مفهوم الشخص عند جون راولز
نص لجون راولز
مفهوم الشخص كمواطن
« ... لقد قلت بالفعل أن
المواطنين يعتبرون أنفسهم أحرارا من منظورات ثلاث: فلنتناول إذن وباختصار كلا من
هذه المنظورات. ولنظهر ماذا نقصد بقولنا إن التصور الذي تم استعماله هو تصور سياسي.
إن المواطنين أحرار في مقام أول. من
جهة النظر لذواتهم وللآخرين باعتبارهم قادرين أخلاقيا على أن يكون لهم تصور للخير.
إلا أن هذا لا يفيد أنهم يعتبرون أنفسهم، في إطار تصورهم السياسي لذواتهم، مرتبطين
بكيفية ضرورية بتحقيق التصور الخاص للخير الذي يدعمونه. بل إنهم يبرزون أنفسهم، بدلا عن ذلك، ومن حيث أنهم مواطنين،
قادرين على مراجعة هذا التصور وتغييره حسب الدوافع العقلانية والمعقولة. وأن ذلك
رهين بإرادتهم. هكذا فالمواطنون من حيث أنهم أشخاص يطالبون أساسا بالحق في أن
يضعوا ذواتهم باستقلال عن أي تصور خاص للخير أو عن أي نظام للغايات القصوى، بحيث
لا يتماهون مع أي منها.
وباعتبار قدرتهم الأخلاقية على أن
يشكلوا ويراجعوا ويسعوا إلى تحقيق تصور معين للخير بكيفية عقلانية، فإن هويتهم
العمومية من حيث أنهم أشخاص أحرار، لا تتأثر بالتغيرات التي قد تطال تصورهم للخير
داخل الزمان. فمثلا حين تغيير المواطنين لدين بآخر، أو توقفهم على الانخراط في أي
ديانة قائمة، فإنهم لا ينفكون فيما يتعلق بمسائل العدالة السياسية، نفس الأشخاص
الذين كانوا من قبل، فليس هناك أي خسارة فيما يتعلق بما يمكن دعوته بالهوية العمومية،
أي هويتهم الأساسية إزاء القانون، إنهم بشكل عام يتوفرون على نفس الحقوق والواجبات
الأساسية، ونفس الخصائص، ويستطيعون التصريح بنفس المطالب مثلما في السابق وذلك على
خلاف إذا ما ارتبطت هذه الهوية بانتمائهم الديني السابق. وبإمكاننا أن نتخيل
مجتمعا (والتاريخ يقدم عدة نماذج) تتعلق الحقوق الأساسية الشرعية فيه بالانتماء
الديني، أو بالطبقة الاجتماعية وما إلى ذلك، فداخل مجتمع كهذا سيسود تصور مختلف
للشخص، بل يجوز عدم توفره على أي تصور حول المواطنة، وذلك لأن هذا التصور على
النحو الذي نستعمله نحن، يمشي جنبا إلى جنب مع تصور المجتمع كنظام منصف للتعاون
بهدف المصلحة المتبادلة بين أشخاص أحرار ومتساوين.
وإنه لمن الضروري التأكيد على أن
للمواطنين التعامل مع غاياتهم القصوى ومع التزاماتهم في حياتهم الشخصية أو في
الحياة الداخلية للجماعات التي ينتمون إليها بكيفية مختلفة جدا عما يفترضه التصور
السياسي. إذ من الجائز أن تكون لهم –وهذا صحيح على العموم وعلى الدوام- علاقات
تعاطف وإخلاص وصدق يعتقدون بأنهم لن يتخلوا عنها، وهو أمر ليس بمستطاعهم على كل
حال، ولا هم ملزمين به. كما يجوز عدم قدرة هؤلاء المواطنين على إجراء تقييم موضوعي
من منظور خيرهم العقلاني الخالص، أو قد يبدو لهم ببساطة أنه من المستحيل التفكير
في ذواتهم إذا ما أغفلوا بعض القناعات الأخلاقية والفلسفية والدينية، أو بعض
الالتزامات والأمانات الثابتة، وذلك لأن هذه المعطيات تشكل جزءا مما دعوناه
"هويتهم غير العمومية". وبالتالي فهي تساعد في تنظيم وتشكيل نمط حياة
الشخص والكيفية التي ينظر بها إلى أفعاله، وما يحاول إنجازه داخل عالمه الاجتماعي.
ولهذا فإننا نعتقد بأن تجريدنا بشكل فجائي من هذه القناعات وهذه الالتزامات
الشخصية سوف يفقدنا وجهتنا بحيث نصبح غير قادرين على المتابعة، وفي الواقع لن يكون
حينئذ في رأيي من دافع لذلك ...
ثم إن المواطنين يعتبرون أنفسهم
أحرارا في مقام ثاني، من جهة أنهم مصدر ذاتي للمطالب الشرعية. حيث أنهم يعتقدون
بأن لمطالبهم قيمتها الخاصة باستقلال عن كونها منبثقة عن الواجبات والإلزامات
المحددة من خلال التصور السياسي للعدالة- كتلك التي تجد مصدرها مثلا في المجتمع.
إن المطالب التي يعتبرها المواطنون قائمة على أساس الواجبات والإلزامات المنحدرة
عن تصورهم للخير، وعلى أساس المذهب الأخلاقي الذي يدافعون عنه في حياتهم الخاصة،
تعد كذلك في هذا الإطار مطالب أصيلة. ولذا فإن التعامل معها على هذه الصورة يعد تعاملا في إطار تصور
سياسي للعدالة ذي صلاحية بالنسبة للديمقراطية الدستورية. لكن لكي تكون هذه
الواجبات وهذه الإلزامات أصيلة من وجهة نظر سياسية ينبغي تحقيق الانسجام بين
تصورات الخير والمذاهب الأخلاقية وبين التصور العمومي للعدالة ...
ويعتبر المواطنون أنفسهم أحرارا، في
مقام ثالث لكونهم قادرين على تحمل مسؤولية غاياتهم، وهو الأمر الذي يؤثر في طريقة
تقييمهم لمطالبهم المختلفة. ويمكن إجمال هذه الفكرة على الوجه التالي: نظرا لوجود
خلفية من المؤسسات العادلة، ولتوفر كل المواطنين على مؤشر منصف للخيرات الأولية
(مثل مقتضى مبدأي العدالة)، فإنهم يعتبرون قادرين على تعديل أهدافهم وطموحاتهم
تبعا لما يمكن أن يتمنوا توقعه بكيفية معقولة. كما يعتبرون من جهة أخرى قادرين على
الحد من مطالبهم فيما يتعلق بالعدالة حسب ما يسمح به مبدءا العدالة. ومن هنا،
يتوجب عليهم الاعتراف بأن قيمة المطالب لا تقاس بالقوة والشدة السيكولوجية
لمطالبهم ورغباتهم (على خلاف حاجياتهم ومقتضياتهم كمواطنين)، هذا حتى ولو كانت
تأخذ من وجهة نظرهم طابعا عقلانيا ... فنحن ننطلق من الفكرة الحدسية الأساس،
والمتمثلة في أن المجتمع نظام للتعاون الاجتماعي. وحينما تتطور هذه الفكرة لكي
تصبح تصورا سياسيا للعدالة، فإن ذلك يتضمن بأننا نتعامل مع أنفسنا كشخصيات منخرطة
في تعاون اجتماعي على مدى الحياة، وأننا بالتالي قادرون على تحمل مسؤولية غاياتنا،
أقصد أننا قادرون على ضبطها بكيفية تجعلها قابلة للمتابعة حسب وسائل يكون باستطاعتنا
الطموح إلى اكتسابها بطريقة معقولة، كمقابل لما نود أن نجلبه كمساهمة. إن فكرة
المسؤولية هذه متضمنة في الثقافة السياسية العمومية وقابلة لأن تستخلص من خلال
ممارساتها. فالتصور السياسي للشخص يتضمن هذه الفكرة ويدمجها داخل فكرة المجتمع
كنظام للتعاون الاجتماعي مدى حياة معينة. »
مصدر النص:
جون راولز، نظرية العدالة
كإنصاف بين السياسة والميتافيزيقا، ترجمة محمد هاشمي. مجلة مدارات فلسفية، العدد
10، ص ص 110-112.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.