تقديم:
إن الإنسان حيوان أخلاقي، ولذلك فتميزه بهذه الصفة جعله يطرح السؤال الأخلاقي
التالي: ما الذي ينبغي أن أعمله ؟ وفي هذا الإطار استثمر الإنسان عقله الأخلاقي
العملي من أجل تشريع قوانين لسلوكه، وسن واجبات لتحقيق الغايات المنشودة من
أفعاله. وإذا كان الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام، فإنه مع ذلك يعبر
عن سمو الإنسان وحريته والتزامه بما يشرعه لنفسه. وإذا كان الوعي الأخلاقي سمة من
سمات الكائن البشري، باعتباره ما يسمح له بالتمييز بين الخير والشر، فإن هناك من
جعل أساس هذا الوعي في الفطرة البشرية، وهناك من أرجعه إلى العقل، وهناك من عاد به
إلى منشئه التاريخي في إطار الصراع حول المصالح. وأمام هذا التعدد في المرجعيات
التي تحكم الواجب، نجد أنفسنا أحيانا أمام واجبات ترتبط بسلطة مجتمع ما وظروفه
الخاصة، مما قد يؤدي إلى انغلاق القيم الأخلاقية ودخولها في صراع مع مرجعيات
أخلاقية أخرى، وهذا أمر يحتم ضرورة المراهنة على أخلاق كونية تؤسس لواجب الإنسان
إزاء الإنسان.
المحور الأول: الواجب والإكراه.
* إشكال
المحور: هل يمكن أن يكون الواجب حرا أم أن قبوله لا
يتم سوى تحت الإكراه ؟ وهل يستمد الواجب سلطته من وازع عقلي داخلي أم يستمدها من
إلزام خارجي ؟
1- موقف هيوم:
الواجب إلزام صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع.
يرى دفيد هيوم أنه لا يمكن تأسيس الأخلاق على دعامة من العقل وحده، لأن
الأحكام الأخلاقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الاجتماعية. هكذا فجريمة واحدة قد
تصادف أحكاما مختلفة باختلاف الظروف والأحوال. فالحكم على الأفعال بالخير أو الشر
راجع إلى عاطفة أو إحساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلان الإنسان يتشبث
بالحسن لما يجلبه له من منفعة، ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر.
ويقسم هيوم الواجبات الأخلاقية إلى نوعين: الواجبات الأولى هي تلك التي
يقوم بها الناس بدافع غريزي طبيعي، وبدون أي إلزام أو سعي نحو تحقيق منفعة ما؛ مثل
حب الأطفال والعطف على المحتاجين. أما الواجبات الثانية فهي تلك التي تكون صادرة
عن إلزام نابع من ضرورة المحافظة على المجتمع البشري.
هكذا فالطابع الإلزامي للواجب عند
هيوم مرتبط بالآثار المترتبة عنه على مستوى الحياة الاجتماعية. والتجربة وحدها هي
التي تبين لنا مدى ما نجنيه من منفعة أو فائدة إذا ما تقيدنا بأوامر الواجب.
من هنا فالتجربة والتفكير المرتبط بها هما اللذان يمارسان الرقابة على
الميولات الذاتية والغريزية، ويجعلانها خاضعة للأحكام الصادرة عن الواجب.
إن إلزامية الواجب إذن صادرة، حسب هيوم، عن دوافع خارجية، كما أنها ترتبط
بالمنفعة وبالنتائج المفيدة المترتبة عنها. وهو الأمر الذي سيرفضه إيمانويل كانط.
2- موقف
كانط: الواجب التزام حر، نابع من الذات وغير مشروط.
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن
العقل، فإنه لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، ولا يتصرف إلا طبقا لإرادته الخاصة. هذه
الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط
أو غايات خارجية.
ويرى كانط من جهة أخرى بأن الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس
عليها هذا الأخير نوعا من الإكراه، إلا أنه إكراه حر؛ مادامت الإرادة تخضع للقانون
الأخلاقي الصادر عن العقل من أجل مقاومة التأثير الذي تمارسه الميولات الغريزية من
جهة، ومن أجل المحافظة على كرامة الإنسان واحترامه من جهة أخرى.
ويميز كانط بين نوعين من الأوامر
الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية ترتبط بالنتائج التي تتطلبها الضرورات العملية،
فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من
أجل أن نكسب ثقة الناس، وأوامر أخلاقية قطعية أو مطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى
الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها؛ كأن نقول الصدق دائما لأنه
واجب أخلاقي صادر عن العقل العملي.
هكذا فالواجب المرتبط بهذه الأوامر
الأخيرة يتميز بكونه غير مشروط بأية نتائج منتظرة، فهو يحمل غايته في ذاته، كما
أنه ذو صبغة كونية وشمولية. وهو زيادة على ذلك يتسم بطابعه الصوري والعقلي المجرد.
وبالرغم من هذا الطابع الصوري
والكوني للواجب الأخلاقي عند كانط، فهو يعبر عن حرية الإنسان والتزامه بقوانين
كونية نابعة من العقل، كما يجعله يتصرف كما لو كان في نفس الوقت مشرعا وفردا في
مملكة الإرادة.
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي.
* إشكال
المحور: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ وأين يجد أساسه
ومبدأه؟ وكيف يتأتى للإنسان الوعي بالأوامر الأخلاقية ؟ وكيف له أن يميز بين الخير
والشر؟
1- موقف روسو: الفطرة كأساس للوعي الأخلاقي.
إن أساس الوعي الأخلاقي عند روسو هو مبدأ فطري يمكن الإنسان من التمييز بين
الخير والشر. وهذا المبدأ هو ما ينعته روسو بالوعي الأخلاقي الذي يصدر عن إحساس عميق
في النفس البشرية، يمكنها من إصدار أحكام على الأفعال ووصفها بالخيرة أو الشريرة.
هكذا فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس داخلي متأصل في الطبيعة الإنسانية، وهو
الذي يميزها عن طبيعة أي كائن آخر. وهذا ما يجعل الاجتماع البشري لا يتأسس فقط على
الحاجيات البيولوجية وضرورات العيش، بل يتأسس أيضا على الروابط الأخلاقية التي تجد
مرتكزها في الأحاسيس الفطرية التي تميز الكائن البشري، وتدله على ما هو خير وما
يسمح له بتأسيس علاقته مع ذاته ومع الآخرين في إطار أخلاقي وإنساني.
ويميز روسو بين معرفة الخير
ومحبته؛ فمعرفة الخير هي معرفة عقلية مكتسبة، لكن محبته هي نابعة من إحساس فطري
لدى الإنسان. من هنا فالوعي الأخلاقي عند روسو هو غريزة إلهية خالدة ومعصومة، وهي
الضامنة والمرشدة للإنسان بحيث تمكنه من التمييز بين الخير والشر، وتمنح أفعاله
صبغة أخلاقية متميزة.
وإذا كان روسو يؤسس الوعي الأخلاقي
على الفطرة والغريزة، فإنه يتجاهل الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف
وراء نشأة الوعي الأخلاقي. وهو ما أكد عليه مجموعة من الفلاسفة، ومن بينهم نيتشه.
[ ملاحظة: يمكن استثمار موقف كانط في هذا المحور الثاني، باعتبار أن
كانط يجعل مصدر الواجب في العقل ويؤسسه
على القانون الأخلاقي الصادر عنه...]
2- موقف نيتشه: يجد الوعي الأخلاقي أساسه في
العلاقات التجارية الأولى بين الناس.
لقد كشف نيتشه من خلال بحثه الجينيالوجي عن أصل الأخلاق ومنشئها، وأزاح
النقاب عن الأحداث التاريخية الأولى والحقيقية التي كانت وراء تبلور ما يسمى
بالوعي الأخلاقي.
هكذا فقد نشأ الوعي الأخلاقي في إطار علاقة تجارية بين الدائن والمدين؛ حيث
أن هذا الأخير عجز عن أداء ما عليه من دين للأول، باعتباره واجبا عليه، فعوض له
ذلك بخضوعه له وانصياعه لأوامره. من هنا فأصل الوعي الأخلاقي، وبالتالي أصل الخير
والشر، هو تلك القيم والواجبات التي وضعها الدائنون ليعاقبوا بها المدينين ويصبحوا
سادة عليهم.
إن العقاب في هذه الحالة لم يتخذ شكل تعويض مالي أو عقاري، وإنما اتخذ شكل
عقاب معنوي وأخلاقي. وقد ترتب عنه ظهور مبادئ وواجبات وأوامر يكون لزاما على
المستضعفين الخضوع لها من أجل المحافظة على حياتهم.
وهكذا وبدل تعويض الدين مباشرة، تم تعويضه بشكل غير مباشر عن طريق تخلي
المدين العاجز عن سلطة القرار لصالح الدائن، الذي أصبح منذ هذه اللحظة، وبفضل قوته
وجبروته، يصدر الأوامر ويمارس مختلف أشكال العقاب على من هم تحت سيطرته.
هذه إذن هي العلاقة التاريخية الأولى التي كانت وراء تشكل الوعي الأخلاقي،
في نظر نيتشه، غير أن العبيد والمستضعفين فيما بعد عملوا على قلب القيم الأخلاقية
ومنحوها معانيا جديدة تخدم مصالحهم.
← يتبين إذن، مع نيتشه، كيف أن الوعي
الأخلاقي ذو جذور تاريخية وتجارية؛ إذ أنه يجد مرتكزاته في الصراع الذي حصل بين
الناس حول المصالح الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فالإنسان لا يلتزم بالواجبات
الأخلاقية في ذاتها، كما لا تكتسي هذه الواجبات صبغة ثابتة ومطلقة، بل إنه يتوخى
النتائج النافعة المترتبة عن تلك الواجبات، مما يضفي عليها طابع النسبية والتغير.
وهذه الفكرة الأخيرة تقودنا إلى
إشكال الواجب بين المطلق والنسبي؛ فهل يرتبط الواجب بكل مجتمع على حدة فيتخذ طابع
النسبية، أم أنه مطلق ويتعلق بالإنسانية ككل؟
المحور الثالث: الواجب والمجتمع.
*إشكال
المحور: هل الواجب الأخلاقي هو مجرد صدى لصوت
المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل ؟ وهل هو خاص يتعلق بكل مجتمع على
حدة أم أنه كوني يتعلق بجميع الناس ؟ وهل الفرد ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم
بواجبات نحو الإنسانية أيضا ؟
1- موقف
دوركايم: الواجب الأخلاقي هو ترديد لصوت المجتمع.
[ملاحظة: يمكن استثمار موقف دوركايم أيضا في المحورين السابقين؛ حيث أن
دوركايم يقول بإلزامية الواجب الأخلاقي وخارجيته في حين أن كانط يقول بالالتزام
الصادر من داخل الذات. أما في المحور الثاني فإن دوركايم يحدد أساس الوعي الأخلاقي
في المجتمع أو ما يسميه بالضمير الجمعي...]
إن مصدر الواجب عند دوركايم هو المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد
ويؤثر فيهم. هكذا فلدى الأفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل
ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو
جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث
فيها تلك المشاعر والمعايير التي تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها
فعله وما يجب تجنبه. فالضمير الأخلاقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع، وهو يتردد
داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي، مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح
بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي.
لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع وبإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق
والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي
المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي إلى نوع من الصدام
الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب.
فهل يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى
مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية ؟
2- موقف
برجسون: من الواجب إزاء المجتمع إلى الواجب إزاء الإنسان.
يرى برجسون أنه بالرغم من أن المجتمع يتكون من إرادات فردية حرة، فإن هذه
الإرادات تؤلف في انتظامها جهازا عضويا يرسخ أنساقا من العادات الجماعية التي
تمارس إلزامها وسلطتها على الأفراد.
هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومي. ويتم خضوع
الفرد للمجتمع بنوع من الآلية والعفوية التي لا يكاد يشعر الأفراد خلالها بذلك
الضغط الممارس عليهم من قبل المجتمع. غير أن هذه الواجبات تتحول إلى عادات محدودة
وذات طابع سكوني ومنغلق، مما يحتم ضرورة، حسب برغسون، الانتقال بها إلى مجال
المجتمع المفتوح الذي هو الإنسانية ككل.
إن علينا واجبات نحو الإنسان كإنسان، كاحترام حياة الآخرين واحترام حرياتهم
ومعتقداتهم، ولذلك يجب ترسيخ قيم وواجبات كونية من شأنها أن ترسخ السلم والتسامح
بين كل أفراد بني الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.