لحظة المناقشة في الكتابة
الإنشائية
صيغة القولة المرفقة بسؤال
بقلم: محمد الشبة
تعتبر
لحظة المناقشة لحظة أساسية في الكتابة الإنشائية الفلسفية، لأن الأفعال العقلية
المرتبطة بها تشكل سمات أساسية وجوهرية تميز طبيعة التفكير الفلسفي، كتفكير يقوم
على النقد والفحص والاختلاف والحجاج، والاستقلالية في التفكير والتجرؤ على استعمال
العقل من أجل الخروج من الوصاية . وبالرغم من أن هذه الخصائص تنطبق على لحظة
المناقشة في جميع الصيغ الثلاث الواردة في الامتحان الوطني في البكالوريا المغربية،
وهي السؤال والقولة والنص، فإن هذا لا يمنع من أن لكل صيغة خصوصيات معينة يتعين
البحث عنها. ومن هنا، يأتي بحثنا هذا ليسلط الضوء على ما يميز لحظة المناقشة في
الكتابة الإنشائية الخاصة بصيغة القولة المرفقة بسؤال، وذلك من خلال تقديم قراءتنا
الوصفية والنقدية لمجموعة من الوثائق الرسمية المعنية بالتنظير ووضع الإجراءات
المتعلقة بالكتابة الفلسفية في سلك البكالوريا.
1- التوجيهات التربوية:
إذا ما حاولنا أن نقف في "التوجيهات
التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي
التأهيلي"(نونبر 2007)، المعبرة عن المنهاج الدراسي لمادة الفلسفة،
على بعض المؤشرات التي تدل على أهمية فعل المناقشة وتشير إلى مختلف المعاني التي
يتخذها، كفعل عقلي وأساسي يكون التلميذ مطالبا بإنجازه في الكتابة الإنشائية
الفلسفية، فضلا عن ممارسته له داخل الفصل الدراسي، فإنه يمكن القول بأنه منذ بداية
التقديم المتضمن في هذه "التوجيهات التربوية" تم التأكيد على أن الهدف
من الفلسفة، كمادة مدرسية، هو مساعدة التلاميذ «على ممارسة التفكير النقدي الحر
والمستقل والمسؤول»(1)، كما تمت الإشارة إلى أن «المنهاج يضع أمام
التلميذ(ة) إمكانية تعلم وممارسة التفكير المستقل عبر السؤال.. والتحليل والنقد
قبل القبول والإقرار، وتعلم وممارسة اتخاذ القرار بحرية واختيار، وتعلم.. الانعتاق
من حجة السلطة.. وأيضا تعلم الشجاعة في استخدام العقل وفي التعبير عن الرأي
المدعوم بحجج.»(2)
وانطلاقا من هنا، يتبين أن هذه
"التوجيهات" تتضمن عدة علامات ومؤشرات لها علاقة مباشرة بالأفعال
العقلية التي يتعين على التلميذ أن يمارسها أثناء لحظة المناقشة في الإنشاء
الفلسفي. ومن أهمها: التفكير النقدي الحر والمستقل، والتجرؤ على استخدام العقل
وطرح الأسئلة، والدفاع عن رأيه بحجج وأدلة، وعدم الاختباء وراء الفلاسفة أو أية
سلطة معرفية أخرى. ومن هنا، فممارسة فعل المناقشة في الإنشاء يتطلب من التلميذ أن
يتخذ مسافة نقدية حرة ومسؤولة تجاه أطروحة النص أو القولة أو أية أطروحة أخرى،
وذلك بالعمل على تثمينها وتدعيمها أو نقدها ومعارضتها، معتمدا في ذلك على ممارسة
التفكير الشخصي المرتكز على قناعات التلميذ الذاتية، والمدعومة بحجج مستمدة من
حقول معرفية متنوعة. وهذه الخاصية النقدية
المميزة للتفكير الفلسفي هي التي تجعل المواقف الفلسفية مجرد حلول ممكنة، وليست
حقائق جاهزة، ويكون التلميذ مطالبا بمحاورتها واتخاذ مسافة نقدية منها، كما أن
عليه أن يوظفها كحجج ممكنة في المناقشة، وهو الأمر الذي يعني أن التلميذ هو من
سيناقش أطروحة النص أو القولة وليس الفلاسفة!! فاستدعاء هؤلاء يتم داخل استراتيجية
تفكيرية وحجاجية يقوم بها التلميذ نفسه، ويوظف في إنجازها حججا مستمدة من الواقع،
كما يوظف تصورات لأعلام تنتمي إلى مجالات مختلفة فلسفية وغير فلسفية.
وقد تم التأكيد في "التوجيهات" على
أحد المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها تعليم الفلسفة، والذي له علاقة مباشرة بفعل
المناقشة في الإنشاء الفلسفي، وهو المتعلق ب «تنمية الوعي النقدي والتفكير الحر
والمستقل، وعلى التحرر من مختلف أشكال الفكر السلبي (الدوغمائية، التبعية الفكرية،
التلقي السلبي للمعارف والآراء..)»(3) ولعل هذا يعني أهمية حضور الهاجس
الإشكالي لدى التلميذ أثناء المناقشة؛ إذ عليه أن لا يركن ويطمئن بشكل كلي إلى أية
فكرة أو أطروحة، بل يعمل على مساءلتها وتقليبها على كافة الأوجه والمستويات
لاختبار وجاهتها وصلاحيتها، كما يدل على أن المناقشة ليست مجرد مراكمة للمعلومات
والمواقف الفلسفية، باللجوء إلى منطق الحفظ والاستظهار، بل هي ترتيب لها وتشذيب
لها واستثمار لها بشكل متناسب مع الاستراتيجية الحجاجية التي يعتمدها التلميذ في
المناقشة.
وفي إطار استعراض الكفايات التي يستهدف منهاج
مادة الفلسفة تنميتها لدى المتعلم، تمت الإشارة إلى مجموعة من الكفايات التي هي من
صميم فعل المناقشة الفلسفية، وذلك من قبيل الاعتماد على النفس والاستقلال في
التفكير «والتحكم الواعي في الاختيارات والقرارات.. وتقبل كلام الآخر على نحو يقظ
ممحص وليس على نحو سلبي»(4) كما تم اعتبار أن أفعال الاستدلال والنقد
والمقارنة والتماسك المنطقي، هي كفايات منهجية يروم تعليم الفلسفة تحقيقها لدى
المتعلمين. وفي إطار الحديث عن الكفايات الثقافية، تمت الإشارة إلى أن التلميذ
مطالب، أثناء حواراته ومناقشاته ودفاعه عن أفكاره، بضرورة «استدعاء معارف متنوعة
رافدة للتفكير الفلسفي (أدبية، فنية، علمية، سياسية...)»(5)، وهذا يؤكد على
ما أشرنا إليه سابقا من أن على التلميذ أن يجند معارف كثيرة ومتنوعة أثناء لحظة
المناقشة في الكتابة الإنشائية الفلسفية، وما المواقف الفلسفية الموجودة في
الملخصات سوى واحدة من هذه المعارف التي على التلميذ استثمارها في المناقشة. وهذا
يعني أن عليه أن يحسن استخدامها، وأن يمارس عليها "سياسة لي العنق"
الكفيلة بجعلها تتلاءم مع استراتيجية المناقشة التي ينهجها، ومع طبيعة الإشكالية
التي تتم مناقشتها في الإنشاء الفلسفي.
وإذا كانت لحظة المناقشة في الإنشاء هي فرصة
أمام التلميذ لممارسة الحجاج الفلسفي، وذلك بمحاكمة الأطروحات الفلسفية واتخاذ
موقف متحرر منها، وبناء الرأي الخاص بالاعتماد على حجج قوية ومتماسكة، فإننا نجد
"التوجيهات" تشير إلى مجموعة من العمليات العقلية والتفكيرية التي يمكن
أن يتمظهر من خلالها الحجاج كخاصية أساسية من خصائص التفكير الفلسفي. وتتمثل هذه
العمليات من خلال «توظيف الأطروحات الفلسفية بالمقارنة بينها أو دحضها أو
إثباتها»، و«استحضار الأمثلة القابلة أن تعمم والحالات الإشكالية أثناء المناقشة»،
و«الاستشهاد بأقوال فلسفية أو علمية أو أدبية، ذات سند.»(6) وهاهنا تأكيد
على أن لحظة المناقشة هي لحظة تجييش لعدة موارد، مستمدة من حقول معرفية مختلفة،
يمكن استخدامها كحجج لتأكيد أو تفنيد الأطروحات الفلسفية، مع خلق مقارنة واعية
بينها والدخول معها في حوار عقلي مثمر.
والآن، يمكننا التساؤل: إلى أي حد تم تجسيد
هذه التوجيهات المتعلقة بفعل المناقشة، وما يرتبط بها من آليات تفكيرية وحجاجية،
والعمل على أجرأتها في باقي الوثائق التربوية الأخرى؟
سنحاول الإجابة عن هذا التساؤل من خ لال تفحص
ما يوجد في الأطر المرجعية لمواضيع الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا في مادة
الفلسفة، وأيضا ما يوجد في المذكرة رقم: 04-142 الخاصة بالتقويم التربوي بالسلك
الثانوي التأهيلي لمادة الفلسفة، وأخيرا تقديم قراءتنا للمقتضيات المتعلقة بلحظة
المناقشة في دلائل التصحيح وعناصر الإجابة المتعلقة بالمواضيع الاختبارية للامتحان
الوطني الموحد للبكالوريا، وذلك بالتركيز على ما تعلق منها بصيغة القولة المرفقة
بسؤال.
2- الأطر المرجعية لمواضيع
الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا:
إذا نظرنا في الوثيقة المتعلقة بالأطر
المرجعية لمواضيع الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا في مادة الفلسفة، والصادرة في
المذكرة رقم 093/14 في 25 يونيو 2014، فإننا نجد أن الأمثلة المستمدة من المعيش
اليومي ومن التجارب المشتركة بين الناس، وأيضا الموجودة في تاريخ الفلسفة وفي
مجالات أخرى، وأيضا المعارف الأدبية والفنية والعلمية، تشكل جزءا من المضامين
الفلسفية. ولعل في هذا إشارة واضحة إلى إمكانية استثمار هذه المضامين من طرف
التلاميذ في لحظة المناقشة، سواء داخل الفصل الدراسي أو في الإنشاء الفلسفي. وهذا
يعني أن فعل المناقشة في الإنشاء لا يختزل في تقديم المواقف الفلسفية الموجودة في
الملخصات أو في المقرر الدراسي، بل يتعين استثمار مضامين متنوعة لمناقشة الإشكال
المطروح، ومن أجل اتخاذ موقف نقدي من الأطروحات الفلسفية التي تجيب عنه.
وفي ما يخص الكفاية المنهجية المتعلقة
بالحجاج، باعتبارها كفاية نوعية تتجسد بشكل أكثر في لحظة المناقشة، تمت الإشارة في
"الإطار المرجعي" إلى مجموعة من المؤشرات التي تدل عليه؛ من أبرزها «استخدام
مختلف أساليب الإقناع،الاستدلال، التماسك المنطقي، توظيف الأمثلة والاستعارة
والمقارنة والمقابلة والاستشهادات الفلسفية... حسب السياق.»(7) وهذا يعني
أن فعل المناقشة هو فعل عقلي يستخدم حججا متنوعة بعضها يتخذ صبغة منطقية
واستدلالية، وبعضها الآخر يتخذ طابعا بلاغيا باستخدام الأمثلة والتشبيهات
والمقارنات..، كما يستند فعل المناقشة أيضا على المعارف والأقوال الفلسفية كحجج
إضافية للإقناع. وهذا يعني أيضا على أن لحظة المناقشة، في الكتابة الإنشائية
الفلسفية، هي لحظة تجسيد التفكير الذاتي للتلميذ في ما يخص القضية المطروحة
للنقاش، مما يعني أن كل المضامين والمعارف والحجج هي فقط بهدف تدعيم وتعزيز الموقف
الخاص الذي يسعى التلميذ إلى تجسيده والمنافحة عنه.
كما تمت الإشارة في الكفايات المتعلقة بالقيم
إلى مؤشرات ترتبط ارتباطا وثيقا وجوهريا بفعل المناقشة الفلسفية، وهي المؤشرات
الخاصة بكفاية التفكير العقلاني المنفتح وكفاية التباعد النقدي من المواقف، وتتمثل
في التماسك المنطقي بين الأفكار، والانفتاح على المعارف الإنسانية المختلفة، وخلق
مواجهة بين الأطروحات الفلسفية، وإضفاء الطابع النسبي عليها وعلى كل الأفكار كيفما
كان نوعها. ويستهدف كل هذا توريط التلميذ في النقاش، وتشجيعه على التجرؤ على
استخدام العقل، وإبراز تفكيره الذاتي ومجهوده الشخصي أثناء المناقشة. ولعل هذا هو
ما جعل الأطر المرجعية تخصص نسبة 25% لقدرة أو مهارة المناقشة في الكتابة
الفلسفية، وهي النسبة الأعلى مناصفة مع قدرة التحليل، وذلك من حيث أهميتها مقارنة
مع باقي القدرات والمهارات الموظفة في الكتابة الإنشائية الفلسفية.
وقد تمت الإشارة في "الأطر المرجعية
لمواضيع الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا: مادة الفلسفة"، والمعبر عنها في
المذكرة 159 الصادرة في 27 دجنبر 2007، إلى أن القولة تذيل «بسؤال إشكالي أو مطلب
مزدوج يحيل في مستواه الأول على مضمون القولة، وفي مستواه الثاني على قيمتها أو
أبعادها.»(8) وهذا يعني أن المناقشة تنصب على أطروحة القولة، وذلك على ضوء
المطلب الموجود في السؤال المرفق بها. وقد تم التمييز في هذه المذكرة بين مجموعة
من الأسئلة المرفقة بالقولة، وذلك بحسب المسالك والشعب؛ ففي ما يخص مسالك الشعب
العلمية والفنية وشعبة التعليم الأصيل، تمت الإشارة إلى أن السؤال المرفق بالقولة
هو سؤال ذو مطلبين يتعلق أحدهما بشرح مضمون القولة أو توضيحها، ويتعلق الثاني
بتبيان قيمتها أو حدودها أو أبعادها. أما مسلك الآداب، فيتم اعتماد سؤال مركب من
مطلبين؛ أحدهما يطالب التلميذ بتوضيح مضمون القولة، والثاني يطالبه بتبيان أبعادها
أو بالإجابة عن سؤال إشكالي مفتوح. أما في مسلك العلوم الإنسانية، فتذيل القولة
بسؤال إشكالي مفتوح، يتعين الإجابة عنه انطلاقا من القولة (انظر الصفحة 9 من
المذكرة 159 المشار إليها سابقا).
وقد تم تحيين المذكرة 159 الصادرة في 2007
بمذكرة أخرى صادرة 25 يونيو 2014، حيث تم الإشارة فيها إلى أن القولة ترفق «بسؤال
قد يكون موجها لآفاق تفكير المترشح، أو يحدد بشكل دقيق مجال أو مجالات القولة، أو
يستشكل بوضوح المجال النظري للقولة، كما قد ترفق بمطلب مزدوج يحيل في مستواه الأول
إلى مضمون القولة، وفي مستواه الثاني إلى قيمتها أو أبعادها.»(9) وهذا يعني
أن المناقشة تنصب على أطروحة القولة، وذلك على ضوء المطلب الموجود في السؤال
المرفق بها. وقد تم التمييز بين مجموعة من الأسئلة المرفقة بالقولة، وذلك بحسب
المسالك والشعب؛ ففي ما يخص مسالك الشعب العلمية والفنية وشعبة التعليم الأصيل،
تمت الإشارة إلى أن السؤال المرفق بالقولة هو سؤال يتخذ «صيغة استفهامية ترافق
القولة أو مطلب يحدد المنتظر صراحة.» أما في مسلك الآداب، فيتم «اعتماد
سؤال إشكالي أو مطلب يستهدفان الاشتغال على القولة.»(10) في حين يتم «اعتماد
سؤال إشكالي يستهدف الاشتغال على القولة»(11) بالنسبة لمسلك العلوم
الإنسانية.
وما يمكن ملاحظته هنا، ومن خلال التأمل في
المواضيع الاختبارية لمادة الفلسفة في الامتحانات الوطنية منذ 2007 إلى الآن، هو
أن لحظة المناقشة في صيغة القولة المرفقة بسؤال تتخذ أشكالا متعددة بحسب ما هو
مطلوب في السؤال؛ فالأمر يتعلق إما بإبراز قيمة القولة أو حدودها أو أبعادها، كما
يتعلق بالإجابة عن سؤال بعينه تكون أطروحة القولة هي إحدى الإجابات الممكنة عنه.
وبطبيعة الحال، يتعين على التلميذ أن ينتبه جيدا إلى أداة الاستفهام في السؤال
المرفق بالقولة، لأن هذه الأداة هي التي ستحدد ما هو المطلوب بالضبط من التلميذ
أثناء مناقشة أطروحة القولة. كما يتعين عليه أيضا أن يدرك جيدا ما المقصود بتبيان
قيمة القولة أو حدودها أو أبعادها، لأن هذا الإدراك الواعي والجيد هو الذي سيحدد
المسار الحقيقي والفعال للمناقشة. وللأسف، فنحن لا نعثر في الأطر المرجعية ولا في
التوجيهات التربوية على شرح دقيق ومفصل للمقصود بالقيمة أو الحدود أو الأبعاد
كمطالب أساسية من أجل مناقشة أطروحة القولة. كما لا نجد مثل هذا الشرح في المذكرة
رقم: 04-142 المتعلقة بالتقويم في مادة الفلسفة، والصادرة في 16 نونبر 2007، والتي تم الاكتفاء فيها بالقول إنه يتعين «مناقشة
مضمون القولة في ضوء أطروحات وأفكار أخرى.»(12) أما الكيفية التي سيتم
اعتمادها في المناقشة والمسار الذي ستقطعه، فبقيا غامضين، ويبدو أنهما تركا
لاجتهاد المدرسين والتلاميذ معا.
3- نماذج من عناصر الإجابة في
دلائل التصحيح الرسمية:
سنعمل هنا على النظر في عناصر الإجابة
الرسمية المقدمة بصدد بعض المواضيع الاختبارية المتعلقة بصيغة القولة المرفقة
بسؤال، وذلك لكي نرى كيف تتصور الجهات الرسمية فعل المناقشة في الإنشاء الفلسفي
المنصب حول القولة الفلسفية. وسنكتفي بأربعة نماذج فقط، على اعتبار أن النماذج
الأخرى مشابهة لها.
وأول نموذج سنقف عنده هو المتعلق بالقولة
المرفقة بسؤال ذي المطلبين؛ أحدهما يطالبنا بتوضيح مضمون القولة، والثاني بتبيان
قيمتها. وهنا نؤكد على أن من بين معاني مناقشة القولة هو توضيح قيمتها. ولذلك، نجد
أنفسنا بصدد طرح السؤال التالي: ما هو الفهم الذي تقدمه عناصر الإجابة الرسمية
لمعنى تبيان قيمة القولة، وهو ما يعني بطبيعة الحال مناقشتها؟ نطرح هذا السؤال،
لأنه على ضوء المعنى الذي نقدمه لمفهوم "القيمة" ستتحدد استراتيجية مناقشة
أطروحة القولة. وسنتخذ عناصر الإجابة المقدمة رسميا للقولة الموجودة في الامتحان
الوطني الموحد للبكالوريا، مسلك الآداب، الدورة العادية 2013، كنموذج للإجابة عن
السؤال الذي طرحناه.
جاءت هذه القولة كما يلي:
«القوة المستخدمة طبقا للقانون أقل ضررا من
القوة التي تحركها الأهواء.»
أوضح (ي) مضمون القولة وبين (ي) قيمتها.
فما الذي ورد في عناصر الإجابة على مستوى
مناقشة هذه القولة؟
أول مفارقة نصادفها في عناصر الإجابة هو
القول بأنه «يمكن أن يناقش المترشح (ة) الأطروحة الكامنة في القولة بإبراز قيمتها
ومحدوديتها، وذلك من خلال العناصر الآتية:..»(13) وتكمن هذه المفارقة في
الخلط الواقع هنا بين مصطلحي "القيمة" و"المحدودية"، مما يعني
أن دليل التصحيح لا يميز بينهما. فهل المترشح إذن يكون مطالبا في المناقشة بنفس
الشيء حينما يطلب منه تبيان قيمة القولة، وحينما يطلب منه مرة أخرى تبيان حدودها؟
يبدو أن عدم تمييز "دليل التصحيح"
بينهما، يعني أن على مناقشتنا للقولة أن تتضمن التثمين والنقد معا، وليس التثمين
وحده باعتبار أنه الأكثر دلالة على مفهوم القيمة. وبالفعل فقد وردت في عناصر
الإجابة إشارات إلى أفكار تميل إلى تثمين القولة مثل "ميل السلطة الطبيعي إلى
العنف ضد الفرد"، وأفكار أخرى تميل إلى إبراز محدوديتها مثل "حق الفرد
مقاومة السلطة المتسلطة، باعتبارها قد تكون أداة للهيمنة الطبقية."(14)
ولكن من وجهة نظر مخالفة لدليل التصحيح
الرسمي، يمكن للبعض أن يفهم أن الأمر في المناقشة منحصر فقط في تبيان قيمة القولة،
وليس في إبراز محدوديتها. وإذا كانت القيمة تعني ما هو جدير بالتقدير والاهتمام،
فإن مناقشة القولة ستتجه نحو تبيان أهميتها وإبراز النتائج الإيجابية المترتبة
عنها، مادام أن عنف الدولة، سواء كانت استبدادية أم ديمقراطية، هو أقل ضررا من
العنف المدمر الصادر عن الأهواء والغرائز الطبيعية.
لكن هناك، من سيذهب في اتجاه ما ورد في دليل
التصحيح، وسيعتبر أن مطالبة المترشح بتبيان أطروحة القولة يعني أيضا نقدها، وذلك
لاعتبارين؛ الأول هو أن كل أطروحة في الفلسفة لا تسلم من النقد والمراجعة وتقليبها
على كافة الأوجه للكشف عن ثغرات موجودة فيها، والثاني أن قيمة الشيء هي قيمة نسبية
تختلف باختلاف الرؤى والمنظورات.
ونحن لا نملك أمام هذا الاختلاف إلا أن نقف
في منزلة بين المنزلتين؛ وتتمثل في أن تبيان قيمة أطروحة القولة يعني بالأساس
إبراز وجاهتها وأهميتها والنتائج الإيجابية المترتبة عنها، وهذا ما ينبغي للمترشح
أن يخصص له الحيز الأكبر في المناقشة، ولكن يمكنه أيضا أن يخصص حيزا ثانيا صغيرا
للتساؤل حول درجة أهمية أطروحة القولة، وإمكانية الاختلاف معها في بعض الأوجه.
ويمكن القول، دون الرجوع إلى أي نموذج
اختباري، أن إبراز حدود أطروحة القولة أثناء المناقشة هو صورة معكوسة لإبراز
قيمتها. ولذلك، فتبيان حدود الأطروحة يعني ممارسة النقد عليها وإبراز تهافتها
وضعفها، وذلك بالنظر إلى النتائج السلبية المترتبة عنها أو بالنظر إليها من زوايا
مغايرة أو معارضتها بأطروحات أخرى، أو بتبيان ضعف حججها واستدلالاتها..الخ. ويمكن
للمترشح أن يقف عند هذا الحد، أما إذا أضاف فقرة يبرز فيها جانبا من القيمة أو
الأهمية التي تتمثل في أطروحة القولة، فلا بأس في ذلك، على أساس أن يكون مستوى
النقد قد احتل الجزء الأكبر في المناقشة. ولعل الأمر في ذلك متروك إلى قناعات
التلميذ واختياراته، مادامت التوجيهات التربوية نفسها قد أكدت، كما أسلفنا سابقا،
على أن من بين أهداف المنهاج الجديد للفلسفة هو تعلم التلميذ لممارسة التفكير الحر
والمسؤول، وتعلم الشجاعة في استخدام العقل وفي التعبير عن الرأي المدعوم بحجج.
وسننظر الآن في نموذج اختباري آخر يتعلق بسؤال
ذي مطلبين، يدعونا مطلبه الثاني إلى تبيان أبعاد القولة. ويتعلق الأمر بالنموذج
التالي، والذي ورد في الامتحان الوطني الموحد للبكالوريا، مسالك الشعب العلمية
والتقنية والأصيلة، الدورة العادية 2010:
« لكي يكون المجرب جديرا بهذه الصفة، عليه أن
يكون منظرا وممارسا في الوقت نفسه... فاليد الماهرة التي لا يوجهها عقل هي أداة
عمياء، والعقل دون اليد التي تنجز يظل عاجزا.»
اشرح مضمون القولة وبين أبعادها
وبين أن مناقشة القولة هنا، ستنصب حول تبيان
أبعاد الأطروحة المتضمنة فيها. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما المقصود بأبعاد
القولة؟ حينما نتحدث عن أبعاد فكرة ما، فإننا نقصد دلالاتها ومعانيها البعيدة،
وأيضا مختلف الجوانب أو المستويات التي تتعلق بها أو تحيل إليها، كالأبعاد الذاتية
والاجتماعية والثقافية والتاريخية، أو الجوانب الاقتصادية والسياسية
والاقتصادية..الخ. ولذلك، يبدو أن تبيان أبعاد أطروحة القولة هو تقليبها على أوجه
متعددة من أجل اختبار مدى صحتها وصلاحيتها ومحدوديتها. وهنا قد نكون أمام عدة
احتمالات ممكنة؛ فقد يبرز التلميذ صلاحية وقيمة أطروحة القولة في هذا المستوى أو
الجانب، ويظهر محدوديتها في مستوى أو جانب آخر. كما قد يبرهن على قيمتها وأهميتها
على كافة الأبعاد والمستويات، وبالعكس قد يبرز ضعفها وحدودها على كافة الجوانب
والأبعاد، وذلك بحسب قناعات التلميذ وطبيعة الحجج التي سيستخدمها من أجل تبرير
موقفه المساند أو المعارض للأطروحة المتضمنة في القولة. وواضح أن موقف التلميذ هنا
سيتأرجح بين التثمين أو النقد، أو المزاوجة بينهما. وهذا ما نلمسه في عناصر
الإجابة الرسمية المتعلقة بهذه القولة، إذ نجد فيها أنه «يمكن للمترشح أن يناقش
أطروحة القولة بالانفتاح على ما يؤيدها أو يعارضها من أطروحات فلسفية.»(15) وهذا
ما يعني أن تحديد "الأبعاد" يتضمن التثمين والنقد معا.
وإذا طبقنا ما نقوله على النموذج الذي
اخترناه، فإن موقف التلميذ إما أن يوافق الأطروحة المتضمنة في القولة، والتي ترى
أن إنتاج النظرية العلمية يتطلب التكامل بين العقل والتجربة، وذلك عن طريق تبيان
دلالات وأهمية هذا التكامل في حقول معرفية مختلفة، وأثناء خطوات المنهج العلمي
نفسه. كما قد يختار التلميذ معارضة هذه الأطروحة، بأن يبين أن هناك مجالات علمية
نظرية تكون النظرية العلمية فيها إبداعا عقليا خالصا، ولا تتطلب أي تدخل للتجربة،
أو يبين العكس بأن هناك مجالات علمية تكون التجربة فيها هي منطلق بناء النظرية
ومعيار صحتها، ويكون للعقل فيها دورا ثانويا وباهتا. كما يمكن أن يزاوج التلميذ
بين التثمين والنقد، فيبين أن التكامل ضروري بين العقل والتجربة في حقول معرفية
معينة، ولكنه غير ضروري في بعض الجوانب أو الحقول المعرفية الأخرى.
ونأتي الآن إلى الصيغة الخاصة بمسلك العلوم
الإنسانية، وهي التي تكون فيها القولة مرفقة بسؤال مفتوح، أو بالانطلاق من القولة
والإجابة عن سؤال مفتوح. وسنتخذ كمثال على ذلك النموذجين التاليين:
* الأول: (الامتحان الوطني للبكالوريا، مسلك العلوم
الإنسانية، الدورة العادية 2013م)
« ينبغي أن نكون عبيدا للقوانين كي نكون
أحرارا.»
بين (ي)، انطلاقا من تحليلك للقولة، هل
الحرية خضوع للقوانين أم تجاوز لها؟
* الثاني (الامتحان الوطني للبكالوريا، مسلك العلوم
الإنسانية، الدورة العادية 2011م):
« إن المساواة واللامساواة التامتين، هما
ظالمتان بين أفراد ليسوا متساوين عموما.»
كيف للمساواة واللامساواة التامتين أن تناقضا
العدالة؟
بخصوص النموذج الأول المرفق بسؤال الانطلاق،
نجده يطالبنا أولا بتحليل القولة واستخراج أطروحتها، وبعد ذلك الإجابة عن سؤال
مفتوح تعتبر أطروحة القولة هي إحدى الإجابات الممكنة عنه. وهكذا سيكون علينا أن
نجيب عن السؤال انطلاقا مما تطالبنا به أداة استفهامه، لأن استراتيجية المناقشة
ستختلف بحسب أداة الاستفهام في السؤال؛ ومن أشهر أدوات الاستفهام الواردة في
الامتحانات الوطنية نجد "هل" التي يراد منها طلب التصديق، وذلك من خلال
الإجابة بنعم أو لا، مما يجعلنا أمام جوابين أو أطروحتين مختلفتين، مع إمكانية
وجود أطروحة ثالثة توفق بينهما أو تتجاوزهما. وهكذا سيكون علينا في النموذج الأول
أن نقدم أطروحة القولة كجواب أول عن السؤال، وهي الأطروحة التي تقول بأن الحرية
تكمن في الامتثال للقوانين والخضوع لها، ثم بعد ذلك نناقشها بأطروحة أخرى معارضة
ترى أن الخضوع للقوانين يكون أحيانا متنافيا مع الحرية، إذا كانت تلك القوانين
ديكتاتورية أو ظالمة. ويمكن للتلميذ أن يتبنى إحدى الأطروحتين أو يتجاوزهما معا
ويركب بينهما، المهم هو أن يستخدم في ذلك حججا متماسكة ومناسبة.
غير أننا نجد في الأسئلة المذيلة للقولة
أدوات استفهام أخرى، مثل: كيف، بأي معنى، لم، من أين..الخ. وبطبيعة الحال، فمسار
المناقشة سيتحدد ويختلف باختلاف أدوات الاستفهام نفسها؛ فأداة الاستفهام "بأي
معنى"، مثلا، يراد منها طلب التفسير والتوضيح، بحيث نكون مطالبين بتوضيح أو
تفسير الأطروحة المتضمنة في السؤال، أما أداة الاستفهام "لم"، فهي
تطالبنا بالبحث عن العلل والأسباب المتعلقة بالأطروحة المتضمنة في السؤال، وأداة
الاستفهام "من أين" تطالبنا بالبحث عن الأسس أو المنابع التي تستند
إليها فكرة ما، في حين أن أداة الاستفهام "كيف"، وهي الواردة في النموذج
الثاني أعلاه، تستدعي منا التوضيح والتفسير شأنها شأن أداة الاستفهام "بأي
معنى".
ومن هنا
سيكون علينا في النموذج الثاني أن نبين كيف أن العدالة لا تكمن في المساواة التامة
بين الناس، ونقدم الحجج التي تبرر ذلك، ثم نبين أنها لا تكمن أيضا في اللامساواة
التامة بين الأفراد، ونقدم المبررات الكفيلة بتدعيم ذلك. وهنا سنجد أنفسنا بصدد
تدعيم وتثمين أطروحة القولة التي تتضمن إجابة ممكنة عن السؤال، وبعد ذلك يمكننا
الاعتراض عليها من بعض الأوجه؛ بأن نبين مثلا بأن المساواة التامة أمام الدستور
والقانون هي شرط ضروري للحديث عن العدالة القانونية، وبأن اللامساواة من الناحية
الاقتصادية هي أيضا شرط ضروري لتحقيق العدالة كإنصاف، مادام الناس غير متساوين في
القدرات والكفاءات. وهكذا تتطلب المناقشة هنا تقديم عدة توضيحات بصدد علاقة
العدالة بالمساواة واللامساواة، وربط ذلك بالأشكال المختلفة للعدالة.
وعلى
العموم، يمكن القول بأن لحظة المناقشة في الكتابة الإنشائية هي لحظة إبراز التلميذ
لمجهوده وموقفه وتفكيره الذاتي، وذلك باتخاذ مسافة معينة من الأطروحات الفلسفية
والعمل على تثمينها أو نقدها، مستخدما في ذلك أدلة وبراهين مستمدة من الفلسفة أو
من حقول معرفية متعددة. ولا تخرج لحظة المناقشة
في صيغة القولة عن هذا الإطار العام، إلا أن لها خصوصيتها واستراتيجيتها
المرتبطة بطبيعة السؤال المرفق بها، والذي يتعين معرفة مطلبه بشكل جيد ودقيق، والوقوف
عند مفاهيمه وأداة استفهامه، لكي تكون مناقشتنا لأطروحة القولة مناقشة سليمة
ومتماسكة وتسير في الاتجاه الصحيح.
الهوامش:
1- كتاب "التوجيهات التربوية والبرامج
الخاصة بتدريس مادة الفلسفة بسلك التعليم الثانوي التأهيلي"، المملكة
المغربية وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي،
كتابة الدولة المكلفة بالتعليم المدرسي، نونبر 2007، ص:3.
2- نفس المصدر والصفحة.
3- نفسه، ص:5.
4- نفسه، ص:8.
5- نفسه، ص:9.
6- نفسه، ص:11.
7- الأطر المرجعية لاختبارات الامتحان الوطني
الموحد للبكالوريا 2014، الإطار المرجعي لمادة الفلسفة جميع المسالك، المملكة
المغربية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، ص:2.
8- المذكرة رقم 159 المتعلقة بالأطر المرجعية لمواضيع الامتحان الوطني
الموحد للبكالوريا: مادة الفلسفة"، الصادرة في 27 دجنبر 2007، المملكة
المغربية وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، ص:8.
9- الأطر المرجعية لاختبارات الامتحان الوطني
الموحد للبكالوريا 2014، الإطار المرجعي لمادة الفلسفة جميع المسالك، المملكة
المغربية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، ص:5.
10- نفسه، ص:6.
11- نفس المصدر والصفحة.
12- المذكرة رقم 04-142 الصادرة في 16 نونبر
2007، الخاصة بالتقويم التربوي بالسلك الثانوي التأهيلي لمادة الفلسفة، المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية
والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، ص:7.
13- عناصر الإجابة المتعلقة بالامتحان الوطني
الموحد في مادة الفلسفة، الدورة العادية 2013، مسلك الآداب، ص:3.
14- انظر نفس المصدر والصفحة.
15- عناصر الإجابة المتعلقة بالامتحان الوطني
الموحد في مادة الفلسفة، الدورة العادية 2010، مسالك الشعب العلمية والتقنية
والأصيلة، ص:2.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.