الأحد، 6 نوفمبر 2016

الوضعية المشكلة في درس الفلسفة



الوضعية المشكلة كمنطلق للطرح الإشكالي
في الدرس الفلسفي

                                                       بقلم: محمد الشبة

 
                                                                                                                                                                    

لقد أصبحت الوضعية- المشكلة تمثل مدخلا أساسيا لولوج العالم الإشكالاتي للدرس الفلسفي، لأنها تمكن من ربط التلاميذ بإشكالات وقضايا يحسون أنها نابعة من حياتهم، وتعبر عن انتظاراتهم الذاتية. كما أنها تعمل على تحفيز التلاميذ وجعلهم ينخرطون في إشكالات فلسفية تكون لها معنى بالنسبة إليهم، ما دام أن المعنى الذي يمنحه التلميذ للمعارف والإشكالات الفلسفية ليس هو بالضرورة المعنى الموجود عند المدرسين كمتمرسين بالمادة ومطلعين على تاريخها.
ولكي تؤدي الوضعية المشكلة وظيفتها المتوخاة، فهي ترتكز كثيرا على عملية البناء الإشكالي الذي يتعين على المدرس أن يرتب خلاله مجموعة من الأسئلة المنصبة حول الوضعية، وذلك بهدف الكشف عن المفارقة واللبس اللذين يكتنفان المسألة المدروسة والسعي نحو تأزيم أي جواب ممكن قد يقدم من طرف التلاميذ من أجل حلها. وهذا ما يسمح بإثارة العديد من التساؤلات التي تتناسل أثناء الإنجاز الفعلي لحصة الوضعية المشكلة، وتفضي بعد ذلك إلى صياغة الإشكال المتوخى الذي تستهدف الحصة بلوغه.
إن الوضعية المشكلة تستهدف وضع المتعلمين أمام مشكلة ما، ترتبط بما هو منتم إلى مجال إدراكهم وله امتدادات في حقل تجربتهم التاريخية والمعيشية. ولذلك، فالوضعية تسعى إلى أن تسائل وتؤشكل ما قد يبدو لهم وللعامة أنه واضح وبديهي ولا يحتاج إلى مساءلة. إنها تروم استخراج أسئلة كامنة في نفوس المتعلمين، والعمل على توليدها من ذواتهم باعتماد نوع من المنهج التوليدي السقراطي، خصوصا أن الاشتغال على الوضعية-المشكلة يحول ساحة القسم إلى أغورا للنقاش الجدلي والحر والمنفتح، والذي من شأنه أن يذكي جذوة النقد العقلي ويكسر كل القناعات والبداهات المتداولة.
وإذا كانت الدهشة تمثل حسب أرسطو منبع الفلسفة وأصل التفلسف، فإن الوضعية المشكلة تضطلع بمهمة خلق مثل هذه الدهشة التي تنصب على ظواهر الواقع وأحداث الحياة اليومية، من أجل التوصل إلى صياغة مجموعة من التساؤلات الإشكالية بصددها. ولا بد من التأكيد هنا، أن المدرس يكون مطالبا بأن يرسم الغاية النهائية للمسار الإشكالي الذي ستعرفه الوضعية المشكلة، وتتمثل هذه الغاية في التحديد المسبق والقبلي لإشكال فلسفي، ثم التفكير في وضعية تسمح بربطه بحياة المتعلمين وإقناعهم بجدوى طرحه ومعالجته كإشكال فلسفي. وبهذا الأمر سيتبين للتلاميذ أن الإشكالات الفلسفية تهمهم قبل أن تهم الفلاسفة، وهو ما من شأنه أن يحفزهم ويساعدهم على ممارسة نوع من التفكير الذاتي في طرح الأسئلة وبناء الإشكالات الفلسفية.
انطلاقا من هنا ينبغي النظر إلى المفاهيم والقضايا الفلسفية كقضايا متجذرة في الحياة، وتكون وظيفة الوضعية المشكلة هي دفع التلاميذ إلى اختبار دلالاتها وتحديد معانيها وأبعادها المختلفة، انطلاقا مما تحيل إليه من وظائف أو استعمالات في مجالات وقطاعات مختلفة في الحياة. وهذا الكشف هو ما سيسمح بخلق مفارقات وتعارضات وأشكال من الحيرة في أذهان التلاميذ، تكون ناتجة عن غموض وبقية من عدم فهم ينبغي ترجمته من خلال أسئلة مناسبة تمكن في تداخلها وتسلسلها من طرح الإشكالات المتعلقة بالمجزوءة أو المفهوم أو أحد محاوره.
إن على الوضعية المشكلة ان تنبثق من الحياة، وأن تنجح في تأكيد ضرورة طرح الأسئلة التي تثيرها، وهو ما يطرح على مدرس الفلسفة تحدي ابتكار وضعيات مناسبة للمجزوءات والمفاهيم المقررة، تسمح بإقناع التلاميذ بجدوى ووجاهة وضرورة الانخراط في معالجة الإشكالات التي يحددها "المنهاج الدراسي" الذي استند إليه التأليف الخاص بتلك المقررات. إن هذا التحدي يتعلق بجعل إشكالات الفلسفة تنبثق من التفكير الذاتي للتلاميذ في ظواهر الحياة وقلق الوجود وتجارب البشر التاريخية.
هكذا فسيرورة الأشكلة غالبا ما تبدأ أثناء الاشتغال على الوضعية المشكلة، بوضع التلاميذ أمام قضية أو واقعة أو حالة .. تكون معروفة لديهم ومنتمية إلى مرجعياتهم الثقافية والاجتماعية، ثم يبادر المدرس إلى طرح سؤال محدد حولها، ستعقبه بطبيعة الحال أجوبة مختلفة عنه يتعين على المدرس أن يقابل بينها ويثير بصددها أسئلة جديدة، هي الأخرى ستخلق ردود فعل متباينة لدى التلاميذ يتم التعبير عنها من خلال أجوبة أو أسئلة. والمدرس هنا مطالب بأن يدير إجراء الحوار التساؤلي بين جماعة الفصل بكل حنكة بيداغوجية، تتطلب منه تحضيرا مسبقا للحصة كما تتطلب منه بداهة سقراطية في توليد المفارقات وتوجيه النقاش نحو الوجهة المتوخاة. ونحن بطبيعة الحال لا نعني بذلك أن النقاش سيفضي إلى نتيجة منغلقة ومحددة، بل نعني أن نجاح المدرس في إنجاز الوضعية يتوقف على مدى قدرته على جعل النقاش يتشعب حول المسألة قيد المعالجة، عن طريق تقليبها على كافة الأوجه والنظر إليها من كل الزوايا لإثارة تساؤلات مختلفة بصددها، غير أن عليه بالمقابل أن يتوفر على الحنكة والخبرة التي تمكنه من لم شتات النقاش وتوجيهه نحو طرح الإشكال أو الإشكالات المستهدفة من حصة الاشتغال على الوضعية- المشكلة.
قد يعترض أحد بالقول إن رسم خطة لممارسة الأشكلة من خلال الوضعية المشكلة، يتنافى مع الطابع المنفتح والمتشعب للأسئلة الفلسفية. لكننا نرد من خلال القول إن رسم خطة لمسار التساؤل حول الوضعية هو أمر ضروري لتفادي الانحرافات والانزلاقات التي قد تفضي إلى مناقشة قضايا كثيرة لا تسمح بالضرورة بطرح الإشكال المحدد في الدرس. ولهذا، فإن التحضير المسبق لحصة الوضعية- المشكلة ولأسئلتها أمر ضروري لضبط زمن التمدرس من جهة، ولإنجاح الهدف المتوخى منها من جهة أخرى. ولكن هذا لا يمنع من أن يراعي المدرس حرية التلاميذ في إبداء الرأي والتساؤل الجريء والشجاع حول المسألة المبحوثة وإعمال العقل فيها بشكل عفوي وتلقائي، ويكتفي هو بتوجيه النقاش وتنشيط التساؤلات ورسم المسار المناسب الذي يسمح بأن تتكاثف الأسئلة لتصب أخيرا في نفس البؤرة الإشكالية المستهدفة.
وينبغي أن نشير إلى أن المدرس مطالب أثناء إنجازه للوضعية المشكلة، بأن يحول أجوبة التلاميذ التلقائية إلى أفكار فلسفية، ويصنفها ضمن قضايا ومجالات مختلفة من أجل المقارنة بينها وإثارة التساؤلات المناسبة حولها. وقد يعوز أسئلة التلاميذ الطابع الفلسفي المطلوب، مما يحتم تدخل المدرس من أجل جعلهم يدركون الفرق بين الأسئلة الفلسفية والأسئلة غير الفلسفية، ثم الربط بين الأسئلة ذات الطابع الفلسفي لصياغة الإشكال الذي تسعى إليه الحصة. كما أن إنجاز الوضعية- المشكلة قد يتطلب اشتغالا حقيقيا على مفاهيم بعينها يستدعيها النقاش حول المشكلة، مما يدل على أن عملية الأشكلة تستدعي بالضرورة عملية المفهمة، أي أنها تتطلب اشتغالا معينا حول الأبعاد الدلالية للمفاهيم والمقابلة بينها لخلق التناقضات والإحراجات التي تسمح بصياغة التساؤلات الإشكالية. وزيادة على ذلك، فالوضعية- المشكلة تسمح بمساءلة البديهيات وأفكار الحس المشترك التي يعبر عنها التلاميذ أثناء انخراطهم في النقاش، وإدلائهم بأجوبة ووجهات نظر حول الأسئلة التي يبتكرها المدرس حول الوضعية المدروسة. وهو ما يعني الارتقاء بفكرهم من عتبة المعتقد السائد والاطمئنان غير المعقلن إلى يقينيات بادئ الرأي، إلى مستوى الفكر النقدي الذي يقوم على الفحص والشك والمساءلة.
وعلى العموم فارتكاز الدرس الفلسفي على مدخل الوضعية- المشكلة، يساهم بشكل كبير في ربط الفلسفة بالحياة من جهة، وفي منح هذا الدرس الطابع الإشكالي الذي يستمد منه خصوصيته من جهة أخرى. 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.