لحظة تحليل النص
في الكتابة الإنشائية الفلسفية
بقلم: محمد الشبة
تعتبر
لحظة تحليل النص لحظة أساسية في الكتابة الإنشائية الفلسفية، وهي تأتي بعد لحظة المقدمة وقبل
لحظة المناقشة. ويمكن القول بأن القدرات العقلية والمهارات التفكيرية للتلميذ
تتجسد في لحظة التحليل أكثر مما تتجسد في باقي لحظات الإنشاء الفلسفي، لأن التلميذ
يجد نفسه أثناء هذه اللحظة أمام نص يراه لأول وهلة، ويكون مطالبا بفهمه وتحليله
واستخراج العناصر المكونة له. وهذه العملية التحليلية لا تتطلب أية معلومات محفوظة
أو منقولة أو جاهزة، بل تتطلب مجموعة من المهارات والتقنيات التي يفترض أن التلميذ
قد اكتسبها خلال الأنشطة التعلمية في الدرس، أو من خلال مجهوداته الشخصية وقراءاته
الخاصة.
فما
المطلوب من التلميذ أثناء لحظة تحليل النص؟ وحول ماذا سينصب التحليل؟ وكيف ينبغي
أن تتم العملية التحليلية؟
تبدأ
عملية تحليل النص في المسودة قبل أن تترجم في ورقة التحرير.
1- في
المسودة :
كيف يتم تحليل النص في
المسودة؟ يقوم التلميذ أولا بقراءة النص لعدة مرات، ثم يقسمه إلى فقرات معينة
اعتمادا على مؤشرات تتعلق بالمضامين الأساسية في النص. وبعد ذلك تبدأ عملية
الاشتغال على كل فقرة من خلال الوقوف عند المفاهيم الأساسية المكونة لجملها؛ فيعمل
التلميذ على شرح المفاهيم حسب سياقها في النص وتحديد العلاقات التي نسجها صاحب النص
بينها. وهذا ما سيجعله يستخرج الأفكار المتضمنة في النص. وبطبيعة الحال، فالفلاسفة
يستخدمون مجموعة من الحجج أو الأساليب الحجاجية لتوضيح أفكارهم وإقناعنا بها،
ولذلك يتعين على التلميذ أن ينتبه إلى ما يوجد في فقرات النص من أساليب حجاجية،
ويقوم بتحديدها وتبيان وظائفها في النص. وإذا اشتغل التلميذ على كل فقرات النص،
على المستوى المفاهيمي والمستوى الحجاجي واستخراج المضامين المعرفية، فإنه يكون
بإمكانه بعد ذلك أن يحدد أطروحة النص ويصوغ إشكاله من خلال أسئلة دقيقة ومترابطة
ونابعة من النص نفسه.
وإذا
كان التلميذ في المسودة يشتغل على المفاهيم والحجج والأفكار ويصوغ الأطروحة
والإشكال، فإنه يكتب تلك المعطيات على شكل نقط متفرقة ومجزأة في ورقة المسودة،
ليكون عليه أن يكتبها منظمة ومتسلسلة ومتماسكة في ورقة التحرير.
2-
في
ورقة التحرير:
لا
ينبغي على التلميذ في ورقة التحرير أن يحلل النص بشكل تجزيئي، فيخصص فقرة أولى
للحديث عن المفاهيم، وفقرة ثانية للحديث عن الأساليب الحجاجية، وفقرة ثالثة لتقديم
الأفكار، لأن هذا يجعله يُفقد النصَ تماسكه ووحدته العضوية، ويجعله يدبج كتابة
مفككة تعتريها الفراغات والقفزات، ولا تتناسب مع الكتابة الإبداعية الفلسفية
المتناغمة والمتماسكة. فإذا كان الفيلسوف في نصه قد عبر عن أفكاره من خلال مفاهيم،
ودافع عنها من خلال حجج، فإنه فعل ذلك بشكل متداخل ومتناغم، وليس بشكل معزول
ومفكك. ولهذا، على التلميذ أيضا أن يتفلسف أثناء تحليله للنص، وأن يتحدث دفعة
واحدة عن المفاهيم والحجج والأفكار، وذلك حسب تسلسلها المنطقي داخل النص.
فيمكنه مثلا أن يشرح مفهوما في النص ثم
يربطه بمفهوم آخر، وانطلاقا من ذلك يستخرج فكرة، ثم يقدم الحجة المدعمة لها في
النص. وبعد ذلك، ينتقل إلى مفهوم آخر ويحلله، ثم يحدد علاقته بمفهوم أو أكثر في
النص، ويعثر من خلال ذلك على معاني ودلالات في النص، ثم يبين طبيعة الاستدلالات
التي تسندها وتدافع عنها في النص، وهكذا دواليك.
وبهذه
الكيفية، يكون بإمكان التلميذ أن يكتب نصا تحليليا يضاهي نص الفيلسوف من حيث
القدرة على التفلسف والإبداع، خصوصا وأن التلميذ يكون مطالبا أثناء هذا التحليل
بقول ما لم يقله الفيلسوف، واستخراج ما لم يصرح به النص مباشرة؛ وذلك بالكشف عن
منطلقات النص ومسلماته الضمنية، واستخراج ما يوجد بين السطور، وتوضيح ما اكتفى
الفيلسوف بالتلميح إليه. ويمكن للتلميذ استخدام أمثلة مستمدة من الواقع أو من
مجالات معرفية مختلفة، من أجل شرح بعض الأفكار الواردة في النص أو توضيحها على نحو
أفضل. وبين أن كل هذه الأفعال التحليلية تحتاج إلى قدرات ومهارات عقلية وتفكيرية،
لا يمكن بدونها أن يبرهن التلميذ على تفوقه وتميزه في الكتابة الإنشائية الفلسفية.
وفي
ما يخص مفاهيم النص، فإننا قد نجدها عبارة عن كلمات أو عن جمل تتكون من كلمتين أو
أكثر. ولذلك، فعمل التلميذ ينصب على الكشف عن دلالاتها السياقية التي قد تختلف من
نص لآخر، كما قد ينصب أيضا على الكشف عن أبعادها وجوانبها المختلفة، فضلا عن
استدعاء ما يقابلها أو ما يعارضها. فإذا كنا أمام مفهوم الحرية مثلا، يمكننا أن نحدد معناه حسب النص، كما يمكن
أن نحدد مختلف جوانب الحرية وأبعادها الميتافيزيقية والسياسية والاجتماعية
والدينية وغيرها، وأيضا استدعاء ما يقابلها من مفاهيم كالحتمية والضرورة والإكراه،
وغير ذلك. فاعتماد مثل هذه الاستراتيجية في التحليل، تساعد التلميذ ولا شك على
إبداع كتابة إنشائية غنية ومعمقة أثناء لحظة تحليل النص.
أما
في ما يخص حجج النص؛ فإن هذه الحجج قد تكون بلاغية كالاستعارة أو التشبيه مثلا،
وقد تكون حججا مستمدة من الواقع عبر استخدام الأمثلة أو المقارنة أو استدعاء وقائع
تاريخية، كما قد تكون حججا منطقية واستدلالية كالاستنباط والبرهان بالخلف وما إلى
ذلك، كما قد يعمد صاحب النص أحيانا إلى الاستشهاد بأقوال لعظماء أو فلاسفة من أجل
تعزيز فكرته، ضمن ما يسمى بالحجاج بالسلطة. ولهذا، يتعين على التلميذ أن يضع نصب
عينيه كل هذه الأشكال المختلفة من الحجاج الفلسفي، ويعمل على تبيانها وتوضيحها
أثناء تحليله للنص. كما أن عليه أن لا يكتفي باستخراجها وذكرها، بل عليه أن يبين
وظيفتها في النص؛ فإذا استخدم صاحب النص مثالا أو مقارنة، فإن على التلميذ أن يذكر
المثال أو المقارنة، ثم يبين لماذا استخدم الفيلسوف ذلك المثال، أو لماذا قارن بين
كذا وكذا؟ لأن مثل هذا الإجراء التحليلي يمكن من الكشف عن المنطق الحجاجي الذي
يحكم النص الفلسفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.