الحقيقة
يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسيين
هما: الواقع والصدق. وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم والكذب. هكذا فالفكرة الصادقة
والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي. كما تعتبر الحقيقة كل
فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا. من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالات
متعددة: دينية وعلمية واجتماعية...الخ. وفي جميع الأحوال، فالحقيقة يتم التعبير
عنها دائما بواسطة اللغة والخطاب، والإنسان دائم البحث عنها، وهو يستخدم في ذلك
عدة وسائل وطرق. وغالبا ما يتم ربط الحقيقة بما يتم إنتاجه بالمناهج العقلية أو
التجريبية الصارمة، لذلك يتم التمييز بينها وبين الرأي الذي لا يتأسس على تلك
المناهج. لكن ما حقيقة التمييز الحاصل بين الحقيقة والرأي؟ هل يمكن الفصل بينهما
نهائيا؟ وكيف يمكن التمييز بين الخطابات
التي تعبر عن الحقيقة وتلك التي لا تعبر عنها؟ وما هي المعايير التي يجب اعتمادها
لتحديد ما هو حقيقي؟ وأخيرا لماذا نبحث عن الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها؟
1- الرأي والحقيقة:
عادة ما يتم التمييز في الفلسفة التقليدية
بين الرأي كمعرفة ذاتية ناقصة، وبين الحقيقة كمعرفة يقينية وموضوعية. فالرأي هو
«الاعتقاد المحتمل، لا الاعتقاد اليقيني، وهو وسط بين الشك واليقين». كما يحيل
الرأي إلى الاعتقاد الجماعي أو الاعتقاد الذي يشترك فيه الجمهور، ولذلك فهو يطابق
الآراء الشائعة لدى الحس المشترك. فالرأي إذن هو اعتقاد يعوزه اليقين، وهو يرد في
مقابل الحقيقة التي يفترض أنها يقينية ومبرهن عليها. إن الحقيقة غالبا ما ترتبط
بفئة خاصة هي فئة العلماء والفلاسفة بينما الرأي متاح للجميع، ولذلك فهو يأتي
كمرادف للحس المشترك، أي للآراء المتداولة بين الناس.
لكن ما يلاحظ هنا هو أنه توجد الكثير من الآراء
المتداولة تكتسي صبغة يقينية وحقيقية، بحيث يصعب على أصحابها الشك فيها، وبالمقابل
نجد الكثير من الحقائق سواء العلمية أو الفلسفية لها طابع احتمالي ويتم تفنيدها
وتجاوزها في الكثير من الأحيان. وهذا ما ينتج عنه نوع من التداخل بين مفهومي
الحقيقة والرأي، بحيث يصعب الفصل بينهما بشكل نهائي وقاطع. وهذا التداخل يدفعنا
إلى طرح التساؤلات التالية: كيف تتحدد العلاقة بين الحقيقة والرأي ؟ هل يمكن الفصل
بينهما نهائيا ؟ هل بينهما قطيعة أم استمرارية ؟ وهل يمكن الدفاع عن الرأي
باعتباره نمطا من أنماط الحقيقة ؟ ألا يمكن للرأي أحيانا أن يكون له دور مهم في
تشييد الحقيقة ؟
1-1-
الحقيقة
تتجاوز الرأي وتشكل قطيعة معه.
1-1-1- تصور أفلاطون: للوصول إلى الحقيقة ينبغي
تجاوز الرأي.
يذهب أفلاطون إلى أن طريق بلوغ الحقيقة هو
التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الآراء والمعتقدات السائدة، والارتقاء
إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة. هكذا فالحواس حسب أفلاطون
لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن
عامة الشعب، بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، وهي تعتمد على الجدل
الصاعد كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة.
إذن فإدراك الحقيقة من طرف الفيلسوف يقتضي
منه بالضرورة تجاوز الآراء السائدة لدى
الناس عن طريق استخدام التأمل العقلي الفلسفي الذي من شأنه تمكين الفيلسوف من بلوغ
الحقيقة الموجودة في عالم المثل، والتي تشكل قطيعة تامة مع الآراء السائدة والتي
تظل مجرد أوهام وأشباه حقائق.
1-1 -2 تصور باشلار: يمثل الرأي عائقا أمام بلوغ
الحقيقة.
يميز باشلار بين الحقيقة العلمية والرأي،
ويقر بتعارضهما؛ إذ يعتبر هذا الأخير عائقا إيبستمولوجيا يحول دون الوصول إلى
المعرفة العلمية الصحيحة.
وهكذا
اعتبر باشلار بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي،
ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في
تناوله للأمور. وهذا ما جعل باشلار يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي
والحقيقة العلمية، إذ تبنى معارف الفكر العلمي بناءا نظريا وعقليا. كما تخضع
لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة، تجعلها تختلف بشكل جذري عن الآراء
العامية السائدة في المجتمع.
وفي هذا السياق يرى باشلار أن الفكر العلمي لا يتناول سوى القضايا التي
يستطيع البرهنة عليها، كما أنه لا يطرح سوى الأسئلة التي يمكنه الإجابة عنها. وهذا
ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على قواعد العقل العلمي، في حين يسمح الرأي
لنفسه بالاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل، حتى تلك التي لا يقوى على الإجابة
عنها أو التدليل عليها.
أمام كل هذا وجب حسب باشلار تخطي الرأي والعمل
على هدمه، حتى لا يشكل عائقا أمام بلوغ المعرفة العلمية الصحيحة.
1-2-
الرأي
يتداخل مع الحقيقة ويصعب الفصل بينهما:
إذا كان الكثير من الفلاسفة قد عملوا على
تبخيس الرأي واعتبروه عائقا أمام الوصول إلى الحقيقة، مثل أفلاطون وديكارت
وباشلار، فإن هناك بعض الفلاسفة الآخرين حاولوا إعادة الاعتبار للرأي باعتباره
يشكل معرفة ويلعب دورا مهما في تطوير المعرفة البشرية، كما بينوا أن الكثير من
الآراء السائدة تكتسي صبغة يقينية ويصعب الشك فيها. ويمكن أن نشير في هذا الصدد
إلى موقفين:
1-2 -1 تصور لايبنتس: للرأي دور مهم في تطور المعرفة البشرية.
يقول لايبنتس (leibnitz): «إن الرأي القائم على
الاحتمال قد يستحق اسم معرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من
المعارف».
وانطلاقا من هنا نجد لايبنتس يدافع عن الرأي
القائم على الاحتمال، ويعتبره معرفة يمكن الاعتماد عليها. فليس كل المعارف تمتلك
اليقين المطلق، بل أغلبها يقوم على الاحتمال. فالبحث عن درجات الاحتمال في معرفة
ما سيفيدنا ولا شك حينما لا نستطيع أن نجزم
في مسألة ما بكيفية قطعية.
وقد لعب الرأي القائم على الاحتمال دورا
انقلابيا في تاريخ الفكر البشري، والدليل القوي على ذلك مثلا الآراء العلمية التي
قدمها كوبرنيك؛ فرغم كونها مجرد احتمالات في حينها إلا أنها شكلت فيما بعد ثورة
علمية حقيقية في تاريخ العلوم.
1-2 -2 تصور فتجنشتين: هناك آراء تكتسي صبغة
الحقيقة.
يرى فتجنشتين أن هناك اعتقادات نؤمن بها دون
أن نبرهن عليها عن طريق الاستدلالات العقلية أو التجارب العلمية، بل هي حقائق
ترسخت لدينا كمعارف متضمنة في اللغة التي نتعلمها خصوصا ونحن صغار.
فنحن نجد أن هناك أفكار ومعتقدات يتلقاها
الطفل من خلال تعلمه للغة، ويضفي عليها نوعا من الإيمان بحيث لا يكلف نفسه عناء
التفكير في صحتها. وكمثال على ذلك الاعتقاد بأن هناك جزيرة تدعى أستراليا، أو أن
لدي أجدادا، أو أن هؤلاء هم والداي. فالطفل حسب فتجنشتين يتعلم مجموعة من
الاعتقادات من الراشدين، كما يقبل ببعض الحقائق المتداولة دون أن يكون بإمكانه
الاستدلال عليها، فقط لأن المجتمع يقبل بها؛ كأن يعتبر الطفل أن ما هو مكتوب في
مقررات الكتب المدرسية حقيقي، لأنه يعتبر أنه تم التأكد منها مئات المرات.
وهنا يتحدث فتجنشتين عما يسميه "صورة
العالم"؛ أي مجموع الاعتقادات والآراء التي ترسخت لدي حول العالم، والتي
أعتبرها منطلقا وأساسا لكل ما أبحث عنه فيما بعد. وكل القضايا التي تريد وصف تلك
الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق؛ فأثناء كل تحقق نفترض أن هناك شيء ما لا يمكن
التحقق منه.
وعلى العموم فالتأمل في مجالات الدين والأخلاق والسياسة
وأشكال التواصل الإنساني عموما، يبين أن هناك الكثير من الآراء التي تكتسي صبغة
الحقيقة بالنسبة لأصحابها، بحيث يصعب إقناعهم بالتخلي عنها أو الشك في صحتها. كما
يبين أن بعض الآراء يكون لها دور كبير في تحريك السلوك البشري ورسم غاياته وآفاقه،
فضلا عن دورها في ردع الكثير من الشرور التي قد تلحق الجماعة البشرية. فاعتقاد
المسلمين مثلا في عذاب القبر والحساب والعقاب في اليوم الآخر والجنة والنار... هو
شكل من أشكال الرأي الذي يسمو عند صاحبه إلى درجة اليقين المطلق، ويكون له تأثير
كبير في مواقفه وسلوكاته العملية وعلاقاته بالآخرين.
ويمكن القول
أيضا بأن استطلاع الآراء في مجال البحوث الإنسانية والاجتماعية قد يمثل وسيلة
أساسية لإنتاج المعرفة المتعلقة بالظواهر الإنسانية.
أما في مجال
السياسة، فإن أصوات الناخبين لا تعدو أن تكون آراء تصدر عن هذا الفرد أو ذاك، وقد
يكون لها دور خطير في فوز حزب أو تشكيل حكومة أو تغيير نظام سياسي برمته ...
وهذا ما
يجعلنا نخلص إلى أن هناك تداخل بين الحقيقة والرأي؛ بحيث قد يتضمن الرأي قدرا
كبيرا من الصواب والحقيقة، وقد يكون له دور إيجابي ومحمود في مجال التواصل
الإنساني. وبالعكس، فإن ما يقال عنه أنه "حقيقة" في مجال العلوم الدقيقة
أو الفلسفة قد يعتريه القليل أو الكثير من الأخطاء أو الثغرات، مما يحتم ضرورة
نقده ومراجعته وتجاوزه.
2- معايير
الحقيقة:
المعيار هو المقياس الذي ينبغي أن يكون عليه
الشيء، وهو القاعدة التي نصدر من خلالها حكمنا عليه. إن المعيار إذن هو مقياس
للحكم على الأشياء، وإذا طبقناه على مفهوم الحقيقة يمكن أن نتساءل: ما هو المعيار
الذي يجعلنا نحكم على فكرة ما بأنها حقيقية
؟ هل هو معيار مادي أم صوري ؟ تجريبي أم عقلي ؟ وهل هناك معيار كوني للحقيقة ؟
2- 1 تصور
ديكارت: معيار الحقيقة في بداهتها أو انسجامها المنطقي.
تتعارض الحقيقة عند ديكارت مع الرأي، إذ
أنها تعتمد على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن اختصارها في أربع قواعد
رئيسية: البداهة، التحليل، النظام والمراجعة. وتتأسس الأفكار البديهية على مبدأ
الحدس، في حين تتأسس الأفكار الأخرى على مبدأ الاستنباط. هكذا يحدد ديكارت للحقيقة
معيارين رئيسيين هما: البداهة والانسجام العقلي.فهناك أفكار واضحة متميزة في الذهن
تدرك إدراكا حدسيا مباشرا، ولا يحتاج العقل لإثبات صحتها إلى براهين وأدلة عقلية،
ولذلك فمعيار صحتها في بداهتها؛ بحيث يمكن القول هنا مع ديكارت بأن كل فكرة بديهية
فهي فكرة حقيقية، كأن أدرك أنني موجود أو أن المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع أو أن
الكل أكبر من الجزء. وهناك أفكار نحتاج لإثبات صحتها إلى الاستدلال عليها عقليا،
بحيث نستنبطها من الأفكار البديهية الأولية، ولذلك فمعيار صحتها يرتبط بمدى
انسجامها المنطقي ومطابقتها لقواعد العقل ومبادئه. ولذلك فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق
الاستنباط لا تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، ما دامت صادرة عنها
بواسطة حركة فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية.
وهكذا فالحدس والاستنباط هما أساس المنهج المؤدي
إلى الحقيقة. وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أولا في البداهة المرتبطة بالحدس؛ إذ أن
كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي الخالص، كما يتحدد هذا
المعيار ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالاستنباط؛ إذ أن كل فكرة منسجمة
منطقيا ومتطابقة مع قواعد الاستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية. وينبغي
الإشارة هنا إلى أن معيار البداهة عند ديكارت هو معيار كوني؛ إذ أن الأفكار
البديهية هي بديهية بالنسبة لجميع العقول، خصوصا وأن ديكارت يعتقد أن العقل أعدل
قسمة بين الناس وأنه يحتوي على أفكار أولية وفطرية معيار صحتها في بداهتها، أي في
وضوحها وتميزها.
2- 2 تصور
جون لوك: معيار الحقيقة في مطابقتها للواقع التجريبي.
يرفض جون لوك معيار البداهة الذي قال به
الفلاسفة العقلانيون كديكارت واسبينوزا، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار أولية
وفطرية في العقل. هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة بيضاء وأن التجربة هي التي
تمده بالمعارف والأفكار. من هنا فالتجربة هي المعيار الأساسي والوحيد
للحقيقة. فالحواس تمدنا بالأفكار البسيطة كالامتداد والشكل والحركة، ثم يعمل العقل
على التأليف بينها لإنتاج الأفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية واللامتناهي. هكذا
فكل أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تمنح لأفكارنا الصدق والحقيقة. وإذا تعذر
إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة. فمعيار الحقيقة
إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي. ويبدو أنه يتعذر وجود معيار كوني للحقيقة
التجريبية مادام أن تجارب الناس مختلفة ومتعددة، وهو ما ينعكس على تصورهم لموضوع
الحقيقة ومعاييرها.
ويتساءل إيمانويل كانط: هل هناك معيار كوني
ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟
وفي إطار إجابته عن هذين السؤالين، رأى كانط
أنه لا يمكن أن يوجد معيار كوني ومادي للحقيقة لأن الحقيقة المادية هي تلك
المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر معه وجود
معيار كوني لها. وبالمقابل يرى كانط أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري
للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في مطابقة المعرفة لمبادئ العقل وقواعد المنطق.
3- قيمة
الحقيقة بين ما هو مطلق وما هو نسبي:
جاء في معجم جميل صليبا ما يلي:
« القيمة تطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته... وقيمة
الشيء من الناحية الذاتية هي الصفة التي تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه...
ويطلق لفظ القيمة من الناحية الموضوعية على ما يتميز به الشيء من صفات تجعله
مستحقا للتقدير».
ومن هنا فالحديث عن قيمة الحقيقة يتعلق أساسا بخصائص تتميز بها
الأفكار تجعلنا نهتم بها ونرغب فيها. ولهذا يحق لنا التساؤل: ما الذي يجعلنا نرغب
في الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها بالنسبة لنا؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أنها مجرد
وسيلة لإشباع حاجات أخرى؟ وهل للحقيقة قيمة أخلاقية سامية ومطلقة أم قيمة نفعية
نسبية؟
3- 1 التصور
التقليدي: للحقيقة قيمة نظرية وأخلاقية مطلقة.
يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلاسيكية أنه كانت
للحقيقة قيمة نظرية مطلقة، وأنها كانت منشودة لذاتها؛ فالفلسفة عند اليونان كانت
بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأية أغراض أو مصالح أخرى. وقد جسد سقراط في
حياته هذا الأمر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى الإعدام
وهو متشبث بالحقيقة، وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.
وفي
نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة أخلاقية عليا ومطلقة وغير مشروطة. وهي بذلك
تنشد لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة. فالصدق واجب
في ذاته، ويجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط «لأن
الكذب مضر بالغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر الإنسانية قاطبة،
مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية».
3- 2 التصور
المعاصر: للحقيقة قيمة نسبية.
لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة
المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والإنتاج، والالتصاق بالواقع
الإنساني. من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة، وقيمة نسبية ومتغيرة من
جهة أخرى. وفي هذا الإطار يمكن تقديم التصور البرغماتي الذي يمثله وليام جيمس W. James :
تكمن قيمة الحقيقة حسب الموقف البرجماتي
المعاصر الذي يمثله وليام جيمس في كل ما هو نفعي، عملي ومفيد في تغيير الواقع
والفكر معا. من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات
حيوية أخرى. والأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها
واقعيا، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة.
وعموما، يرى وليام جيمس، أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على
الأشياء؛ فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود مثلما نخترع الأجهزة الصناعية
للاستفادة من قوى الطبيعة.
وهكذا يقدم لنا وليام جيمس تصورا أداتيا
للحقيقة، أصبحت معه هذه الأخيرة مجرد أداة للعمل وتحقيق منافع مختلفة قد تتغير
بتغير الظروف والأحوال، مما يعطي للحقيقة طابعا نسبيا ومتجددا.
أما فريدريك نيتشه فقد اعتبر
أن ما كان يعتقده الناس لأزمان طويلة على أنه حقائق مطلقة ومقدسة إن هي في واقع
الأمر إلا أوهام نسي الناس لطول العهد أنها كذلك، والوهم أخطر من الخطأ لأن الخطأ
يمكن اكتشافه وتصحيحه بينما الوهم ينتج عن الرغبة. وللوهم في نظر نيتشه مصدرين
أساسيين:
المصدر الأول: يتمثل في حاجة
الإنسان إلى الهدنة والسلم الاجتماعيين من أجل الحفاظ على بقائه، لذلك نجد الإنسان
يتحايل مستعملا عقله للإخفاء والكذب والتمويه، ليس من أجل الكشف عن الحقيقة بل من
أجل إخفائها وحماية الذات من البطش.
المصدر الثاني: يتمثل في اللغة
التي هي عبارة عن استعارات وكنايات ومجازات عن الواقع، لذلك فهي تحجب عنا الحقيقة
الفعلية للأشياء. وهكذا تلعب اللغة دور إخفاء حقائق الأشياء لا الكشف عنها، وهو
الأمر الذي يؤشر على الارتباط القوي الموجود بين الحقيقة والوهم وصعوبة الفصل
بينهما بحيث أن الفرق بينهما هو فرق في الدرجة فقط ما دام أن هناك درجة من درجات
الوهم نعتبرها حقيقية ودرجات أخرى نعتبرها أوهاما.
وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بضدها الذي هو الوهم من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى، وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة في ذاتها بل يطمع في العواقب الحميدة التي تنجم عنها.
وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بضدها الذي هو الوهم من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى، وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة في ذاتها بل يطمع في العواقب الحميدة التي تنجم عنها.