تقديم:
ينظر إلى الدولة على أنها تنظيم سياسي يكفل
حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة،
وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث
عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا
مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.
كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة
المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى
مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش
السلمي.
وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن
الغاية من وجودها من جهة أخرى ؟
كما
تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية ؟ وعن مدى مشروعية
الدولة في استخدام العنف ؟
المحور الأول: مشروعية
الدولة وغاياتها
من أجل طرح الإشكال:
فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز
بين ما هو مشروع légitime)) يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن
يكون، وبين ما هو شرعي (légal) أي ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو
يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.
وحينما نتحدث عن مشروعية الدولة، فإننا نشير
إلى مجموع التبريرات والدعائم التي ترتكز عليها الدولة من أجل ممارسة سلطتها على
مواطنيها.
أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي
ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير
الاختيارية".
هكذا فكل دولة تستند إلى مشروعية ما،
وانطلاقا من هذه المشروعية يتم اختيار غايات من وجودها؛ إذ يصعب الفصل هنا بين
المشروعية والغايات فيما يخص مسألة الدولة.
فما الغاية من وجود الدولة إذن ؟ ومن يختار
لها هذه الغاية ؟ ووفق أية أسس ومنطلقات ؟ ومن أين تستمد مشروعيتها ؟
1- موقف
اسبينوزا: الحرية هي الغاية الأساسية من قيام الدولة.
لقد
قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة
عندهم تستمد من الالتزام بمبادئ التعاقد المبرم بين الأفراد ككائنات عاقلة وحرة.
هذا التعاقد الحر بين الأفراد سيؤسس الدولة على قوانين العقل، التي من شأنها أن
تتجاوز مساوئ حالة الطبيعة القائمة على قوانين الشهوة، والتي أدت إلى الصراع
والفوضى والكراهية والخداع. ولذلك فغاية الدولة هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة
حسب اسبينوزا في تحرير الأفراد من الخوف وضمان حقوقهم الطبيعية المشروعة،
والمتمثلة أساسا في الحق في الحياة و
الأمن والحرية. هكذا يرى اسبينوزا أن الغاية من تأسيس الدولة هي تحرير الأفراد من
الخوف، وإتاحة الفرصة لعقولهم لكي تفكر بحرية وتؤدي وظائفها بالشكل المطلوب دون
استخدام لدوافع الشهوة من حقد وغضب وخداع. ويختصر اسبينوزا الغاية من وجود الدولة
بقوله: « الحرية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة ».
2- موقف هيجل: الدولة غاية ذاتها،
وهي تجسيد للعقل الموضوعي.
لقد انتقد هيجل التصور التعاقدي الذي
يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة
لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها
من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل الأخلاقي الموضوعي.
فالدولة هي التحقق الفعلي للروح الأخلاقي باعتباره إرادة جوهرية وكونية. ومن واجب
الأفراد أن يكونوا أعضاء في الدولة وأن يتعلقوا بها لأن في ذلك سموهم وعلو
مرتبتهم؛ فلا يتمتع الفرد بوجود حقيقي وأخلاقي إلا بانتسابه إلى الدولة.
هكذا يعطي هيجل الأولوية في تحليله إلى الكل على الأجزاء، وإلى الدولة على الأفراد، ويجعل مصيرهم في أن يحيوا حياة عامة وكونية. فمشروعية الدولة إذن لا تستمد عند هيجل من التحالفات القائمة بين الأفراد، بل تستمد من مبادئ عقلية وموضوعية تتأسس عليها الدولة بشكل حتمي يتجاوز الإرادات الفردية ذاتها.
وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك
أنواعا متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية
الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية
أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية
الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط. ويشير ماكس فيبر إلى أنه
نادرا ما نجد هذه النماذج من المشروعية مجسدة بشكل خالص على أرض الواقع، بل غالبا
ما نجد تداخلات فيما بينها على مستوى ممارسة الدولة لسلطتها على الأفراد.
فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية ؟
المحور الثاني:
طبيعة السلطة السياسية
الطرح الإشكالي:
حينما يتم التساؤل عن طبيعة السلطة
السياسية، فإن الأمر يتطلب بالضرورة الحديث عن علاقة الدولة بالمواطنين، أو علاقة الحاكم
بالمحكومين. فإذن ما هي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين رجل السياسة من جهة،
ومن يمارس عليهم سلطته السياسية من جهة أخرى ؟ وبتعبير آخر؛ ما هي الخصائص التي
يجب أن تميز الممارسة السياسية للأمير أو السلطان مع شعبه أو رعيته ؟
هنا
يمكن تقديم موقفين متعارضين؛ موقف ماكيافيلي وموقف ابن خلدون.
1- موقف ماكيافيلي: السياسة صراع
وقوة وخداع.
بين ماكيافيلي أن هناك أمراء في عصره
أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود
مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على
خصومهم.
هكذا دعا ماكيافيلي إلى ضرورة استخدام
الأمير لطريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية؛ الأولى تعتمد القوانين، بحيث
يستعملها بحكمة ومكر ودهاء، وبشكل يمكن من تحقيق مصلحة الدولة، أما الثانية فتعتمد
على القوة والبطش، ولكن في الوقت المناسب. من هنا يجب على الأمير أن يكون أسدا
قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
إن الغاية عند ماكيافيلي تبرر الوسيلة. وما
دام أن الناس ليسوا أخيارا في الواقع، فلا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادئ الأخلاقية
في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد
من الناس من ينخدع بسهولة.
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني
على القوة والمكر والخداع. وهذا ما سيرفضه مجموعة من المفكرين، ومن بينهم ابن
خلدون.
2- موقف ابن خلدون: السياسة رفق
واعتدال.
إن
علاقة السلطان بالرعية حسب ابن خلدون هي علاقة ملك بمملوكين. ولذلك يجب أن يتأسس
هذا الملك على الجودة والصلاح. من هنا يجب أن يحقق السلطان لرعيته كل ما هو صالح
لهم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يلحق بهم السوء والضرر.
ولذلك وجب أن تكون العلاقة بين السلطان
والرعية مبنية على الرفق والاعتدال في التعامل. فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي
إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم،
فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب
والمحن.
انطلاقا من هذا حدد ابن خلدون خصلتين
رئيسيتين يجب أن يتصف بهما رجل السياسة، وهما الرفق والاعتدال. ولذلك عليه مثلا أن
يتصف بالكرم والشجاعة كصفتين يتوفر فيهما الاعتدال المطلوب بين التبذير والبخل من
جهة، وبين التهور والجبن من جهة أخرى.
← هكذا إذا كان ماكيافيلي يحدد طبيعة السلطة
السياسية في القوة والمكر والصراع، واستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة
لتحقيق مصلحة الدولة، فإن ابن خلدون يحدد طبيعتها في التشبث بمكارم الأخلاق
المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال.
وهذا ما سيقود إلى إثارة إشكالية الدولة بين
الحق والعنف.
المحورالثالث: الدولة
بين الحق والعنف.
من أجل طرح الإشكال:
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف،
فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع،
وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا انبنت هذه العلاقة على احترام المبادئ
الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في
هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة
مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف
وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
فما
المقصود بمفهومي الحق والعنف؟
يحدد المعجم الفلسفي لأندري لالاند الحق
باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، وما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو
واقعي وفعلي". كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى "مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن
تنسجم مع حرية الآخرين".
أما العنف فيمكن القول بأنه "اللجوء
إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة القوة ضد القانون أو
الحق". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة،د.عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي،
الطبعة الثالثة،2000)
هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الأول
يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين أن الثاني يمارس ضد
إرادتهم ويعمل على اغتصاب حرياتهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن البحث عن
مشروعية لممارسة الدولة للعنف ضد الأفراد أوالجماعات ؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي
تمارس سلطتها ؟ ألا يتعارض العنف في هذه الحالة مع الحق والقانون ؟
كما
يبدو أن العنف هو ممارسة القوة ضد الآخر. لكن ما يلاحظ هو أن هذه الممارسة
قد تتم باسم الحق والقانون. من هنا يتم التساؤل: هل من مبررات معقولة تجعل ممارسة
عنف ما مشروعة ؟ وهل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق والقانون والعدالة
؟
لمعالجة هذا الإشكال يمكن تقديم المواقف
التالية:
1- موقف ماكس
فيبر: إعطاء
مشروعية قانونية لممارسة العنف.
يتحدث ماكس فيبر عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة،
وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف، مستشهدا بتروتسكي الذي يرى "أن كل
دولة هي جهاز مؤسس على العنف". فالدولة هي التجمع السياسي الذي يحتكر العنف
المادي الذي تعطى له الشرعية القانونية، المتمثلة أساسا في المحافظة على النظام
الداخلي من جهة، والدفاع عن المجتمع ضد الأخطار الخارجية من جهة أخرى. هكذا يرى
فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، وأن هذا الأخير هو الوسيلة المميزة لها، وأن
بينها وبينه علاقة وطيدة وحميمية؛ ذلك أن ما سيبقى في حالة اختفاء العنف من ممارسة
الدولة هو الفوضى وضياع مصالح الناس.
وإذا كان العنف هو الوسيلة العادية التي
استخدمت من طرف السلطة لدى الجماعات السياسية المختلفة، فإن الدولة المعاصرة هي
الوحيدة التي تحتكر العنف المادي المشروع، بحيث لا تسمح لأي فرد أو جماعة ما
بممارسته إلا بتفويض منها. وإذا كان للدولة الحق في استعمال العنف، فلأنها في
جوهرها، شأن أي تجمع سياسي سابق، ترتكز على علاقة السيطرة والسيادة التي يمارسها
الإنسان على الإنسان.
لكن ألا تتعارض ممارسة العنف مع المواصفات التي يجب أن تتوفر في دولة الحق
؟
ألا
يمكن أن يكون العنف الممارس من قبل الدولة عنفا شرعيا بالنظر إلى القوانين
الموضوعة فقط، والتي قد لا تكون في أساسها مشروعة ومطابقة لما هو حق وعادل ؟
وبمعنى آخر؛ ألا يمكن أن يكون تبرير العنف نابع من رغبة القوي في الهيمنة على
الضعيف وتحقيق مصالحه على حسابه ؟ ثم ألا يمكن قيام حياة خالية من العنف ورافضة له
؟ ألا يمكن رفض العنف مبدئيا وبصفة مطلقة ؟!
2- موقف جاكلين
روس: تتمسك
دولة الحق بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف والتخويف.
اعتبرت جاكلين روس أن دولة الحق هي ممارسة
معقلنة لسلطة الدولة، يخضع فيها الحق والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان
كرامته الإنسانية. هكذا فالفرد في دولة الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة
القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها.
وما يمكن ملاحظته هو أن الغاية هنا هي الفرد وليست الدولة؛ فهذه
الأخيرة هي مجرد وسيلة لخدمة الفرد، إذ تعتبره الغاية الأساسية من كل تشريع. ولن
يتم ذلك إلا من خلال مبدأ فصل السلط الذي يمكن من إحقاق الحق وإخضاعه للممارسة
المعقلنة القائمة على الاحترام وتطبيق القانون، ونبذ كل أشكال الإرهاب والعنف.
3- موقف غاندي: العنف رذيلة وتعبير عن الحقد، وبالتالي
فلا مشروعية له.
يتبنى غاندي موقف اللاعنف باعتباره يمثل ذلك
الحب أو الإرادة الطيبة تجاه كل الناس. ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لأن وراءه
نية من أجل إلحاق الأذى والألم بالآخر، كما أنه تعبير عن نشيد الحقد الذي تعبت
الإنسانية من عواقبه الوخيمة. هكذا يدعو غاندي إلى تعميم الصداقة بين كل الناس،
ومكافحة العنف والشر بسلاح الذهن والفكر الأخلاقي، وهو ما يقتضي مواجهة العنف
بمقاومة روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس للعنف بأن لا أواجهه بسلاحه من
جهة، وتمكن من الرفع من مستواه الإنساني والأخلاقي بأن يصبح هو الآخر رافضا للعنف
من جهة أخرى.
انطلاقا من كل هذا فاللاعنف عند غاندي يستمد
قوته من الروح؛ إذ يعتبر عقيدة روحية وأخلاقية قبل أن يصبح ممارسة جسدية وسلوكية.
وهذا أمر يقتضي رفض العنف رفضا نهائيا ومبدئيا واعتباره رذيلة في ذاته، وأنه
القانون الذي يحكم عالم الحيوانات، بينما اللاعنف هو القانون الذي يحكم العالم
الإنساني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.