الأربعاء، 29 يناير 2020

قراءة في قصة "السيمو" للقاص عبد الجليل الشافعي


قراءة في قصة "السيمو"
أو الصامت الثرثار
 للقاص عبد الجليل الشافعي

بقلم: محمد الشبة




صدرت للقاص عبد الجليل الشافعي عن دار القرويين للنشر، مع مطلع سنة 2020م، مجموعة قصصية تحت عنوان "المرأة التي في الأعلى"، وهي الإصدار الأول لهذا القاص الواعد. وتضم هذه المجموعة عشرين قصة مرتبة كما يلي: حلم قديم، المرآة، السيمو، كوب قهوة، المحكمة، حين غدر القدر، هي وهو، قاهابيل، المرأة التي في الأعلى، صرع، امرأة على الرصيف، رجاء، ورطة، صبيب الأنترنيت، أوديب المغربي، تردد، كبوة حصان، بْرْيلْ، وصية جد، إنسان للبيع.
ويسرني أن أقدم لكم قراءتي في قصة "السيمو"، وهي القصة الثالثة في هذه المجموعة القصصية.
تحكي هذه القصة عن متسكع اسمه "السيمو"، أو هكذا كان الناس يلقبونه. وقد كان رجلا صامتا، يجوب الطرقات بلا ملل، عاش في الرصيف ومات في الرصيف، ولم يكن ينطق بأي كلام وكأنه أبكم، سوى بعبارة "كلنا نسعى في هذه الدنيا". وقد كانت هذه العبارة بمثابة رصاصة الرحمة التي يبعث بها إلى قلوب الناس وعقولهم.
وتميط هذه القصة اللثام عن مجموعة من الأمراض النفسية والاجتماعية، كما تطرح مجموعة من التساؤلات للتأمل والنقاش، من بينها ما يلي:
1- العزلة القروية ومعاناة التلاميذ:
يصف السارد حال "السيمو" بطل القصة بأنه «لم يكن يتعب من الذهاب والإياب في تلك السبيل المتربة الرابطة بين الطريق المعبد والقرية النائية، القرية التي لا ترصدها خرائط الدولة، ولا مصالحها، ولا حتى نظام GPS ...».
وهنا نجد تلميحا ذكيا من القاص للعزلة التي تعيشها بعض القرى والبوادي عن المدن والحواضر، مما يجعلها تعيش الهشاشة والتهميش على مستوى البنية التحتية، وعلى كافة المجالات والمستويات الصحية والتعليمية والرياضية والثقافية والاجتماعية.
ويعاني من هذه العزلة التلاميذ أيضا، إذ يضطرون إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى المدرسة، خصوصا مع المسالك الوعرة والطرق غير المعبدة أو نصف المعبدة. ويزداد الأمر خطورة واستفحالا في أيام فصل الشتاء، حيث يضطر الكثير من التلاميذ إلى قطع مسافات طويلة في حلكة الظلام وتحت قسوة برد الطبيعة وأمطارها. وفي هذا الإطار نجد السارد يقول: «في الطريق النصف معبدة، الطريق الطويلة مثل وجع الفقراء، والتي كنا نقطعها، نحن أطفال القرية بشكل يومي شتاء وصيفا، حرا وبردا، أثناء توجهنا للمدرسة.»
2- حكمة السيمو المتسول الصامت: "كلنا نسعى في هذه الدنيا".
لم يكن "السيمو" ينطق من الكلام، وهو يجوب الطرقات ذهابا وإيابا، سوى تكرار عبارة "كلنا نسعى في هذه الدنيا". فقد كانت هذه الجملة القصيرة هي كل رأسماله الرمزي في هذه الحياة، بحيث كان يلقي بها في وجه كل من يكلمه أو يسخر منه.
وإذا تأملنا في هذه الجملة، فإننا نجد صاحبها يحاول أن يساوي بين وضعيته ووضعية باقي الناس. فإذا كان هؤلاء يشفقون لحاله أو يسخرون منه أو ينظرون إليه نظرة دونية، فإنه يقول لهم إننا نتساوى جميعا في مسألة جوهرية، وهي أننا "نسعى في هذه الدنيا". فبحكم أن السيمو كان متسكعا يهيم في الطرقات، بدون أهل ولا مأوى ولا عمل، فقد كان مضطرا لتلقي العون من الآخرين حيث يأخذ منهم بعض الدراهم أو أصناف من الأكل يسد بها رمقه. ولذلك فقد كان السيمو يجد نفسه في موضع ضعف وعوز وهشاشة، لكنه مع ذلك يهمس للناس في عبارته تلك بأنهم أيضا ضعفاء ومحتاجون إلى بعضهم البعض، ومحتاجون إلى قوة عليا لكي ترحمهم وتقف إلى جانبهم، مادام أن كل واحد من الناس يحس بالنقص، أو يعيش البؤس والفقر، أويعاني من المرض، أو يخاف من الموت. فالسيمو إذن يساوي بينه وبين الناس، ولا يرى أنهم أحسن منه حالا سوى في الدرجة، بل قد يكون حاله أحسن من بعضهم ممن يعيش الألم الناتج عن مرض فتاك، أو من يعيش عذاب الضمير من فرط ما ارتكب من آثام وشرور في حق الآخرين، أو من يعتصره الجرح الناتج عن غدر صديق أو خيانة حبيب.
وإذا كان "السيمو" يشعر الناس بضعفهم ونقصهم في عبارته تلك، فإنه يشعرهم أيضا فيها أنهم عابرون وزائلون وغير خالدين ودائمين في هذه الدنيا. ففعل "يسعى" في تلك الجملة قد يدل على ما يسمى باللهجة العامية ب"اسعاية"؛ أي حال المتسول الذي يطلب الصدقة والعون من غيره. ولهذا فقد أراد "السيمو" أن يقول للناس أنني لست وحدي من يطلب العون ومن يعيش حالة العوز، بل أنتم أيضا تعيشون أحوالا كثيرة من الضعف والنقص والعوز تكونون محتاجين فيها إلى بعضكم البعض، أو محتاجين إلى خالقكم ورازقكم.
كما قد يدل فعل "يسعى" في تلك العبارة على "السعي إلى..."؛ أي التوجه أو السير نحو شيء ما أو مكان ما. وبالفعل فالناس في هذه الحياة الدنيا عابرون ومسافرون، وليسوا باقين وخالدين. فالموت هي الغاية التي يسعى نحوها الجميع، يستوي في ذلك الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، المقيم أو المتسكع. ولذلك كان السيمو يساوي بين الناس على هذا المستوى، ويشعرهم بفنائهم وانصرامهم، وينصحهم بعدم الاطمئنان والارتكان إلى ما لديهم من ممتلكات وما يرفلون فيه من خيرات ومتع، ماداموا سيتركون كل ذلك ويرحلون ذات يوم.
وإذا كانت الحكمة تأخذ من أفواه المعتوهين والمجانين، فإن عبارة "السيمو" التي لم يكن يمل من تردادها كانت بمثابة حكمة تؤرق مضجع الناس، وتشعرهم بهشاشتهم وتفانيهم، وتلقي بهم في دوامات الحيرة وتأنيب الضمير. فصحيح أننا جميعا، على حد تعبير السيمو، نسعى في هذه الدنيا، ولهذا علينا أن نأخذ بوصية النبي المصطفى: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل.» (حديث نبوي)
3- أمراض في العلاقات الإنسانية: "التوكال"، العنصرية، الغدر.
كان "السيمو" الشاب المتسكع يعيش في عالم الصمت المطبق، إلا من عبارته التي يرددها من حين لآخر "كلنا نسعى في هذه الدنيا". وقد كان أمره محيرا، ويثير العديد من التأويلات لدى الناس وهم يبحثون عن الأسباب التي أدت به إلى هذه الحالة. وقد ذكر السارد ثلاثة حكايات رئيسية نسجت حول قصة "السيمو"؛ الأولى هي أنه سحر ب"التوكال" من طرف امرأة كانت تحبه ولم يبادلها نفس الحب، والثانية أنه أقصي بشكل عنصري من طرف مدرب إحدى فرق كرة القدم رغم أنه كان موهوبا فيها، والثالثة هي أن أخاه غدر به وسيطر على كل ماله، فأصيب بالاكتآب من جراء ذلك.
انطلاقا من هذه الحكايات الثلاث التي تروج حول قصة المتسكع "السيمو"، رصد لنا القاص عبد الجليل الشافعي ثلاثة أمراض اجتماعية تتجسد في السلوكات البشرية وهي: السحر والعنصرية والغدر. فالسحر يسود أكثر في أوساط النساء، ويستخدم أكثر للإيقاع بالرجال، وهو يرتبط بظاهرة الشعودة وسيادة الجهل والخرافة والأمية في أوساط شرائح واسعة من المجتمع المغربي. أما العنصرية فترتبط بالحقد والكراهية وإقصاء الآخر وعدم الاعتراف بمواهبه وقدراته، مما ينعكس سلبا على الشخص الموهوب، فيؤدي إلى إقبار موهبته، ويمنعه من التألق ومعانقة أحلامه وطموحاته، كما ينعكس سلبا أيضا على المجتمع، فيحرمه من عطاءات الشخص الموهوب ويحول بينه وبين التنمية والازدهار المنشودين. وبخصوص الغدر، يمكن القول أنه آفة خلقية ناتجة بشكل خاص عن الحقد والحسد أو الجشع والطمع، وهي أمراض نفسية تعمي البصيرة وتدفع بصاحبها إلى الإيقاع بالغير وإلحاق الأذى به.
4- مفارقة الصامت الثرثار:
لقد مات "السيمو" فجأة ورحل في صمت، مثلما عاش في صمت أيضا. ولم يترك مالا ولا ولدا ولا أي شيء، سوى عبارته التي كان لا يمل من تردادها في وجه كل من يخاطبه؛ "كلنا نسعى في هذه الدنيا". لقد كانت هذه العبارة هي التركة التي خلفها، أو هي الرأسال الرمزي الذي كان يملكه، وخلفه في ذاكرة الناس الذين تعرفوا عليه وعايشوه.
لكن المفارقة هنا تكمن في أن صمت السيمو كان ثرثارا ومدويا؛ فقد كانت حالته الصامتة وهو يهيم في الطرقات تبعث برسائل كثيرة، يتلقاها الناس وتؤثر في عقولهم ونفوسهم. لقد أشفقوا لحاله، واستغربوا لسلوكاته، وطرحوا حول وضعه أسئلة عديدة، ونسجوا حول قصته حكايات متضاربة ومتناقضة. لقد كان صمت السيمو إذن مدويا ومزعجا، يذكر النفوس بأمراضها وعاهاتها، ويزرع القلق في الضمائر الحية التي تشفق عليه وترثي لحاله. ويكفي صمت هذا المتسكع ثرثرة وعمقا أنه كان يزعج الناس ويذكرهم، من خلال العبارة اليتيمة التي كان يرددها،"كلنا نسعى في هذه الدنيا"، بأنهم ضعفاء ومحتاجون إلى بعضهم البعض، ومحتاجون إلى الله، وأنهم عابرون وراحلون، مثلما كان هو عابر سبيل، ثم رحل دون سابق إنذار.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.