتفرج بل يتعين عليه الانخراط في صلب النقاش، ما دام أن
الأمر يعنيه كما يعنيهم. ولذلك، يكون من المجدي كثيرا أن يقوم التلميذ بالتعليق
على تصورات الفلاسفة التي يوظفها في مناقشة النص، فيجسد تفكيره الذاتي فيها من
خلال تأييدها أو معارضتها، وهو مضطر أثناء ذلك إلى استثمار حجج وأمثلة مستمدة من
الواقع أو من حقول معرفية أخرى. كما أن الانتقال من فيلسوف إلى آخر، أثناء
المناقشة، يستدعي هو الآخر خلق حوار بينهما، وذلك باستخدام روابط منطقية من شأنها
أن تقارع بين أفكار الفلاسفة وتخلق توترات وتقابلات بينها. ولعل طرح تساؤلات نقدية
على أطروحة الفيلسوف السابق، هو من بين الآليات المهمة للمرور إلى أطروحة الفيلسوف
اللاحق، وخلق مقارنة جادة بينهما. كما أن طرح مثل تلك التساؤلات هو مؤشر مهم على
حضور الهاجس الإشكالي في كتابة التلميذ، والذي يعتبر من بين المعايير الأساسية
التي تقاس بها جودة الإنشاء الفلسفي وتميزه.
إن التلميذ إذن يظل حاضرا دوما أثناء لحظة المناقشة؛ حاضرا برجوعه المستمر
إلى النص، وحاضرا بتوظيفه لأمثلة من الواقع والحياة، وحاضرا بتعليقاته الدائمة على
كل الأطروحات الفلسفية والمعارف المتنوعة التي تم استدعاؤها لمناقشة النص.
فالتلميذ هنا منخرط كليا في مغامرة المناقشة، ولا يقبل منه أي انسحاب أو استقالة؛
بأن يقف مثلا موقف المتفرج على الفلاسفة وهو يتعاركون في الحلبة لوحدهم!! بل يتعين عليه الارتماء في نفس حلبة النقاش،
وخوض تجربة العراك الفكري بكل آلامه ومسراته المحتملة. وإذا ساهم التلميذ بشكل
إيجابي في المناقشة، مناقشة النص والفلاسفة، فسيكون قد جسد بحق التفكير الذاتي
الضروري في أية كتابة إنشائية جديرة بهذا الاسم. وستكون الخلاصة التي سيدبجها في
آخر الموضوع الإنشائي تجسيدا حقيقيا لهذا التفكير الذاتي، ومرآة تعكس بصدق
الحوارات الفعلية التي تمت في المناقشة. أولم يقل سقراط إن الحقيقة بنت الحوار؟!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.