رهان منهجية الكتابة الإنشائية الفلسفية
بقلم: محمد الشبة
إن المنهجية المتعلقة بالكتابة الإنشائية الفلسفية لا تقدم صيغا جاهزة للتطبيق الحرفي من قبل التلميذ، بل هو مطالب في كل لحظة يكون خلالها أمام موضوع اختباري أن يبدع منهجيته المتناسبة مع قدراته الذاتية من جهة، ومع طبيعة الموضوع قيد التحليل والنقاش من جهة أخرى.
لكن الرهان المتعلق بمسألة المنهجية هو في نظري يتعلق بالكيفية التي يجب، اعتمادها من قبل مدرس الفلسفة، لكي يجعل التلميذ قادرا على الكتابة بشكل ممنهج ومتناسب مع روح التفكير الفلسفي.
وهذا الرهان يجعلنا ولاشك نتواجد في صلب العملية التعليمية التعلمية المرتبطة بالدرس الفلسفي بالثانوي ألتأهيلي. فكيف نجعل من ممارستنا الفصلية قادرة على جعل التلميذ يكتسب القدرات والشروط الضرورية للكتابة الإنشائية الفلسفية؟ وهل منهجية الكتابة الفلسفية قابلة للتعلم أصلا؟
إذا ما أردنا مقاربة هذا الإشكال، فربما علينا التمييز بين مستويين رئيسيين:
- المستوى الأول يتعلق بالمتعلم في حد ذاته، بمواصفاته التشخيصية ومؤهلاته الذاتية؛ إذ من المعروف أنا نتعامل في سلك الباكلوريا مع تلميذ قطع مراحل ومستويات في التعليم الابتدائي والثانوي الإعدادي والتأهيلي، ولذلك فمن المفروض أنه قد اكتسب مجموعة من القدرات اللغوية والمعرفية والمنهجية التي تجعله مؤهلا للاندماج السريع في الكتابة الفلسفية واكتساب ضوابطها المنهجية. لكن ما هو حاصل على أرض الواقع، ونعاني منه كمدرسين، هو أننا نكون بإزاء تلاميذ ليس لديه رصيد مناسب في المطالعة الشخصية، كما أنهم لم يكتسبوا خلال مشوارهم الدراسي القدرات الكافية التي من شأنها أن تساعد مدرسهم في الباكلوريا على تمهيرهم بسرعة على الكتابة الإنشائية الممنهجة. أمام هذا المشكل فنحن نقوم كمدرسين بحث هذه الفئة من التلاميذ على القيام بالتمارين الفلسفية الإضافية، لكي يتمكنوا من قراءة أكبر قدر من النصوص والعمل على تحليلها وإعمال العقل فيها في أفق تجاوز الصعوبات التي تعوقهم أثناء الكاتبة الإنشائية. والنتائج بطبيعة الحال تختلف حسب طموح كل تلميذ ومجهوداته الفعلية من أجل تدارك النقص الحاصل لديه في الجوانب اللغوية والمعرفية والمنهجية. لكن ينبغي الاعتراف هنا، بأنه توجد استثناءات تتعلق بتلاميذ نجباء ومتميزين عن أقرانهم، نظرا لأن رصيدهم في القراءة الشخصية أكبر، ولذلك يسهل على مدرس الفلسفة التعامل معهم وتلقينهم المبادئ الأساسية لمنهجية الكتابة الفلسفية.
وإذا كنا نؤكد هنا على مسألة القراءة المرتبطة بالمجهود الذاتي الذي يقوم به التلميذ خارج الفصل الدراسي وبشكل متواصل، فإننا نسعى إلى التأكيد على مسألة أساسية وهي أن المنهجية في جوانب منها غير قابلة للاكتساب الميكانيكي والآلي، بل إنها تستبطن وترسخ من خلال مطالعات التلميذ وقراءاته السابقة للأعمال الفكرية والأدبية، لأنها هي التي من شأنها أن تكسبه وبشكل أصيل قدرات لغوية ومعرفية ومنهجية يمكنه استثمارها في كل لحظة وحين. فالممارسة الفعلية المرتبطة بالقراءة المتواصلة والاحتكاك بالنصوص وإعمال العقل فيها هي التي تشكل في نظرنا المفتاح الأساسي لاكتساب منهجية الكتابة الإنشائية الفلسفية. لكن كلامنا هذا لا يعني إعفاء المدرس من أي مجهود لجعل التلميذ قادرا على إنجاز كتابة إنشائية مميزة. لكن كيف يمكنه تحقيق ذلك؟
بإجابتنا على هذا السؤال نكون قد انتقلنا إلى المستوى الثاني.
- إن المستوى الثاني يتعلق هنا بما يجب على مدرس الفلسفة القيام به من ممارسات وإنجازات لكي يمكن التلاميذ ويساعدهم على اكتساب منهجية التفكير الفلسفي. وهنا يمكن التمييز بين مهمتين رئيسيتين يكون على مدرس الفلسفة القيام بهما لتحقيق المطامح المنشودة بصدد منهجية التفكير الفلسفي. المهمة الأولى تتعلق بتمهير التلاميذ على القدرات الجزئية المرتبطة بالكتابة الإنشائية في كليتها؛ ويتعلق الأمر هنا بالقيام بعمليات تعلمية وبتمارين فلسفية تمكن التلاميذ من الوقوف الفعلي عند الطرق التي يتم من خلالها استخراج الإشكال المتعلق بالنص الفلسفي مثلا، وكذلك كيفية تحديد أطروحته واستخراج أساليبه الحجاجية وتحديد وظائفها في النص...الخ. ولعل ارتكاز الدرس الفلسفي على الاشتغال بالنصوص يمكن ولا شك من تحقيق هذه الأهداف الجزئية التي تمكن التلميذ من الإنجاز الكلي للكتابة الإنشائية. ولا ننسى في هذا الإطار ضرورة حث التلاميذ على إنجاز التراكيب الخاصة بالمحاور وبالدرس ككل، نظرا لما يمثله هذا العمل من تعويد التلميذ على الكتابة الفلسفية الممنهجة، بالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بتصحيح الفروض المحروسة للوقوف عند الأخطاء التي يرتكبها التلاميذ، وتنبيههم إلى الوعي بها ووضع إستراتيجية لتجاوزها لاحقا.
أما المهمة الثانية فتتعلق بطريقة إنجاز المدرس لدرسه في حد ذاته، إذ يتعين أن تكون مشحونة بروح التفلسف الحقيقية وتجسد أمام التلميذ منهجية التفكير الفلسفي نفسها؛ إذ نعتقد أنه مثلما يتعلم التلاميذ المنهجية عن طريق التمرن فهم يكتسبونها أيضا عن طريق التقليد؛ تقليد مدرسهم وهو ينجز الدرس أمامهم بطريقة ممنهجة تعتمد التدرج المنطقي بين الأفكار و بين اللحظات المختلفة للحصة الدراسية. كما أن التقليد هنا يجب أن يتعلق أيضا بإنجاز المدرس الفعلي لمنهجية الكتابة الفلسفية؛ إذ يتعين عليه –وهذا ما فعلته أنأ شخصيا- أن يعمل على الإجابة عن مواضيع الفروض المحروسة أو الامتحان الوطني من خلال كتابة إنشائية منظمة لكي يقدمها للتلاميذ كنموذج ملموسة لكيفية تطبيق المنهجية. وبطبيعة الحال فالتلاميذ سوف لن يقلدوا هنا أستاذهم بشكل حرفي، بل فقط يستلهمون من كتابته روح التفكير الفلسفي الممنهج، لكي يكون عليهم تجسيد هذه الروح في وضعيات اختبارية تتعلق بمواضيع أخرى. فروح التفكير الفلسفي هي روح الإبداع الذاتي الحر الذي لا يمكن توقعه بشكل جاهز ومسبق، خصوصا وأن الأسئلة والنصوص والأقوال الفلسفية تفاجئنا دوما بما هو جديد وبما يتعين علينا التعامل معه بروح متجددة وبما يناسب طبيعة الموضوع المطروح.
إن هذه الفكرة الأخيرة تجعلنا نقول إن المنهجية غير قابلة للتعلم في تفاصيلها الجزئية، إذ تقتضي من التلميذ القدرة على الإبداع الذاتي والتعامل مع مواضيع يراها لأول مرة.
هكذا لا يمكننا تعلم المنهجية بألف التعريف، بل ما يمكننا تعلمه هو أشكال من التطبيق المختلفة لها، ولعل هذا عين ما قصده كانط من أنه لا يمكننا تعلم الفلسفة بل ما يمكن تعلمه هو أشكال من التفلسف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.