مرآة الغير
بين الشفافية والانكسار
بقلم: محمد لشبة
من العادات اليومية التي دأب عليها الأفراد
في وقتنا المعاصر هي رؤية أنفسهم في المرآة. لكن يبدو أن هذه المرآة الزجاجية لا
تجعلنا نتعرف سوى على هندامنا ومظهرنا الجسدي الخارجي. ولذلك يبدو أننا في أمس
الحاجة إلى مرآة آدمية من أجل أن نتعرف على عالمنا الداخلي، والذي هو مجموع
المشاعر والأفكار التي توجد بذواتنا. لكن هل مرآة الغير شفافة تقدم لنا صورة
حقيقية عن أنفسنا؟ ألا يمكن أن تكون منكسرة فتمنحنا صورة خاطئة أو مشوهة عن حقيقة
أفعالنا أو أفكارنا أو مشاعرنا؟ وإلى أي حد يعتبر الآخر البشري ضروريا من أجل أن
يجعلني كأنا أعي ذاتي وأحقق إنسانيتي؟ وهل بإمكان الأنا كوعي فردي أن يعرف ذاته من
خلال جوانبها المتعددة، بدون اللجوء إلى الغير والتوجه إليه؟
يقال عن الإنسان أنه كائن اجتماعي، أو كما
قال أرسطو قديما إنه مدني بطبعه، ولذلك يبدو أنه يحتاج إلى غيره من الناس من أجل
أن يستكمل إنسانيته، ويحقق مجموعة من الرغبات الضرورية بالنسبة إليه ككائن عاقل
ومفكر وواع. وفي هذا الإطار يرى الفيلسوف البلغاري تزفيتان تودوروف في كتابه
"ميخائيل باختين: المبدأ الحواري" «أننا نخفق في النظر إلى أنفسنا
ككليات: ولذا فإن الغير ضروري حتى ولو كان ذلك بصورة مؤقتة لاستكمال فهمنا
لذواتنا.» (1) ومن هنا فالشخص لا يمكنه أن يحقق ذاته ويعيها ويعرفها بشكل
كامل إلا بواسطة الأنا الآخر، ذلك الغير الذي هو الأنا الذي ليس أنا. وقد تساءل
تودوروف عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الغير في جعل الأنا قادرا على الوعي بذاته،
وتحقيق معرفة كاملة بها. وأجاب عن ذلك من خلال التأكيد على أننا لا يمكن أن نفهم
أنفسنا ونعرف طبيعة مشاعرنا وأفكارنا، بشكل تام ومن جميع الجوانب، إلا إذا اعتمدنا
في ذلك على الغير. فارتكاز الذات على نفسها واعتمادها على إمكانياتها الذاتية،
يجعلها لا تدرك ذاتها إلا بشكل جزئي؛ أي من خلال إدراك جوانب معينة وعدم الانتباه
إلى جوانب أخرى. ولذلك فالغير، باعتباره وعيا آخرا يشبهني ولا يشبهني، هو الذي
بإمكانه أن يمثل حسب تودوروف تلك المرآة التي بإمكانها أن تجعلني أدرك الجوانب
التي لا أعرفها عن نفسي، والتي لا يمكنني أن أعرفها لوحدي.
وقد تساءل الفيلسوف تزفيتان تودوروف عن
المرآة الزجاجية التي نرى فيها وجوهنا، كما تساءل عن اللوحة الفنية التي يرسم فيها
الفنان صورة مطابقة إلى حد كبير للمظهر الخارجي لإنسان ما، وتساءل عن مدى قدرتهما
على جعلنا نعرف أنفسنا بشكل كامل. وقد أجاب عن هذا التساؤل بالنفي؛ حيث أكد على أن
المرآة المادية أو اللوحة الفنية لا تجعلني كذات أو كشخص أعرف سوى الجانب الظاهري
أو الجسدي، أما الجانب الباطني أو الروحي فإن المرآة الزجاجية أو اللوحة لا
تمكناني من التعرف عليه. وهكذا فالصورة التي أراها في المرآة هي صورة ناقصة، لأنها
تقدم لي فقط جانبا واحدا هو الجانب الجسدي، لكي تظل مجرد معرفة أولية، أي سطحية
وظاهرية وغير مكتملة.
ولهذا السبب رأى تودوروف أن الشخص الآخر الذي
ينظر إلي بإمعان، هو الذي بإمكانه أن يجعلني أدرك جوانب نفسية وفكرية وأخلاقية من
ذاتي، لا تستطيع المرآة أو اللوحة أو أي شيء آخر أن يجعلني أدركها أو أحقق معرفة
بها. وهذا ما يجعل وساطة الأشياء غير كافية بالنسبة للأنا، بل هو يحتاج إلى وساطة
بشرية تتمثل في الغير الذي يقف بينه وبين ذاته، ويجعل إدراكها والوعي بها أمرا
ممكنا.
ويبدو أن قيمة مثل هذه الأطروحة التي يعبر
عنها الفيلسوف تودورف، تكمن في التأكيد على أن الشخص البشري في حاجة ماسة إلى
الغير، بحيث لا يمكنه الاستغناء عنه من أجل أن يعي ذاته ويحقق مجموعة من الرغبات
النفسية والعقلية والجسدية الأخلاقية والاجتماعية، والتي بدونها لا يمكن أن يحيا
حياة إنسانية طبيعية. كما أكدت هذه الأطروحة على أن معرفة الأنا بذاته لا تستكمل
إلا من خلال الأحكام التي يصدرها الغير تجاهه، ويجعله من خلالها يتعرف على جوانب
متعددة من شخصيته. وهكذا لا يمكنني مثلا أن أعرف مواهبي الفنية، أو قدراتي العقلية
أو الجسدية، إلا إذا مكنني الغير من ذلك. فمسابقة في الشطرنج أخوضها مع إنسان آخر،
من شأنها أن تعرفني بقوة ذكائي إذا ما انتصرت فيها عليه، أو تجعلني أقف عند
محدودية هذا الذكاء أو ضعفه إذا ما كنت أنا المنهزم. كما أن مباراة في الملاكمة قد
تظهر لي مدى قوتي الجسدية، إذا ما هزمت فيها الغير المنافس لي. ويمكن قول نفس
الشيء في مبارزات أو مسابقات فنية أو ثقافية أو رياضية؛ إذ عن طريق المنافسة
والصراع الذي يجمعني مع الغير أستطيع أن أبرز المزايا والخصائص الإيجابية التي
أتميز بها، كما أتمكن من الوقوف عند الخصائص السلبية وجوانب الضعف التي قد تظهر لي
من خلال هذا الصراع الذي جمعني بالغير.
ولعل هذه الفكرة الأخيرة هي ما عبر عنها
الفيلسوف الألماني هيجل حينما أكد على ضرورة وجود الغير، من أجل أن يثبت الأنا
ذاته ويحقق حريته. فالوعيان البشريان، الأنا والغير، يسعيان من خلال الصراع القائم
بينهما إلى أن يثبتا ذاتهما، وهو صراع من أجل الحياة والموت، إذ «إنهما مجبران
بالضرورة على الانخراط في هذا الصراع، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده على
مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته وبالنسبة للآخر. فالمخاطرة بالحياة هي وحدها التي
يتم، بواسطتها، الحفاظ على الحرية.» (2)
وهكذا فوجود الأنا لا
يمكن أن يتحقق إلا من خلال وجود نقيضه أي الأنا الآخر أو الغير. فلا يمكن للوعي أن
يعرف نفسه إلا من خلال انفتاحه على كل ما هو آخر بالنسبة إليه؛ أي أن الوعي يبحث
عن وساطة بينه وبين معرفته لنفسه.
وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي، فهي موضوعات لإشباع حاجات الوعي الطبيعية، ولذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية والطبيعية، ولا تصلح كوساطة من شأنها أن تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه. فقد تجعلني الحيوانات أو النباتات ألبي مطالبي الغريزية والبهيمية، كأن آكل لحمها أو فواكهها، أو أشرب حليبها وأفترش جلودها، لكنها لا تقوى على أن تلبي رغباتي الروحية والعقلية، لأن الوعي الآخر (الغير) هو الوحيد القادر على تلبية رغباتي تلك. ومن هنا فهو يلعب دور التوسط أو الوساطة بين الأنا ومعرفته بذاته؛ ذلك أن الأنا يسعى دوما إلى أن يجعل الغير يعترف به، وهو الأمر الذي لا يتأتى له إلا من خلال فعل الصراع الذي يجري بينهما. ولذلك يرى هيجل أن سلوك كل من الأنا والغير يتحدد « بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر، بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت.» (3)
والهدف من هذا الصراع هو إثبات الذات والحفاظ على حريتها، وذلك من خلال نزع الاعتراف بالذات من طرف الآخر. إلا أن نزع الاعتراف هذا لا يتم بسهولة ما دام أن كلا الوعيين يخاطر بحياته ويسعى إلى موت الآخر. ولكن مع ذلك فهذا الصراع لا ينتهي بالموت الفعلي، بل ينتهي بوجود منتصر ومنهزم؛ الأول هو وعي من أجل ذاته، والثاني هو وعي من أجل وعي آخر؛ أحدهما سيد والآخر عبد. وهكذا فنحن نجد الصراع يسود في جميع مجالات الحياة البشرية؛ فالتلاميذ يتصارعون من أجل التفوق والنجاح، والفرق الرياضية تتصارع من أجل الفوز ونيل البطولة، والشركات الاقتصادية تتنافس من أجل تحقيق الربح، كما نجد صراعات مشابهة سواء بين الأفراد أو الأحزاب السياسية أو المجتمعات، تتخذ أشكالا متعددة ومتنوعة؛ اقتصادية وسياسية وفكرية وغيرها. وداخل لعبة الصراع هاته فقط، يكون ممكنا بالنسبة لكل طرف أن يرى نفسه في مرآة الغير، ويقيس من خلاله درجة قوته أو ضعفه.
ولهذا اعتبر هيجل أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ووعيه بذاته، فهو يمثل تلك المرآة البشرية التي يتعرف من خلالها الأنا على ذاته وعلى مقوماته كذات إنسانية. كما لا يجب، في نظرنا، تصور هذا الصراع الذي يتحدث عنه هيجل على نحو سلبي وكأنه صراع مدمر وهدام؛ إنه بالفعل قد يتخذ أحيانا مثل هذا الطابع السلبي المدمر، لكنه في أحايين أخرى يتخذ طابعا بناءا وإيجابيا، إذ يشكل في هذه الحالة الأخيرة تلك الطاقة أو ذلك الدينامو الضروري لتحريك عجلة التاريخ. فلا يمكن أن تتطور الحضارة البشرية إلا من خلال الصراع الإيجابي والمنافسة الشريفة، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات البشرية.
وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي، فهي موضوعات لإشباع حاجات الوعي الطبيعية، ولذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية والطبيعية، ولا تصلح كوساطة من شأنها أن تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه. فقد تجعلني الحيوانات أو النباتات ألبي مطالبي الغريزية والبهيمية، كأن آكل لحمها أو فواكهها، أو أشرب حليبها وأفترش جلودها، لكنها لا تقوى على أن تلبي رغباتي الروحية والعقلية، لأن الوعي الآخر (الغير) هو الوحيد القادر على تلبية رغباتي تلك. ومن هنا فهو يلعب دور التوسط أو الوساطة بين الأنا ومعرفته بذاته؛ ذلك أن الأنا يسعى دوما إلى أن يجعل الغير يعترف به، وهو الأمر الذي لا يتأتى له إلا من خلال فعل الصراع الذي يجري بينهما. ولذلك يرى هيجل أن سلوك كل من الأنا والغير يتحدد « بكون كل منهما يثبت ذاته لنفسه، كما يثبتها للآخر، بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت.» (3)
والهدف من هذا الصراع هو إثبات الذات والحفاظ على حريتها، وذلك من خلال نزع الاعتراف بالذات من طرف الآخر. إلا أن نزع الاعتراف هذا لا يتم بسهولة ما دام أن كلا الوعيين يخاطر بحياته ويسعى إلى موت الآخر. ولكن مع ذلك فهذا الصراع لا ينتهي بالموت الفعلي، بل ينتهي بوجود منتصر ومنهزم؛ الأول هو وعي من أجل ذاته، والثاني هو وعي من أجل وعي آخر؛ أحدهما سيد والآخر عبد. وهكذا فنحن نجد الصراع يسود في جميع مجالات الحياة البشرية؛ فالتلاميذ يتصارعون من أجل التفوق والنجاح، والفرق الرياضية تتصارع من أجل الفوز ونيل البطولة، والشركات الاقتصادية تتنافس من أجل تحقيق الربح، كما نجد صراعات مشابهة سواء بين الأفراد أو الأحزاب السياسية أو المجتمعات، تتخذ أشكالا متعددة ومتنوعة؛ اقتصادية وسياسية وفكرية وغيرها. وداخل لعبة الصراع هاته فقط، يكون ممكنا بالنسبة لكل طرف أن يرى نفسه في مرآة الغير، ويقيس من خلاله درجة قوته أو ضعفه.
ولهذا اعتبر هيجل أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ووعيه بذاته، فهو يمثل تلك المرآة البشرية التي يتعرف من خلالها الأنا على ذاته وعلى مقوماته كذات إنسانية. كما لا يجب، في نظرنا، تصور هذا الصراع الذي يتحدث عنه هيجل على نحو سلبي وكأنه صراع مدمر وهدام؛ إنه بالفعل قد يتخذ أحيانا مثل هذا الطابع السلبي المدمر، لكنه في أحايين أخرى يتخذ طابعا بناءا وإيجابيا، إذ يشكل في هذه الحالة الأخيرة تلك الطاقة أو ذلك الدينامو الضروري لتحريك عجلة التاريخ. فلا يمكن أن تتطور الحضارة البشرية إلا من خلال الصراع الإيجابي والمنافسة الشريفة، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات البشرية.
وبالرغم من أن الغير قد يشكل جحيما بالنسبة لحياتي، بحيث يعاملني كموضوع أو
شيء وينفي عني الصفات الإنسانية الداخلية، فإنني مع ذلك أحتاج إليه في وجودي؛ ذلك
أن العيش مع الآخرين حتى ولو كانوا أشرارا وسلبيين هو ربما أهون من العيش في كنف
عزلة قاتلة قد تقضي على إنسانيتي. ولذلك، فبالرغم من أننا نتذمر من الغير ونعاني
من جراء تعامله السلبي معنا، فنحن مع ذلك نضطر لكي نعيش معه ونلبي من خلاله مجموعة
من الغايات والرغبات الإنسانية. ولهذا، فبالرغم من قول الفيلسوف سارتر إن الجحيم
هم الآخرون، فقد اعتبر أن الغير هو الوسيط الضروري بينني وبين نفسي.
وإذا تبين أن الغير ضروري في حياتي، وأنه مرآة لا غنى عنها من أجل أن أرى فيها
مواهبي وقدراتي، وأتعرف من خلالها على جوانب خفية يتعذر علي معرفتها لوحدي، فهل
يعني ذلك أن هذه المرآة تكون شفافة دائما وتقدم لي صورة حقيقية عن ذاتي؟ ألا يمكن
للغير أن يمارس علي الخداع والتضليل ويصبح بمثابة مرآة منكسرة تشوه حقيقة ذاتي،
وتحول بيني وبين معرفتها على نحو صادق ودقيق؟
إن هذا التساؤل يدفعنا إلى التأمل في العلاقة التي تجمع بين الأنا والغير على
أرض الواقع البشري الفعلي. فبقدر ما نجد أن هناك أشخاصا طيبين معنا، وتربطنا معهم
مشاعر إنسانية رفيعة وجميلة، مبنية على المودة والقيم الأخلاقية السامية والخيرة،
فإننا نجد أن هناك أشخاصا آخرين خبيثين يكنون لنا مختلف أشكال البغض وألوان الحقد
والكراهية. ولهذا، فإذا كان شخص طيب وخير من شأنه أن يكون صادقا معي، ويعرفني جيدا
بخصالي وخصائصي، سواء كانت إيجابية أو سلبية، فإننا نجد على العكس من ذلك أن شخصا
منافقا وماكرا وانتهازيا، من شأنه أن يمارس علي مختلف أشكال الكذب والنفاق
والتضليل، بحيث لا يقدم لي صورة حقيقية عن ذاتي وعن الخصائص الفعلية التي أتميز
بها.
ومن هنا، فإذا كان الإنسان كائنا اجتماعيا ويحتاج فعلا إلى الغير، فإن هذه
الفكرة تظل صحيحة في عمومها، ولكن إذا ما نحن نظرنا إلى الغير باعتباره يدل على
مجموعة من الأفراد الذين يختلفون في طبيعة علاقاتهم معي، بحيث منهم الصديق والعدو،
الخير والشرير، الطيب والخبيث، فإنه يجوز لنا القول أن بعض الأغيار على الأقل قد
يمثلون عاملا سلبيا بالنسبة إلي؛ بحيث أنهم قد يمارسون علي الكذب والنفاق والتضليل
من جهة، كما قد يدمرون حياتي أو يهددونني في وجودي. وإذا كان سارتر قد اعتبر أن
الغير وسيطا ضروريا بيني وبين ذاتي، فإن هذه الوساطة لا تكون شفافة وصادقة في جميع
الأحوال، إذ قد يخدعني الغير ويكذب علي، مما يجعله يتحول إلى مرآة منكسرة تقدم لي
صورة مشوهة عن ذاتي.
وبالإضافة إلى هذا، فنحن نجد أن الكثير من الناس يصدرون أحكام قيمة تجاه
الآخرين؛ بحيث أن الأنا هنا عوض أن يفهم الغير كما هو في اختلافه، فإنه يرسم صورة
عنه انطلاقا من ذاته ومن معتقداته ومنطلقاته الخاصة. مما يجعل هذه الصورة المكونة
عن الغير تكون في الغالب ناقصة أو خاطئة أو فيها الكثير من التشويش والتضليل. ولعل
هذا ما أشار إليه سارتر بقوله «إنني أنا الذي أكون الغير ضمن حقل تجربتي. ولن يكون
الغير حينئذ، سوى صورة [ذهنية]» (4) ، أي أن الأنا يدرك الغير هنا انطلاقا
من حقل تجربته الخاصة، مما يجعل الصورة التي يقدمها عنه لا تكون مطابقة للأصل في
معظم الأحيان.
وقد يحس الفرد بذوبان
ذاته حينما يجد نفسه مرتميا في أحضان علاقات غير إنسانية جمعته مع غيره من الناس،
مما قد يجعله يحس بالغرابة وضياع الذات وسط عالم ملؤه الكذب والانتهازية والنفاق
والخداع، حيث أن الغير هنا لا يجعلني أعرف ذاتي حق المعرفة، كما قد يحول بيني وبين
تحقيقها على نحو إنساني وأفضل. وهنا نجد الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر يعمل على
تحليل معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف
عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. وهكذا يصبح الوجود مع الغير متميزا بخاصية
التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير. فالأنا في علاقته مع
الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته
ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له. وهنا يرى هيدغر أن الغير يمارس على الأنا هيمنة
خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه،
وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط
عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط
هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها.
ويؤكد هيدغر على خاصية التشابه التي تخلق بين
الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. «فنحن – يقول
هيدغر- في استعمالنا لوسائل النقل العمومية، أو في استفادتنا من الخدمات الإعلامية
(قراءة الصحف مثلا)، نجد أن كل واحد منا يشبه الآخر. فهذا الوجود المشترك يذيب
كليا الموجود-هنا، الذي هو وجودي الخاص، في نمط وجود الغير.» (5) ومن هنا يعمل
الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة
الجماعة.
وإذا ما أحس المرء تضايقا من نظرة الغير إليه، أو ذوبانا يفقده إحساسا صادقا
بحقيقته كذات واعية ومفكرة، وإذا ما بدا له أن الغير أضحى مرآة منكسرة غير شفافة،
فقد يفر مهرولا باحثا عن ذاته في عزلته الأنطلوجية بعيدا عن كل جلبة أو ضوضاء أو
تشويش يمكنه أن يحجب عنه حقيقة ذاته، أو يجعله يراها على نحو غير حقيقي. ولعل هذا
ما جعل الفيلسوف ديكارت ينطلق من الشك في كل شيء، بما في ذلك وجود الغير، وينكفئ
على ذاته لكي يعيها ويفكر فيها دون حاجة إلى الآخرين. وهكذا أثبت ديكارت وجوده
داخل عزلته الوجودية والمعرفية على نحو حدسي ويقيني ومباشر، بينما ظل وجود الغير
بالنسبة إليه وجودا افتراضيا وتخمينيا. كما أن تجربة الشك الديكارتية تبين أن
المعتقدات والآراء والأحكام المتداولة قد تمثل مرايا منكسرة تلعب دور العائق الذي
يمنع عنا رؤية الحقيقة. وهذا ما قد يجعل الشك مفيدا بالنسبة للذات لتجاوز مثل هذا
الحاجز الذي يضعه الغير بيني وبين ذاتي، فيكون الرجوع إلى الذات والاعتماد عليها
هو ما قد يجعلها تدرك الحقيقة، وتتمكن من تحقيق وعي شفاف بنفسها.
وهكذا، فبقدر ما يمثل الغير مرآة لا بد منها من أجل إدراك ذواتنا وتحقيق معرفة
بها، إذ يستحيل بدونها أن نقف عند حقيقة مشاعرنا ومستوى ما نملكه من قدرات وكفاءات
ومواهب، فإنه يتعين علينا اتخاذ قدر غير قليل من الحيطة والحذر من هاته المرآة
التي قد تشوبها الكثير من الضبابية والشروخ والانكسارات، التي من شأنها أن تقدم
لنا صورا خادعة أو مشوهة أو ناقصة عن حقيقة أنفسنا. ولعل تأرجح مرآة الغير بين
الشفافية والانكسار، يعود إلى الأشكال المتشابكة والمعقدة وذات الأبعاد المتعددة
التي تميز علاقاتنا بالغير. وهذا ما يحتم علينا العناية بهذه العلاقة والعمل على
الرقي بها إلى مستويات إنسانية رفيعة، وذلك بكيفية تسمح بجعل مرآة الغير أكثر نقاء
وصفاء وشفافية. فما هي الأسس التي ينبغي أن ترتكز عليها علاقتنا بالغير من أجل
تحقيق مثل هذا الطموح؟
هوامش:
1- تزفيتان تودوروف: "ميخائيل باختين:
المبدأ الحواري"، ترجمة فخري صالح، مؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة
الثانية، 1996، ص 176.
2- هيجل: فينومينولوجيا الروح. عن "منار الفلسفة" للسنة الثانية
بكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص 41.
3- نفسه.
4- جان بول سارتر: الوجود والعدم. عن مقرر
"الفكر الإسلامي والفلسفة" للسنة الثالثة الثانوية، الشعبة الأدبية، الطبعة
الأولى 1996-1997، ص 156.
5- مارتن هايدغر: الوجود والزمن. عن "في رحاب الفسفة" للسنة
الثانية من سلك البكالوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص 31.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.