الجمعة، 28 سبتمبر 2018

الوعي

الوعي


    يعتبر الوعي خاصية جوهرية تميز الإنسان عن باقي الأشياء والكائنات الأخرى. فالوعي يصاحب كل أفعال الإنسان وأفكاره، وهذا ما يسمى بالوعي التلقائي. كما يرتبط الوعي بالشعور وبمجموع الأحاسيس التي تجري داخل الذات، وهذا ما يسمى بالوعي السيكولوجي. كما أن الوعي يتمظهر على مستوى الحياة العملية، فنتحدث عن وعي أخلاقي أو وعي سياسي مثلا. فللوعي عدة أشكال ومظاهر، غير أن الدراسات الفلسفية والنفسية وضعت الوعي موضع استشكال ونقد، واعتبرته غطاءا خارجيا لا يمثل سوى سطح الذات أو الجهاز النفسي، بينما يمثل اللاوعي الجزء العميق من الذات.
 فما هو الوعي؟ وما دور الحواس في تشكله؟ وما علاقته باللاوعي؟ ومن منهما يتحكم أكثر في أفعال الإنسان وأفكاره؟ وهل يقدم لنا الوعي صورة حقيقية عن أنفسنا وعن الواقع؟ 
1-   الوعي والإدراك الحسي:
لقد ذهب أب الفلسفة الحديثة روني ديكارت إلى أن الوعي حقيقة بديهية تدرك عن طريق الحدس العقلي، بحيث لا يرقى إليه الشك أبدا. كما اعتبره  خاصية أساسية وثابتة تميز الأنا كجوهر مفكر. فأنا أشك – يقول ديكارت-، وما دام الشك نوعا من التفكير، فأنا أفكر. وإذا كنت أفكر، فأنا موجود. ومن هنا صاغ ديكارت ما أصبح يعرف بالكوجيطو الديكارتي: أنا أفكر، فأنا موجود.                       
 وقد تساءل ديكارت: «أي شيء أنا إذن؟»(1) وأجاب: «أنا شيء مفكر.»(2) ثم أعقب ذلك بالتساؤل: «وما الشيء المفكر؟»(3)، وأجاب: «إنه شيء يشك، ويفهم ويتصور، ويثبت وينفي، ويريد ويتخيل، ويحس أيضا.»(4) فللأنا المفكر خصائص مثل الشك والتصور والتخيل والإحساس، وهذه الخصائص لا تنفصل عنه. كما يتميز الأنا المفكر بالوحدة والثبات؛ فبالرغم من أنه تصدر عنه عدة أفعال، فإنه يظل هو هو وفي تطابق مع نفسه.
   وإذا كان الأنا يفكر فهو موجود. وهذا الوجود هو وجود يقيني لا يرقى إليه الشك. فأنا موجود حتى في حالة النوم، وحتى في افتراض أن هناك قوة عليا تحاول أن تخدعني أو تضللني. ولذلك نجد ديكارت يتساءل مؤكدا: «فهل هنالك من ذلك كله شيء لا يعادل في صحته اليقين بأني موجود، حتى لو كنت نائما دائما وكان من منحني الوجود يبذل كل ما في وسعه من مهارة لإضلالي؟»(5) وما جعل ديكارت متأكدا من أنه موجود هو كونه يفكر، وهذا التفكير يتم داخل الذات ويعطيها إحساسا بوعيها وبوجودها، وهو وعي ووجود لا يتوقف على وجود الجسم أو الأشياء أو الأغيار، بل يستند فقط إلى الفكر العقلي الخالص الذي يجري داخل الذات المفكرة.
وبخلاف ذلك، نفى الفيلسوف التجريبي دفيد هيوم أن تكون هناك "ذات" أو "أنا" أو "نفس" قائمة بذاتها هي المسؤولة عن عمليات التفكير والوعي المختلفة، لأنني «عندما أتوغل في أعماق ما أسميه (أنا) أصطدم دائما بهذا الإدراك الخاص أو ذاك، بالحرارة أو بالبرودة، بالنور أو الظلام، بالحب أو الكراهية، بالألم أو اللذة.»(6) ولهذا فما يسمى بالأنا المفكر لا يعدو أن يكون جملة من الإدراكات الحسية، سواء الظاهرة أو الباطنة، والتي تتوالى في الزمن بحيث تعطينا إحساسا وهميا بأنه توجد لديا نفس قابعة في أعماقنا ومستقلة بذاتها‼ ذلك أنه لا يمكن للأنا حسب الفيلسوف التجريبي دفيد هيوم أن يعي ذاته  ويشعر بها من دون عملية إدراكية حسية. وبزوال الإدراك الحسي يزول الوعي بالذات، ولا يعود الأنا موجودا. فلا يمكن أن يحصل الوعي بالذات إلا من خلال الإدراك الحسي. بحيث يعتبر هذا الأخير شرطا أساسيا لوعي الأنا بذاته، وحيث أن الإدراك الحسي يزول بزوال الموت، فإنه يزول معه الوعي، فلا يعود الأنا موجودا، أي يغدو عدما خالصا. ولهذا نجد هيوم يقول: «فلو كانت جميع إدراكاتي قد زالت بالموت، وكنت لا أستطيع أن أفكر، ولا أن أحس، ولا أن أرى، ولا أن أحب، ولا أن أكره بعد تحلل جسمي، فإنني أكون قد غبت تماما، وأني لا أتصور شيئا أكثر من هذا ليجعل مني عدما بحتا.»(7)
ومهما يكن من اختلاف بين أنصار النزعة العقلانية وأنصار النزعة التجريبية، فإنهما يتفقان معا على أن الوعي خاصية أساسية تميز الإنسان ككائن عاقل. وقد رأى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن الإنسان يتميز عن الحيوانات والأشياء بقدرته على تصور ذاته ووعيه بها، وهو ما يجعله شخصا حرا، مسؤولا وذا كرامة لا تقدر بثمن. ويرتبط الوعي بالذات لدى الإنسان بالنطق بلفظ أنا، أو على الأقل امتلاك تصور عنها.
فلا يمكن الوعي بالذات إلا من خلال النطق بلفظ أنا، أو على الأقل امتلاك مدلول عنها؛ فحينما يبدأ الطفل بالنطق بلفظ أنا، فإنه ينتقل من الإحساس الحسي المباشر بذاته ليرتقي إلى مستوى التفكير فيها والوعي بها. فعندما يبدأ الطفل بتعلم الكلام، فإنه لا يتحدث بصيغة المتكلم إلا بعد مدة معينة من الزمن، وفي هذه الفترة الأولى لا يكون لديه وعي قوي ومستقل بذاته، أما «عندما يبدأ في النطق بكلمة "أنا"، فإن نورا جديدا يغمره؛ منذ تلك اللحظة فإنه لن يرجع إلى الصيغة الأولى لتعبيره عن نفسه. من قبل كان الطفل يحس بذاته إحساسا حدسيا حسيا مباشرا، والآن هو يدرك نفسه كذات تعي وتفكر.»(8) وهذا الوعي بالذات هو الذي يمنحها هويتها، أي يكسبها وحدتها وتميزها عن باقي الأشياء والكائنات. كما يمنح  الوعي للإنسان قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
 وقد قارن كانط بين الإنسان من جهة، والحيوانات والأشياء من جهة أخرى. وذلك من أجل إثبات أن الإنسان يتميز عنها بالخصائص الرئيسية التالية: العقل، الوعي، الحرية، المسؤولية والكرامة.
 كما قدم لنا ثلاثة أمثلة؛ يتعلق أولهما بذلك الإنسان غير القادر على النطق بالأنا، مثل الأبكم مثلا، نظرا لوجود مشكل في أعضاء النطق. وقد أراد أن يبين أنه بالرغم من ذلك، فإنه تظل لهذا الإنسان القدرة على امتلاك تصور لأناه، مما يؤهله لكي يكون كائنا واعيا. ويتعلق ثانيهما بمثال اللغات التي قد لا تتوفر على صيغة تعبيرية عن ضمير المتكلم أنا، لكنها مع ذلك تكون مضطرة إلى أن تتوفر على مدلول أو تصور أو فكرة عنه. أما المثال الثالث، فيتمثل في ذلك الطفل الذي لا يكون في بداية تعلمه للغة قادرا على الإشارة إلى نفسه بلفظ أنا، وحينما يبدأ بالنطق به فإنه ينتقل من مستوى الإحساس الحسي الغريزي إلى مستوى التفكير والوعي بالذات.
وإذا كانت المقاربات الفلسفية لظاهرة الوعي لدى الإنسان قد فسرته إما بربطه بالحواس والإدراكات الحسية، وبالتالي بالعالم الخارجي الذي تتلقى منه الحواس المعلومات والمعطيات الحسية، أو ربطته بالعقل وبالتأملات الفكرية التي تحدث داخل الذات أو الأنا، فإن دراسة الوعي والبحث فيها لم يظل حكرا على التأمل الفلسفي، بل أصبح يخضع للدراسات العلمية الدقيقة.
وفي هذا السياق، رفض العالم البيولوجي المعاصر جان بيير شونجو أن يكون الوعي موضوعا للدراسات اللاهوتية والأدبية، بل يجب تفسيره وإخضاعه للتجارب العلمية الدقيقة. و يري أن كل نشاط عقلي هوعبارة عن نشاط عصبي؛ فالحواس تتعرض إلي منبهات خارجية وتقوم بإرسالها إلى الجهاز العصبي الذي تقوم خلاياه، وبكيفية معقدة، بإحداث نشاط عقلي هو الذي يعبر عنه بما يسمى بالوعي. وهكذا يذهب شونجو إلى أن «كل نشاط عقلي، -كيفما كان، سواء كان تفكيرا، أو اتخاذا لقرار، أو انفعالا، أو شعورا أو وعيا بالذات- عبارة عن نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا، بحيث تكون خلايا عصبية محددة، هي التي تستجيب، أولا، لمنبهات خارجية. وقد أذهب أبعد من هذا، فأقول: ليس النشاط العقلي سوى النشاط العصبي.»(9)
وهكذا قدم لنا شونجو تفسيرا ماديا فزيولوجيا لمسألة الوعي، والذي يلعب الإدراك الحسي دورا كبيرا في إنتاجه. فالوعي هو نشاط عقلي مرتبط بخلايا الجهاز العصبي للدماغ ولا يمكن تصوره بدونه. كما أن النشاط العقلي هو نشاط  عصبي مشروط فيزيولوجيا؛ أي أنه مرتبط بوظائف خلايا الجهاز العصبي.
وقد اعتبر جون بيير شونجو أن العديد من الدراسات العلمية والتجارب النفسية والفيزيائية تؤكد الطابع المادي الذي تتميز به صور التفكير العقلي، مما يؤشر على ارتباط التفكير والوعي بالأنشطة الفيزيولوجية المعقدة لخلايا الدماغ، والتي ولا شك يرتبط عملها بالمعطيات الخارجية التي تمدها بها الحواس. ومن هنا، انتهى شونجو إلى تسطير فرضية أساسية عبر عنها كما يلي: «إن الصور العقلية هي موضوعات مادية محددة بفضل «خريطة» دينامية للخلايا العصبية وللسيالات العصبية التي تغذيها وتسري داخلها.»(10)
وإذا كان العديد من الفلاسفة والعلماء يؤكدون على ارتباط الوعي بعمل الحواس الخمس، فإن هذه الأخيرة بدورها ترتبط بالوسط الخارجي الذي يمدها بالمواد والعناصر التي تساهم في تشكيل وبلورة محتوى الفكر والوعي، ولذلك نجد ، مثلا، الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل (1872-1970) يربط الوعي بالعالم الخارجي، حيث اعتبر أن الوعي هو مجموع ردود أفعال الإنسان تجاه مثيرات الوسط الخارجي، ومعرفته بهذه الردود في نفس الوقت. لكن مع ذلك يعترف راسل بالغموض الذي يتخلل لفظ الوعي وصعوبة تحديده بدقة، حيث نجده يقول: «إنني لا أزعم، مما سبق عرضه، أنه تحليل كامل لما ندعوه بكلمة غامضة، هي "الوعي". إنها مشكلة شاسعة وتتطلب منا توضيحات وكتابات كثيرة. أردت فقط أن أشير، إلى أن ما يظهر لأول وهلة كمفهوم واضح في متناولنا، هو في الواقع عكس ذلك تماما.»(11)
 وإذا كان الوعي عند راسل هو عبارة عن ردود أفعال الإنسان تجاه الوسط الذي يعيش فيه، فإنه يشير عنده أيضا إلى نوعية الأفكار والعواطف التي نكونها عن أشياء العالم الخارجي. ويلعب الإدراك الحسي دورا أساسيا في تشكيل هذا الوعي، باعتبار أن الإدراك الحسي هو تكوين معرفة بأشياء العالم الخارجي عن طريق عملية التلقي التي تتم بواسطة الحواس من جهة، وعملية التأويل التي يقوم بها العقل من جهة أخرى. كما يتمظهر الوعي من ناحية أخرى من خلال عملية الاستبطان، الذي هو نوع من التأمل الباطني في  الذات من أجل إدراك ما تحمله من ذكريات وأفكار ومشاعر وخبرات سيكولوجية مختلفة.
2-   الوعي واللاوعي:
الوعي خاصية تميز الكائن البشري عن غيره من الحيوانات وأشياء الطبيعة. ويمكن القول باختصار بأن الوعي هو مجموع التمثلات والأفكار التي يحملها الإنسان حول ذاته وحول العالم المحيط به. وكما يرى هيجل فإن الإنسان كائن مزدوج الوجود؛ فهو يوجد وجودا طبيعيا من جهة، شأنه شأن باقي الحيوانات وأشياء الطبيعة، ووجودا من أجل ذاته، وهو الوجود الواعي الذي يمكن الإنسان من تأمل ذاته والتساؤل حول العالم المحيط به. وهذا التأمل في الذات والتفكير فيها وفي العالم هو ما يسميه هيجل "بالوجود من أجل الذات، وهو  وجود يجعل الإنسان يرتقي من مستوى الوجود الحسي والغريزي إلى مستوى الوجود العقلي والفكري الواعي. وهكذا، ف «أشياء الطبيعة لا توجد إلا وجودا مباشرا وبكيفية واحدة، أما الإنسان فإن له، إذ هو روح، وجودا مزدوجا: فهو يوجد من جهة مثل أشياء الطبيعة، ولكنه من جهة أخرى يوجد من أجل ذاته، يتأمل ذاته ويتمثلها ويفكر في ذاته. إنه لا يكون روحا إلا بهذا النشاط الذي يشكل وجودا لذاته.»(12)
ويتخذ الوعي لدى الإنسان صورتين رئيسيتين؛ صورة نظرية تتمثل في الإبداعات العقلية التأملية النظرية، وصورة عملية تتمثل في أشكال التغيير التي يرسمها الإنسان في العالم وفي ذاته عن طريق ما يقوم به من أنشطة عملية.
ونميز عموما بين عدة أنواع من الوعي؛ كالوعي الأخلاقي، والوعي السيكولوجي، والوعي المعرفي، والوعي السياسي… فالأول يدل على مجموع المبادئ والقيم الأخلاقية التي يؤمن بها الإنسان ويحملها في ذاته ويتخذها موجها له في سلوكاته تجاه الآخرين، بينما يدل الثاني على مجموع الخبرات السيكولوجية التي يحملها الإنسان في جهازه النفسي والتي تنمو وتتطور مع الزمن، أما الثالث فيشير إلى أفكار وقواعد تتعلق بهذا الحقل الفكري أو ذاك….
أما فيما يخص مفهوم اللاوعي فهو يدل على جملة الدوافع الغريزية والميولات المختزنة في أعماق الجهاز النفسي، والتي تتمظهر حسب فرويد في الأحلام والنكت وفلتات اللسان وزلات القلم والإبداعات الأدبية والفنية
ويعتبر سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي ومبتكر نظرية اللاشعور، أن اللاوعي هو المنطقة النفسية الأكثر عمقا والتي تحتل المساحة الأكبر في الجهاز النفسي، وهي تمثل حقيقة الإنسان أكثر مما يمثلها الوعي. ولذلك، ف «من الواجب أن نفترض أن اللاشعور هو الأساس العام للحياة النفسية. فاللاشعور هو أوسع منطقة تضم بين جوانبها منطقة الشعور التي هي أضيق نطاقا... فاللاشعور هو الواقع النفسي الحقيقي، وهو في طبيعته الباطنة مجهول عندنا، نجهله قدر جهلنا بحقيقة العالم الخارجي، كما أنه لا يمثل لنا بواسطة معطيات الشعور إلا مثولا ناقصا على نحو ما يمثل العالم الخارجي بواسطة رسائل أعضائنا الحسية.»(13)
ويمارس الوعي نوعا من الرقابة على الدوافع والنزوعات الصادرة عن اللاوعي؛ فيقوم بكبتها أو الإعلاء من شأنها أو إخراجها في صور مفنعة لا تجعل الفرد يصطدم بالعالم الخارجي.
وعلى العموم فالعلاقة بين الوعي واللاوعي، بين العقل واللاعقل هي علاقة معقدة ومتشابكة.
وإذا كانت الفلسفة الكلاسيكية قد اعتبرت الإنسان وعيا بالدرجة الأولى، فإنها قد أغفلت الجوانب اللاواعية في الإنسان، وهو ما سيتم الانتباه إليه في الفلسفة والعلوم الإنسانية المعاصرة. وفي هذا السياق، عمل المحلل النفسي والفيلسوف سيغموند فرويد على الدفاع عن فرضية اللاشعور كفرضية ضرورية ومشروعة. وهكذا اعتبر فرويد أن هناك الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا يمكن تفسيرها انطلاقا من الوعي، بل هي صادرة عن دوافع لاواعية. وهذا ما يجعل فرضية اللاوعي ضرورية ومشروعة، خصوصا وأن الممارسة الطبية النفسية أثبتت نجاحها ومشروعيتها. ويدل اللاوعي على ذلك الجانب العميق والخفي في الجهاز النفسي، والذي يحتوي على دوافع ورغبات غريزية ومكبوتة. وتجد تلك الدوافع اللاواعية تجليات لها في عدة مظاهر، من بينها فلتات اللسان وزلات القلم والهفوات والأحلام والإبداعات الأدبية والفنية ...   كأشكال تعبيرية  تتيح لتلك الدوافع والرغبات العميقة أن تطفو إلى السطح وتعبر عن نفسها بكل حرية.
وقد قدم فرويد مجموعة من الحجج لإثبات مشروعية فرضية اللاوعي؛ منها أن معطيات الوعي ناقصة ولا يمكنها تفسير وفهم الكثير من الأفعال النفسية كالهفوات والأحلام مثلا، «فغالبا ما تحدث لدى الإنسان – السليم والمريض على حد سواء – أفعال نفسية يفترض تفسيرها أفعالا أخرى لا يشهد لها الوعي بالوجود.»(14) كما تثبت التجربة اليومية أن هناك العديد من الأفكار التي تخطر على ذهن الإنسان دون أن يكون مصدرها هو الوعي، فإذن لا يمكن أن تكون صادرة إلا عن دوافع لاواعية. «وإذا ما ظهر لنا إضافة إلى ذلك أن بوسعنا أن نؤسس على فرضية اللاشعور ممارسة يحالفهاالنجاح، ونؤثر بواسطتها –وفقا لهدف معين- في مجرى العمليات الواعية؛ فإننا آنئذ سوف نكتسب، بهذا النجاح، حجة دامغة على وجود ما افترضناه.»(15) ومن هنا، فإن فرضية اللاوعي هي فرضية مشروعة لأن التجربة العلمية أكدت نجاحها على مستوى علاج الكثير من الأمراض النفسية.  
ونحن نجد أن فرويد يمنح الأسبقية للاشعور في تفسير الأنشطة الصادرة عن الجهاز النفسي؛ فالجزء الأكبر في هذا الجهاز تحتله الدوافع اللاشعورية التي تقف وراء معظم أفعال الإنسان وإبداعاته الفكرية والفنية.
ويتكون الجهاز النفسي حسب فرويد من الهو والأنا والأنا الأعلى. فالهو هو أصل الجهاز النفسي، ويمثل الرغبات الغريزية التي تهدف إلى تحقيق اللّذة الحسية. كما أنه لاعقلي، لاشعوري، لامنطقي، لازماني ولامكاني، أي لا يقيم اعتبارا لا لمبادئ العقل والمنطق والأخلاق، ولا لمقتضيات الزمان والمكان والواقع، أثناء تحقيقه لرغباته الغريزية. أما الأنا فينشأ عن اصطدام رغبات الهو بالواقع، ويمثل منطقة الصراع في الجهاز النفسي حيث يقوم بوظيفة أساسية، هي التوفيق بين الرغبات اللامعقولة للهو والأوامر المثالية للأنا الأعلى. وإذا كان الأنا يتحكم فيه مبدأ الواقع، فإن الأنا الأعلى  يمثل مبدأ المثال؛ إذ تتحكم فيه مجموعة من القيم الأخلاقية العليا (الضمير الأخلاقي)، وهو ينشأ عن تقمص الطفل للأوامر العليا لوالديه أو لمن يعتبرهم  قدوة بالنسبة إليه.
وإذا كان الوعي هو معرفة مباشرة بالحالات النفسية، ومجاله هو مجموع العواطف والأفكار والصور التي تؤسس الحياة العقلية لكل فرد، فإن اللاوعي هو جانب عميق في الحياة النفسية يتكون من الميولات والرغبات المكبوتة، والتي تعبر عن نفسها في النكت وزلات القلم وفلتات اللسان والأحلام ... ذلك أن الحلم هو تعبير رمزي عن رغبات لاشعورية يصعب تحقيقها في الواقع نظرا لرقابة الأنا والأنا الأعلى، فيحتال عليهما الهو ليلا أو نهارا لكي يحقق رغباته في غفلة منهما!! وتفصح الرغبات اللاشعورية عن نفسها أثناء الحلم بكيفية مقنعة ومرموزة. ولذلك اعتبر فرويد بأن "الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور"!! كما ذهب إلى أن الفوضى الظاهرة في الحلم ليست إلا شيئا ظاهريا لا يلبث أن يختفي حينما نمعن النظر في الحلم، فليست «اللامعقولية [التي تبدو في الحلم] إلا شيئا ظاهرا، لا تلبث أن تختفي حين نقرب النظر إلى الحلم.»(16)
وإذا كان فرويد قد أكد على دور اللاوعي في توجيه سلوكات الإنسان، فإننا نجد بعض الفلاسفة ينتقدون فكرة اللاوعي هذه ويحاولون من جديد إعادة الاعتبار لدور الوعي في صدور مختلف الأفعال والمواقف عن الإنسان ككائن مفكر وعاقل وواع. وفي هذا السياق، يمكن أن نشير إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان (إميل شارتيي) الذي يرفض فكرة فرويد القائلة بأن اللاشعور هو الذي يتحكم في الذات، ويقول على العكس من ذلك بأن أفكارنا وسلوكاتنا هي نتائج للوعي؛ أي لللذات الإنسانية الفاعلة والمتكلمة.
وهكذا نجد ألان يعتمد في كتاباته على أسلوب سجالي، يحاول من خلاله أن ينتقد مفهوم اللاشعور كما قدمه علم النفس الفرويدي. فلفظ اللاشعور في نظره هو من نسج خيال فرويد، إنه شخصية أسطورية، كما أنه من الصعب تحديده وفهمه على نحو دقيق. فكل وعي أو شعور هو عقلي ومفكر فيه من قبل العقل الواعي.
وقد اعتبر ألان أن علامات الأحلام عادية ويمكن تفسيرها انطلاقا من نظام رمزي وسهل، وهذا بخلاف فرويد الذي يذهب إلى أن الأحلام  ذات رمزية ملتوية ومعقدة. ويرفض ألان أن يكون اللاشعور أنا آخر، لأن كل أفكارنا وسلوكاتنا هي  نتاج لإرادة صادرة عن الذات الواعية والفاعلة والمتحكمة. ولذلك «لا بد من تجنب الكثير من الأخطاء التي قامت على أساس لفظ اللاشعور. ومن أخطر هذه الأخطاء الاعتقاد أن اللاشعور هو أنا آخر، أي أن له أحكام مسبقة، وأهواؤه وحيله، ملاك شرير أو ناصح شيطاني. إن ما ينبغي فهمه –كرد على ذلك- هو أنه لا توجد فينا أفكار سوى ما تمنحنا إياه الذات الفاعلة، أي الشخص المتكلم.»(17)
وإذا تم اعتبار الإنسان في الفلسفة الكلاسيكية وعيا،  وتم اعتبار أن وعيه هذا هو السمة الأساسية المميزة له عن باقي الكائنات، بحيث تم النظر إلى الوعي باعتباره المصدر أو الأساس الذي تنبني عليه كل الحقائق، وتفسر من خلاله كل السلوكات البشرية، فإن أبحاث فرويد في مجال علم النفس أدت إلى اكتشاف اللاوعي أو اللاشعور، بحيث ثم اعتباره أساس الحياة النفسية وأنه يحتل الحيز الأكبر في الجهاز النفسي، وما الوعي سوى الجزء الضئيل الذي يتواجد على سطح هذا الجهاز. واعتبر فرويد أن معظم سلوكات الإنسان، وأشكال وعيه  بذاته وبالعالم، صادرة عن دوافع لاشعورية تجد تجلياتها في الأحلام والنكت وفلتات اللسان، وفي الإبداعات الفنية والأمراض النفسية والأساطير.
 وإذا كان فرويد قد ركز كثيرا على الوعي في جانبه الفردي، فإننا نجد غوستاف لوبون يحدثنا عن لاوعي جماعي يهيمن على الحياة النفسية أكثر من الوعي.  وهكذا اعتبر غوستاف لوبون (1841-1931) أن «أفعالنا الشعورية تنبثق من بنية لاشعورية مكونة بالأساس من تأثيرات وراثية، وهذه البنية تشتمل على عدد لا حصر له من بقايا الماضي العتيق الذي يشكل روح العرق.»(18) وهو الأمر الذي يجعل اللاوعي أو اللاشعور يتخذ طابعا جماعيا من خلال ارتباطه بروح العرق؛ أي بماضي الجماعة الثقافي والفكري الذي يتوارث جيل عن جيل ويتحكم في الأفراد بشكل لاواعي، ويتمظهر في سلوكاتهم وطقوسهم الإجتماعية.
 وروح العرق هو مجموعة من العناصر الثقافية والسيكولوجية التي تميز سلاسة أو عرق معين، وتتوارث جيل عن جيل، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا باللاشعور مادام أن هذا الأخير يتكون من عناصر وراثية تشكل روح العرق التي تتميز بها جماعة ما. فأفعال الإنسان حسب غوستاف لوبون صادرة عن دوافع لاشعورية تتكون من عناصر وراثية تعود إلى ماضي السلاسة والعرق، وهي عناصر وراثية ثقافية تترسخ لدى الأفراد مع مرور الزمن من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية. فالعناصر اللاشعورية تتشابه بين كل أفراد العرق الواحد، كالغرائز والانفعالات والمعتقدات المستبطنة ... إذ بالرغم من وجود تفاوت في المستوى الفكري والثقافي بين عالم مشهور وصانع أحذية مثلا، فإنهما يتشابهان في الصفات العامة التي يشترك فيها أفراد العرق الواحد كالمزاج والأحاسيس والاعتقادات؛ «ففي الروح الجماعية تنتفي الاستعدادات العقلية للأفراد كما تنتفي فردانيتهم، ويذوب التضافر في الانسجام، وتسود خصائص اللاشعور وتسيطر.»(19)
3-   الوعي والإيديولوجيا:
إذا كان الإنسان يعبر من خلال الوعي عن ذاته وعن العالم المحيط به، فهل بإمكان الوعي أن يمنحنا صورة حقيقية عن ذواتنا وواقعنا؟ ألا تتدخل الإيديولوجيا والوهم في تزييف الوعي وقلب صورة الواقع؟ وهل كل ما يقدمه لنا العقل حقيقي؟ ألا يمكن أن تحيط به مجموعة من الأوهام؟ وما هي أهمها؟
يمكن في هذا الإطار أن نقدم موقف فرنسيس بيكون، الذي يرى أن العقل لا يقدم لنا دائما صورة حقيقية عن الواقع وعن أنفسنا، فهو غالبا ما يكون محاطا بكثير من الأوهام، اختصرها بيكون في أربعة أنواع؛ «هي أوهام القبيلة، وأوهام الكهف، وأوهام السوق وأوهام المسرح.
1- الأوهام العامة المشتركة بين الناس أو أوهام القبيلة، هي أوهام مباطنة للطبيعة البشرية ولقبيلة بني الإنسان أو لجنسه...  
2- الأوهام الذاتية أو أوهام الكهف، وهي الأوهام الخاصة بكل فرد. إذ أن لكل فرد كهفه الخاص ...
3- أوهام الجماعة تنشأ عن العلاقة مع الناس وعن تواصلهم فيما بينهم. وتسمى أوهام السوق لأنها تتعلق بالتجارة وتجمع الناس مع بعضهم وتواصلهم باللغة...
4- الأوهام المذهبية أو أوهام المسرح هي أوهام تسللت إلى عقول الناس من المعتقدات المختلفة للمذاهب الفلسفية الخاصة، ومن قواعد الاستدلال التي يساء استعمالها...»(20)
وهكذا فالأوهام الأولى هي أوهام القبيلة التي هي أوهام عامة ومشتركة بين جميع الناس، لأنها ملازمة للطبيعة البشرية ومتأصلة فيها، والثانية هي أوهام الكهف التي هي أوهام ذاتية وخاصة بكل فرد، لأنها ناتجة عن تجارب الفرد وقراءاته وارتباطه بشخصيات نموذجية، والثالثة هي أوهام السوق التي تنشأ عن العلاقات التجارية بين الناس، وتنتج عن تجمع الناس وتواصلهم بواسطة اللغة كمنشإ للأوهام، أما النوع الرابع فيتمثل في أوهام المسرح التي ترتبط بالمعتقدات والمذاهب الفلسفية، كما تنتج عن قواعد الاستدلال التي يساء استعمالها.
وقد شبه فرنسيس بيكون الأوهام العامة بأوهام القبيلة لأنها تتعلق بالجنس البشري ككل، وشبه الأوهام الذاتية بأوهام الكهف لأن داخل ذات كل فرد يوجد عالم غامض وعميق (اللاوعي) شبيه بظلام الكهف. كما شبه أوهام الجماعة بالسوق لأنها تتعلق بالتجارة وبتواصل الناس بواسطة اللغة، وشبه الأوهام المذهبية بالمسرح نظرا لأن كل مذهب له طقوسه ومشاهده، وأدوار موزعة داخله شبيهة بما يحدث على خشبة المسرح.
كما شبه بيكون العقل البشري بالمرايا المتراتبة، لأن كلا منهما يقدم صورة مشوهة عن الواقع ويغير من شكل الأشياء. كما شبه المذاهب الفلسفية بالمسرحيات، لأن كلا منهما تخلق في الذهن عوالم وهمية.
كما يعبر العقل أيضا عن أوهامه من خلال الإيديولوجيا، التي تمارس وظائفها حسب بول ريكور من خلال ثلاث آليات؛ أولاها تتمثل في تشويه الواقع وإعطاء صورة معكوسة عنه حيث «ينطلق الاستعمال الأول لمعنى الإيديولوجيا، كاختلال وتشويه للواقع، وهو المعنى الشائع لكلمة إيديولوجيا الذي انتشر بين العموم، بفضل كتابات ماركس ... حاول ماركس بصفة ملحوظة أن يفهم الآخرين المعنى الذي كان يقصده باستعماله للمفهوم. فقد وظف استعارة القلب كما تتم داخل العلبة السوداء، وهي نقطة البداية في عملية التصوير الفوتوغرافي. منذ ذلك الحين أصبحت الوظيفة الأولى للإيديولوجيا هي إنتاج صورة معكوسة عن الواقع ... إنه الرابط الذي أسسه ماركس بين تمثلات الوعي وواقع حياة الناس الذي سماه بالممارسة. ستعني الإيديولوجيا إذن العملية الفكرية العامة التي بواسطتها تعمل التمثلات  الخيالية على تشويه حياة الناس الواقعية...»(21)
والثانية تتمثل في تبرير الأوضاع القائمة حيث تعمل الطبقة المسيطرة على إعطاء مبررات لأفكارها، وإضفاء المشروعية على مخططاتها ومشاريعها. و «ترتبط هذه الوظيفة عندما تتحول أفكار الطبقة المسيطرة في المجتمع إلى أفكار مهيمنة تدعي الكونية والشمولية.»(22)
أما الآلية الثالثة فتتمظهر من خلال إدماج الأفراد في هوية الجماعة حيث يتم الاحتفال بالأحداث المؤسسة لهذه الهوية ومحاولة ترسيخها لدى الأفراد، و تكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية.
وقد اعتبر بول ريكور أن وظيفة الإدماج هي آلية أعمق وأشمل من الوظائف الأخرى؛ لأن وظيفة الإدماج تتضمن في طيّاتها وظيفة التبرير؛ ذلك أنه لكي تدمج الأفراد في إيديولوجيا معينة يجب بالضرورة أن تقدم لهم تبريرات تسهل عملية إدماجهم، أما إنتاج الوهم فهو ناتج عن فساد يصيب عملية التبرير،  أي أن التبرير حينما لا يكون معقولا يلتجئ إلى الأوهام والأساطير التي تقدم لنا صورة معكوسة عن الواقع الحقيقي.
وهكذا تظهر الإيديولوجيا كنسق من الأفكار والتمثلات التي تحملها جماعة ما حول العالم، والتي لا تعكس موضوعيا الشروط الواقعية لحياة الناس. كما تقوم الإيديولوجيا بوظيفة تبرير ما يجري على أرض الواقع من سياسة متبعة، وهي بذلك تعمل على فرض نظام سياسي شمولي يعبر عن  سلطة كليانية للدولة، تفرض مشاريعها بالقوة عن طريق زرع الرعب في أفراد الجماعة .
و حينما تقوم الإيديولوجيا بوظيفة الإدماج، فإن الهدف الأساسي من ذلك هو تشكيل هوية خاصة بالجماعة، وجعل الأفراد ينخرطون داخلها ويستبطنون مقوماتها الأساسية،  ويتم ذلك من خلال إشراكهم في إحياء الأحداث المؤسسة للهوية الجماعية وتخليد ذاكرتها التاريخية.
وقد استشهد بول ريكور بالفيلسوف الألماني كارل ماركس الذي استخدم الإيديولوجيا بمعنى إنتاج صورة معكوسة عن الواقع، كما اعتبر الإيديولوجيا بمثابة العلبة السوداء، ذلك بأن الإيديولوجيا تقوم بقلب الواقع مثلما تقوم العلبة السوداء بقلب أشياء الواقع في عملية التصوير الفوتوغرافي. وهو ما جعله يخرج باستنتاج، مفاده أن الإيديولوجيا هي تصورات عقلية وفكرية لا تعكس حقيقة الناس الواقعية.
ولتوضيح الوظائف الثلاث للإيديووجيا، قدم لنا ريكور أمثلة من الواقع الاجتماعي والتاريخي؛ حيث قدم لنا مثال "السلطة الكليانية" كنظام سياسي تتجلى فيه الوظيفة التبريرية للإيديولوجيا. كما قدم لنا مثال "الاحتفال بإحياء الأحداث التاريخية والسياسية لجماعة ما"، وذلك من أجل توضيح االوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا. وقد اعتبر بول ريكور بأن وظيفة الإدماج هي أهم وظيفة تقوم بها الإيديولوجيا،  لأنها تتضمن في طياتها الوظيفتين السابقتين.
وفي سياق الحديث عن علاقة الوعي بالواقع الاجتماعي، رفض كارل ماركس أن يكون الوعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي، ورأى على العكس من ذلك بأن مختلف أشكال الوعي، من أفكار وأخلاق وتصورات وإيديولوجيا وثقافة روحية، هي انعكاسات للحياة العملية والمادية. فالناس ينشئون أفكارهم وتصوراتهم وهم يخوضون غمار الصراع المادي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث أن  نوعية هذا الصراع ودرجة حدته هو ما يفرز لنا أفكارا وأشكالا من الوعي المختلفة، «ومن ثمة فإن الأخلاق والثقافة الروحية والميتافيزيقا، وكل ما تبقى من الإيديولوجيا، وكذا أشكال الوعي المقابلة لها، تفقد مباشرة كل مظهر للاستقلال الذاتي. فكلها ليس لها تاريخ مستقل وتطور مستقل؛ بل على العكس، فالناس هم الذين يعدلون ويطورون أفكارهم من خلال عملية الإنتاج المادي التي يقومون بها وخلال العلاقات المادية التي تنشأ بينهم.»(23) ومن هنا، فالوعي هو مجموع من الأفكار والتصورات العقلية، وكذا الخبرات السيكولوجية التي تجري في الذات، والتي هي نتاج للعلاقات المادية والاجتماعية.
وقد اعتبر كارل ماركس أن هناك علاقة وطيدة بين الوعي كأفكار وتمثلات وإيديولوجية من جهة، والحياة المادية الاجتماعية من جهة أخرى. وذهب إلى أن الحياة المادية هي التي تحدد الوعي وليس العكس. غير أن الإيديولوجية في نظره تقلب الواقع ولا تقدم صورة حقيقية عنه. من هنا رأى ماركس أن الوعي ليس هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي بل إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي. وهذا ما يجعل أن كل أشكال الوعي من أفكار وتمثلاث دينية وأخلاقية وميتافيزيقية...هي تجلي وانعكاس للحياة المادية.
ويبرز ماركس أن العلاقة بين الوعي والسلوك المادي تشبه العلاقة بين الإنتاجات الفكرية، سواء كانت قانونية أو أخلاقية أو دينية أو غيرها، والسلوك المادي للبشر؛ إذ يعتبر هذا الأخير هو المحدد سواء لأشكال الوعي المختلفة أو للإنتاجات الفكرية في مجالات الدين والأخلاق والقانون... وقدم لنا ماركس مثال الغرفة السوداء لآلة التصوير، لكي يوضح لنا أن الناس يبدون مقلوبين في الإيديولوجيا مثلما أن الأشياء تبدو مقلوبة في الغرفة السوداء لآلة التصوير. كما قدم لنا مثال شبكية العين، لكي يبين لنا أن الواقع الاجتماعي المادي ينعكس على مستوى الأفكار الإيدلولوجية مثلما تنعكس الأشياء على شبكية العين، فالظاهرة الأولى تاريخية وثقافية في حين أن الظاهرة الثانية بيولوجية وطبيعية. وقد أكد ماركس على أن الثقافة الشعبية بما تخلقه من حكايات وأساطير وأفكار وهمية هي أيضا ناتجة عن الحياة المادية للناس، مثلها في ذلك مثل الأفكار و التمثلات الواعية.
وإذا كانت الإيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار والتمثلات التي تعبر عن وعي زائف يقلب الواقع ولا يقدم صورة حقيقية عنه، فهل ترتبط بالوعي فقط؟ ألا يمكن القول أنها تكون أحيانا تعبيرا عن دوافع ومكونات لاواعية؟
في إطار الإجابة عن هذا الإشكال، اعتبر لويس ألتوسير أن «الإيديولوجيا ليست شذوذا، أو شيئا زائدا عرضيا في التاريخ، إنها بنية جوهرية أساسية للحياة التاريخية للمجتمعات، وإن وجودها والاعتراف بضرورتها هما وحدهما اللذان يسمحان بالتأثير على الإيديولوجيا وجعلها وسيلة واعية فعالة في التاريخ.»(24) ومن هنا، فهو يرى أن الإيديولوجيا بنية جوهرية في تاريخ المجتمعات البشرية، وأنها عبارة عن مجموعة من الصور والتمثلات والتخيلات التي تعبر عن معاناة الناس بظروف عيشهم، وتفرض نفسها عليهم كبنيات ووفقا لعمليات يجهلون مدلولها. كما تعبر الإيديولوجيا عن آمال وحنين الناس لمجتمع أفضل. وبذلك فهي لا تعكس الواقع الحقيقي للناس، بل تقدم صورة وهمية عنه.
ويرى ألتوسير أنه « يجري القول عادة بأن الإيديولوجيا تنتمي إلى منطقة الوعي. علينا ألا ننخدع بهذه التسمية التي تظل حاملة لآثار الإشكالية المثالية السابقة على ماركس. ففي حقيقة الأمر إن الإيديوولجيا لا يربطها بالوعي إلا رباط واه. هذا مع تسليمنا بأن لفظ الوعي ذاته له مدلول واحد بعينه. إن الإيديولوجيا في جوهرها لاواعية حتى وإن تبدت لنا (كما هو الأمر في الفلسفة الماركسية) في شكل واع.»(25) وهكذا، يعترض ألتوسير على التصور الذي يرى أن الإيديولوجيا زائدة وعرضية في التاريخ، ويعتبر على العكس من ذلك بأنها متجذرة وجوهرية في تاريخ المجتمعات البشرية. كما يدحض ألتوسير أطروحة ماركس التي تقول إن الإيديولوجيا هي تمثلات واعية وصادرة عن الوعي، ويقول خلافا لذلك إنها في جوهرها عبارة عن صور وخيالات تفرض نفسها على الناس بكيفية لاواعية. ويستنتج ألتوسير بأن الإيديولوجيا، كصور وخيالات وتمثلات، تعبر عن معاناة الناس وعلاقتهم بظروف عيشهم. فهي علاقة مركبة من الدرجة الثانية؛ ذلك أن الإيديولوجيا لا تعبر عن العلاقة الحقيقية للناس بظروف عيشهم، بل تعبر عن تصورات وتخيلات عن هذه العلاقة. ولذلك فالإيديولوجيا تقدم لنا صورة وهمية خيالية تعبر عن رغبة وطموح الإنسان إلى عالم أفضل أكثر مما تعبر عن واقع حقيقي فعلي.
إن الإيديولوجيا حسب ألتوسير هي عبارة عن صور وخيالات تعبر عن علاقة الناس بعالمهم، وهي في الغالب تقدم صورة وهمية عن الواقع الحقيقي للناس. وهذا ما يجعل العلاقة بين الإيديولوجيا والواقع علاقة لاواعية في جوهرها، فهي علاقة مركبة أو علاقة من الدرجة الثانية؛ ذلك أن الإيديولوجيا لا تعبر عن العلاقة الحقيقية للناس بظروف عيشهم، بل تعبر عن تصورات فكرية عن هذه العلاقة. ولذلك فالإيديولوجيا تقدم لنا صورة وهمية خيالية تعبر عن رغبة وطموح الإنسان إلى عالم أفضل أكثر مما تعبر عن واقع حقيقي فعلي، فهي لا تعبر عن العلاقة الحقيقية للناس بظروف عيشهم، بل تعبر عن تأويلات وقراءات فكرية تصور عالما ممكنا ووهميا أكثر مما تصف واقعا فعليا وحقيقيا، «ففي الإيديولوجيا تندرج العلاقة الحقيقية داخل العلاقة الوهمية: تلك العلاقة التي تعبر عن إرادة أو أمل وحنين أكثر مما تصف واقعا معينا.»(26)
وحينما يعترض ألتوسير على الأطروحة التي تربط الإيديولوجيا بالوعي فقط، فلأنه يعتبرها سجينة للإشكالية المثالية السابقة على ماركس، والتي هي إشكالية تستحضر فقط الوعي والواقع وتعمل على إقصاء دور اللاوعي في تحديد الأفكار والممارسات البشرية. وهذا ما جعل ألتوسير يعتبر أن التمثلات الإيديولوجية تفرض نفسها على الناس انطلاقا من عمليات خفية لاواعية، يجهلون مدلولها في الغالب!!
وبالرغم من تأكيد الكثير من العلماء والفلاسفة على دور اللاوعي في تحديد مواقف الإنسان وأفعاله، فإنه يمكن الإشارة مع الفيلسوف الفرنسي ألان (إميل شارتيي) إلى ضرورة «تجنب الكثير من الأخطاء التي قامت على أساس لفظ اللاشعور. ومن أخطر هذه الأخطاء الاعتقاد أن اللاشعور هو أنا آخر، أي أن له أحكام مسبقة، وأهواؤه وحيله، ملاك شرير أو ناصح شيطاني. إن ما ينبغي فهمه –كرد على ذلك- هو أنه لا توجد فينا أفكار سوى ما تمنحنا إياه الذات الفاعلة، أي الشخص المتكلم.»(27) ومن هنا رفض ألان أن يكون اللاشعور أنا آخر،  بل إن كل أفكارنا وسلوكاتنا هي  نتاج لإرادة صادرة عن الذات الواعية الفاعلة والمتحكمة.
ويمكن القول مع الفيلسوف الفرنسي إريك فايل (1904-1972) بأن الوعي يلعب دورا مهما في إعطاء معنى لوجود الإنسان في هذا العالم؛ حيث أكد فايل على أن الوعي هو أساس وجود الإنسان،  وبدون هذا الوعي المؤسس لا يوجد معنى بالكل. كما أن التفكير في المعنى هو من اختصاص الفلسفة وليس من اختصاص العلم.

هوامش

1- ديكارت، التأملات، التأمل الثاني، ترجمة عثمان أمين، مكتبة الأنكلومصرية، الطبعة الثانية 1974، ص:103.
2- نفسه.
3- نفسه.
4- نفسه.
5- نفسه.
6- دفيد هيوم، منقول من "المختار من النصوص"، اختيار وتعريب محمود يعقوبي، مكتبة الشركة الجزائرية، 1972، ص:65.
7- نفسه، ص:66.
8- Kant, Anthropologie du point de vue pragmatique, livre 1, P 9, trad. M.Foucault, Vrin, 1994, (2éme Edition)
عن
 J.Russ , les chemins de la pensée, Bordas, 1999, p 303     
9- جون بيير شونجو، مانيار، نصوص فلسفية، بدون تاريخ، ص 69. عن: مقرر "في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، الشعب العلمية ... طبعة 2006، ص: 14.
10- نفس المصدر والصفحة.
11- برتراند راسل، علم ودين، غاليمار 1957 ص: 130. عن: مقرر "في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، الشعب العلمية ... طبعة 2006، ص: 15..
12- فريديريك هيجل، الاستطيقا، مختارات، المنشورات الجامعية الفرنسية 1953، ص:21. عن المقرر الدراسي "الفكر الإسلامي والفلسفة"، الثانية الثانوية الأدبية، طبعة 1999-2000، ص:52.
13- سيغموند فرويد، تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان، دار المعارف بمصر، بدون تاريخ، ص: 594-595. 
 14- Freud, Métapsychologie, Trad.Laplanche et Pontalis, Gallimard, Coll..Idéés, 1968. Pp.66-67.
عن مقرر "منار الفلسفة" للسنة الأولى بكالوريا بالمغرب، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007م، ص.16.
15- نفسه.
16- سيغموند فرويد، تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان، دار المعارف بمصر، ط2، 1969، ص: 425.
17- ألان، مبادئ الفلسفة، غاليمار 1985، ص 155. عن: مقرر "في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، طبعة 2006، مسالك الشعب العلمية..، ص 19.
18- Gustave Le Bon, psychologie des foules, PUF, 1971, p.12.
19- نفس المصدر والصفحة.
20- فرنسيس بيكون، الأورغانون الجديد، عن: حبيب الشاروني، فلسفة فرنسيس بيكون، دار الثقافة الدار البيضاء، 1981، ص: 124-126.
21- بول ريكور، من النص إلى الفعل: أبحاث في الهرمينوطيقا، طبعة سوي، 1986، صص 419-426 عن: مقرر "في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، طبعة 2006، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، ص 20.
22- نفسه.
23- Karl Marx, L’idéologie allemande, éd. Sociales, Paris, 1982, p. 78
24- Louis Althusser, Pour Marx, F.Maspero, Paris, 1972 , pp. 238-240.
عن دفاتر فلسفية، العدد 8، ص: 9-10.
25- نفسه.
26- نفسه.
27- ألان، مبادئ الفلسفة، غاليمار 1985، ص 155. عن: مقرر "في رحاب الفلسفة" بالمغرب، السنة الأولى بكالوريا، طبعة 2006، مسالك الشعب العلمية..، ص 19.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.