الثلاثاء، 2 أكتوبر 2018

النظرية والتجربة

 النظرية والتجربة




ورد في معجم روبير بأن النظرية "هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص". وفي معنى ثان النظرية " بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي". كما ورد في المعجم الفلسفي لأندري لالاند بأن النظرية "هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ". هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.
أما التجربة فيمكن القول بأنها في معناها العلمي هي مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية، وهي تقتصر على الممارسة العلمية الدقيقة كممارسة تتأسس فيها المعرفة على التجريب العلمي. أما التجربة في معناها العام فهي توجد في أساس كل معرفة إنسانية، وهي تعبر عن الخبرة التي يكتسبها الإنسان من خلال احتكاكه بالواقع وبالآخرين.
وهنا يطرح إشكال أساسي يتعلق بأشكال التمييز بين التجربة بمعناها العام والتجربة بمعناها العلمي، وهو المعنى الذي يعبر عنه بالتجريب. كما تطرح علاقة النظرية بالتجربة عدة إشكالات إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية الدقيقة.

1-     المعرفة بين التجربة المباشرة والتجريب العلمي:

إن الإشكال يتعلق في هذا المحور بتحديد الفرق بين التجربة والتجريب، وذلك بالوقوف عند طبيعة المعرفة المرتبطة بكلا المفهومين. فحينما نتحدث عن التجربة فإننا نشير إلى معنيين  رئيسيين؛ الأول يتعلق بالتجربة في معناها العام بحيث نتحدث عن تجارب سياسية وعاطفية ودينية وتاريخية وما إلى ذلك، وبهذا المعنى فالتجربة تحيل إلى ما يسمى بالخبرة الإنسانية التي يعيشها الإنسان في الواقع وبكيفيات مختلفة. أما المعنى الثاني فيتعلق بالتجربة العلمية التي تتم وفق أدوات ومناهج علمية خاصة، وهذا المعنى الأخير هو ما يشير إليه مفهوم التجريب العلمي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هو مفهوم التجربة؟ وما هو مفهوم التجريب؟ وأين يكمن الفرق بين طبيعة المعرفة المرتبطة بكل منهما ؟
يرى فردناند ألكيي أن التجربة تشير إلى وقائع متمايزة عن الذات، وأن هذه الأخيرة تخضع لها وتتقبلها بشكل سلبي دون تدخل أي اصطناع أو بناء من طرف الفكر. هكذا تنتج لنا التجربة معرفة معطاة وليست مبنية، كما أنها تكون موضع معاينة مباشرة من طرف الذات التي تعيش أثناءها نوعا من الخضوع والمعاناة والتقبل السلبي.
وهكذا فالمفهوم الفلسفي للتجربة عند ألكيي (Ferdinand.Alquié) يشير إلى المعاينة الخالصة والمباشرة للواقع من طرف الذات، بحيث يغيب أثناءها فعل التجريب الذي تقوم خلاله الذات بإخضاع المعطى الواقعي لصالحها وتعمل على استنطاقه وبناء معرفة بصدده عن طريق تدخل الفكر. وهذا ما سيجعلنا نقدم مزيدا من التمييز بين مفهومي التجربة والتجريب.
 يرى ألبير جاكار (Albert.Jacquard) أننا لا نرى العالم بأعيننا، بل ندركه بمفاهيمنا. فالعقل العلمي الذي يستند على مفهوم التجريب هو الذي يجعلنا نعتبر مثلا أن الشمس نجما من النجوم، وذلك ضد بداهة الإدراك الحسي الذي يرتكز على التجربة والخبرة الحسية العادية. كما أن سقوط التفاحة هو مجرد واقعة حسية عادية، في حين أن دوران الأرض حول الشمس هو نظرية ثم إثباتها من خلال مجموعة من البراهين والوقائع العلمية التي تثبت صحتها.
فالتجريب يعبر إذن عن تلك العمليات التي يقوم بها العقل، بواسطة أدواته العلمية، من أجل السيطرة على المعطيات الحسية واستنطاقها والربط بينها وفق شروط معينة، وصولا إلى إنتاج نظريات علمية. وهنا يدعونا ألبير جاكار إلى التمييز بين التجربة التي تعبر عما يعطانا مباشرة من قبل الظواهر الطبيعية، وبين التجريب الذي يقوم من خلاله العالم بإخضاع معطيات الواقع الطبيعي لشروط يمليها ويحددها الفكر العلمي.
وفي نفس السياق يؤكد ألكسندر كويري (A.Koyré) أن التجربة بمعناها الخام أو باعتبارها مجرد ملاحظة عامية لم يكن لها أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، بل إنها شكلت عائقا أمام تبلور النظريات العلمية. ولذلك فقد اعتمد هذا العلم على التجريب باعتباره مساءلة منهجية للطبيعة، يعتمد فيها على لغة رياضية وهندسية قادرة على قراءة كتاب الطبيعة وتحديد العلاقات الثابتة بين ظواهرها. ولذلك يرى كويري أن العلم الكلاسيكي تميز بإضفاء الصفة الهندسية على المكان، وتجاوز الانطلاق من الكوسموس أي ما تقدمه لنا الحواس مباشرة.
إن التجريب العلمي إذن يتجاوز التجربة العادية ويقطع معها، لأنه يتأسس على مبادئ عقلية ومناهج علمية وأدوات تمكن من بناء المعطى الطبيعي وتسائله انطلاقا من الفكر من أجل بناء معرفة جديدة بصدده، وهي المعرفة التي لا يمكن للتجربة الحسية أن تدركها ما دامت تقف عند ما هو معطى وظاهري وتتقبله بشكل سلبي.
وقد حدد كلود برنار Claude.Bernard)) التجريب باعتباره «فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة، وهو الأساس العملي وبشكل ما الجزء التنفيذي للمنهج التجريبي». وهذا يبين ارتباط التجريب العلمي بالمنهج التجريبي بحيث يمثل تطبيقا فعليا له. 
ويتحدد المنهج التجريبي عند كلود برنار من خلال مجموعة من الخطوات؛ حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج، ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها.
  انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة.
 ومن هنا تبين هذه الخطوات كيف يتضمن التجريب العلمي إعمالا حقيقيا للفكر وللعقل من أجل استفزاز الطبيعة وإرغامها على البوح بأسرارها، في حين تظل التجربة بمعناها العام تقبلا لما يحدث لنا ويؤثر فينا من وقائع خارجية.
فالتجربة تجعل الإنسان في موقف المنفعل، في حين يجعله التجريب في موقف الفاعل. كما تقف التجربة عند حدود ما هو معطى وظاهري، في حين يستنطق التجريب الظواهر ويبني بصددها معرفة جديدة وعميقة، لا يمكن الوصول إليها عن طريق التجربة العامية المباشرة.  

2-    العقلانية العلمية وإشكال المعرفة بين العقل والتجربة:

يمكن القول عموما بأن مفهوم العقلانية يحيل في تاريخ الفلسفة إلى تلك النزعة التي تمنح للعقل الأولوية في إنتاج المعرفة، ولذلك يقابله مفهوم التجريبية كنزعة تقول بالتجربة كمصدر يمد العقل بالمعارف والأفكار. والواقع أننا نجد في تاريخ الفلسفة مجموعة من العقلانيات لا عقلانية واحدة؛ إذ يتم الحديث مثلا عن عقلانية موضوعية عند أفلاطون، وذاتية عند ديكارت، وقبلية عند كانط، ومطلقة عند هيجل...الخ. لكن ما يجمع بينها جميعا هو تأكيدها على أولوية العقل على التجربة في عملية إنتاج المعرفة، كما أنه يمكن إدراجها جميعا تحت ما يسمى بالعقلانية الكلاسيكية التي تقول بعقل كوني وثابت؛ حاصل على مبادئ فطرية أو قبلية قادرة على فهم الواقع وإنتاج معرفة بصدده بعيدا عن كل تجربة واقعية.
لكن حينما نربط مفهوم العقلانية بمفهوم العلمية، فإننا نتجاوز العقلانية الكلاسيكية بالمعنى الذي حددناه إلى عقلانية علمية معاصرة، تتجاوز الأولى وتراجع مبادئها في ضوء التطورات العلمية المعاصرة. وحينما نتحدث عن العقلانية العلمية المعاصرة، فإننا نكون بصدد مجموعة من الإشكالات الإبيستمولوجية التي تتعلق أساسا بدور كل من العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية المعاصرة. هكذا يمكننا التساؤل: ما هي خصائص العقلانية العلمية المعاصرة؟ وما دور كل من العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية المعاصرة؟ 
 2-1- تصور إنشتين: المعرفة العلمية إبداع حر للعقل البشري.
يؤكد إنشتين على أن النسق النظري للعلم المعاصر يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري. من هنا فالنظرية العلمية تبنى بناءا عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها.
 وهكذا يعتبر إنشتين أن العقل العلمي الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد، كفيل بإنشاء النظرية العلمية، وما التجربة إلا المرشد في وضع بعض الفرضيات من جهة، وفي تطبيقها من جهة أخرى. كما يؤكد على الدور الذي أصبح يلعبه العقل الرياضي في الكشف عن النظريات العلمية ابتداءا ودون أية تجارب سابقة. فالبناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعتبر مفتاحا لفهم الظواهر الطبيعية. وهذا ما يجعل العقل الرياضي هو المبدأ الخلاق في العلم، كما يجعل من العقلانية العلمية المعاصرة عقلانية مبدعة. وقد عبر إنشتين عن نزعته العقلانية بقوله: «إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع، كما كان يحلم بذلك القدماء».
2-2-        تصور رايشنباخ: المعرفة العلمية معقولة وليست عقلانية.
 تتميز المعرفة العلمية حسب رايشنباخ بأنها معقولة وليست عقلانية. فهو ينفي عنها صفة العقلانية التي تدل عنده على ذلك المذهب الفلسفي الذي يعتبر العقل وحده مصدرا للمعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة والتجربة، وينعتها بالمعقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة التجريبية التي تمدنا بها الملاحظة العلمية.
وهذا ما جعل رايشنباخ يرفض أن يكون العقل قادرا لوحده على إنتاج معرفة بالواقع الفيزيائي. ولذلك فهو ينتقد النزعة العقلانية الرياضية التي تعتقد أن للعقل قوة خاصة به يستطيع بواسطتها اكتشاف قوانين العالم الفيزيائي، ويرى أنها أقرب إلى النزعة الصوفية مادام أن القاسم المشترك بينهما هو استغناؤهما عن الملاحظة التجريبية، وانطلاقهما من رؤية حدسية وفوق حسية في بنائهما للمعرفة.
وعلى العموم فالملاحظة التجريبية عند رايشنباخ كفيلسوف وضعي هي المصدر الوحيد للمعرفة التركيبية المتعلقة بالواقع، أما دور العقل المنطقي والرياضي فيقتصر على القيام بوظيفة تحليلية لتلك المعرفة. من هنا فالمعرفة العلمية معقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على مادة الملاحظة، لكنها ليست "عقلانية" لأنها لا تعطي للعقل الأولوية في إنتاج المعرفة بل تمنح ذلك للملاحظة والتجربة.
2-3-        تصور غاستون باشلار: المعرفة العلمية هي نتاج حوار دائم بين العقل والتجربة.
يؤكد باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالفيزياء المعاصرة تتأسس في نظره على يقين مزدوج: الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع يوجد في قبضة العقل. أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. ومن هنا انتقد باشلار النزعة الاختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة هي مصدر بناء النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المنغلقة التي تصورت أن العقل قادر لوحده على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر باشلار أن بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين العقل والتجربة. هكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا بل منفتحا على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. من هنا ينعت باشلار فلسفته بالعقلانية المنفتحة وأيضا المطبقة، والتي تتم في إطار وعي غير معزول عن الواقع. لكن الواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناءا نظريا وعقليا.
وهكذا نستنتج أن العقلانية العلمية مخالفة تماما للعقلانية الكلاسيكية؛ إذ أنها لا تؤمن بثبات مبادئ العقل وإطلاقيتها، بل تقول بنسبيتها وضروة مراجعتها وإعادة النظر فيها انطلاقا من مستجدات الواقع العلمي الجديد.

3-        معايير علمية النظريات العلمية:

إن التساؤل حول معايير النظرية العلمية يفتح المجال مجددا للسجال بين النزعتين العقلانية والتجريبية حول تصورهما لأسس المعرفة، وأشكال التحقق من مدى صلاحيتها وقيمتها العلمية. فإذا كانت هناك مجالات معرفية متعددة، وإذا كان الواقع العلمي يختلف من حقل علمي إلى آخر، فإن إنتاج النظريات لا يتم وفق نفس المناهج ولا يخضع لنفس المنطلقات إذا ما انتقلنا من الرياضيات إلى الفيزياء، أو من الماكروفيزياء إلى الميكروفيزياء، أو من الفيزياء إلى البيولوجيا...، وهذا يدفعنا إلى التساؤل: هل يوجد معيار واحد نحدد من خلاله علمية النظرية وصلاحيتها في كل هذه المجالات العلمية أم أنه توجد معايير مختلفة ومتعددة؟ وأين تتحدد هذه المعايير؟ 
  3-1- تصور بيير دوهايم: معيار علمية النظرية هو قابليتها للتحقق التجريبي.                
يمثل دوهايم النزعة الوضعية التجريبية التي تؤكد على التجربة كمنطلق لبناء النظرية، كما تجعلها المعيار الوحيد لصحتها. هكذا يؤكد دوهايم على أن النظرية الصحيحة هي التي تعبر بدقة ووضوح عن مجموعة من القوانين التجريبية. لذلك فوظيفة النظرية الفيزيائية لا تكمن في تفسير الظواهر، مادام أن التفسير يحيلنا على مفهوم العلة أو المبدأ الميتافيزيقيين، بل تكمن في تقديم وصف للعلاقات الثابتة بين الظواهر الطبيعية. وتتجلى وظيفة الوصف هاته في احتواء النظرية على مبادئ تمثل بكيفية صحيحة مجموعة من القوانين التجريبية.
وهكذا فمعيار صلاحية النظرية هنا هو مبدأ التحقق التجريبي الذي يعبر عنه دوهايم بقوله: «إن الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة».
3-2-        تصور إنشتين: معيار صلاحية النظرية هو الانسجام المنطقي.
إذا كانت النزعة الوضعية مع دوهايم تحدد معيار صلاحية النظرية في مبدأ التحقق التجريبي، فإن نزعة إنشتين الرياضية العقلانية جعلته ينفي أن تكون التجربة هي المعيار الذي يحدد صدق النظرية العلمية؛ إذ لا يمكن في نظره اعتبار التجربة هي نقطة انطلاقنا في إنتاج معرفة حول الواقع، بل إن العقل الرياضي هو مفتاح فهم الظواهر الطبيعية.
وهكذا فالنتائج الخاصة بالنسق العلمي في الفيزياء النظرية يتم استنباطها منطقيا من المفاهيم والقوانين المكونة لها، وهذه النتائج المستنبطة عقليا هي التي يجب أن تتطابق معها تجاربنا وليس العكس. فالعقل هو الذي يمنح للنسق في الفيزياء النظرية بنيته، وعلى المعطيات التجريبية أن تكون مطابقة لنتائج النظرية التي تم التوصل إليها عن طريق الاستنباط المنطقي.
 إن تعقد الواقع العلمي هو الذي جعل للعقل مثل هذا الدور الخلاق في بناء النظريات العلمية، وغالبا ما تتطابق نتائج العقل الرياضي مع ما تؤكده التجربة، إلا أنه قد تفشل هذه الأخيرة في التحقق من صحة ما هو نظري، وهذا لا ينقص من قيمة كشوفات العقل بل قد يرجع إلى محدودية وسائلنا وأدواتنا في فهم الواقع. 
وهذا ما جعل إبيستملوجي ككارل بوبر يعتبر أن النظرية العلمية غير قابلة للتحقق التجريبي بشكل نهائي، وهذا سر علميتها، بل إنها قابلة دوما للتكذيب في أية لحظة.
3-3-        تصور كارل بوبر: معيار علمية النظرية هو قابليتها للتكذيب.
إن معيار علمية النظرية عند كارل بوبر هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب. هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات الكامنة فيها. ويرى بوبر أنه يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار، لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها. أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير قابلة للاختبار. وهذا أيضا هو الذي يميز النظريات العلمية عن أشباه النظريات العلمية كالماركسية أو التحليل النفسي مثلا.
 إن الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث عن وقائع تجريبية تكذبها.










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.